الحراك التراجيدي المتصاعد في منطقة الشرق الأوسط، يدفع بنا اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى طرح تساؤلات عدّة حول أسباب نشأة هذا الحراك ، والمسار الذي اتخذه، والعناصر التي أدت بطريقة مباشرة/غير مباشرة إلى الوصول به إلى ما هو عليه. وغيرها من التساؤلات التي لربما تعطي لنا صورة واضحة قد تقربنا أكثر إلى الحقيقة، بعيدا عن البديهيات أو المعطيات المطروحة وإن كانت هذه المعطيات حقيقية، لكنّ تطوّر الحراك إلى ما هو عليه -بغض النظر عن السلبية والإيجابية- يُوجب علينا، أكثر من أي وقت مضى، البحث عن ما هو أكثر من المعطيات.
في البداية، هل كان الحراك محض صدفة؟ أم أنّ الظروف التي أسهمت وبصورة أساسية إلى تكوين عناصره التي بدورها كانت في انتظار الأدوات المناسبة للتفعيل، كانت متواجدة؟ وتنتظر الظروف المواتية للتفعيل؟ وكذلك، العديد من الأسباب أدّت إلى تراكمها، لتصل فيما بعد إلى مرحلة انطلاق الشرارة -وإن انحصرت في منطقة جغرافية معينة- إلا أنها كانت كافية لإشعال نيران هذا الحراك، الذي بدوره زحف إلى دول أخرى.
سأتناول الظروف التي كانت عليها الأوضاع قبل الحرك، وهي الاستبداد والطغيان السياسي، الذي نشأ تحت مظلته فساد استشرى في جسد الأنظمة التي سقط بعضها أو خلع، هذا الفساد استشرى لدرجة تزايدت فيها البطالة، وارتفعت مستويات الفقر إلى درجات غير معهودة بين فئات المجتمع. كما أنّ ما يمكن أن نسميه بــ “الحسّ الحكومي” كان بعيدا عن هموم الشارع ومشاكله ومعاناته، وإن كانت الأنظمة هي المتسبب الرئيسي إلى ذلك بسبب الفساد الذي رعته وحمتـه، والذي بدوره أعطى لفئات محدودة من الحكومة ورجال أعمالها التحكم في سوق العمل بطريقة خلقت لا مساواة مفرطة، وقضت على أي ملامح للعدالة. وذلك لم يحدث لولا الغطاء الحكومي أو القانوني اللازم لتسهيل توسيع قبضة رجالات أعمال الحكومة، أو حتى الأسر والعائلات الحاكمة، على منافذ الحياة الاقتصادية للبلدان. هذه الظروف، ومع متغيرات العالم والطفرة التكنولوجية التي نشهدها، وحرية وسهولة الوصول إلى المعلومة التي لطالما أسهم إعلام الأنظمة إلى إخفائها أو التلاعب بها وتقديمها منقوصة، وغيرها من الظروف النفسية المتعلقة بالقهر والحقد والغضب، عملت على تأجيج الأوضاع لتكون كقنبلة موقوتة، وكل الظروف والعوامل كافة التي تمّ ذكرها أسهمت في انفجارها!
ثانيا، هل كانت السلطات في غفلة من كلّ هذا، في غفلة عن كلّ العوامل التي أسهمت في وصول الأوضاع إلى ما هي عليه حتى أدت للانفجار؟
السلطات، وعبر أذرعتها الأمنية، لعبت دورا مهما في ترضيخ/تركيع مواطنيها. وإن اختلفت أساليب الأنظمة من النعومة التي تماثلت في الترغيب والترهيب والتحايل على الأصوات القليلة جدا عبر استمالتها وكسبها إلى صفها، حتى الأكثر حدّة التي تمثلت في الخطف والتعذيب والتغييب وأحيانا القتل. هذا التركيع لعب دور “العصا المنبّه” لأي فرد يسعى ولو خيالا إلى الاعتراض على أي اجراء حكومي أو قانوني ما..إلخ، ولطالما نجحت هذه العصا في ترهيب الأفراد في عدم القيام بأي شكل من أشكال الاحتجاج، ليس فقط كتابة أو قولا، بل وحتى همسا. ولربما هذا ما أكسب الحراك نوعا ما عنصر المفاجأة في توقيت حدوثه، أو بصورة أكثر دقة، حدد وقت انفجار القنبلة الموقوتة!
أضف إلى ذلك، التغلغل العميق الذي مارسته السلطة في المجتمعات، مستغلة تحكمها المطلق في كافة مؤسساته، سواء الرسمية أو الأهلية. فالسلطة تملك مثقفيها وإعلامييها، وتكاد أغلب الدول العربية؛ مؤسسات الإعلام فيها صناعة حكومية إن لم تكن مؤسسات تابعة لها. مارس هؤلاء دورا تضليليا بارزا عبر تقديس الحاكم والحكومة، والتبرير للأخطاء المباشرة أو المرحلية التي اتضحت في فشل الخطط التنموية. نجحت هذه المجموعة إلى حد ما، في تغليف الثغرات والأخطاء، وتقديم أي انتقاد لشخص الحاكم أو أداء الحكومة، على أنه انتقاص من هيبة الدولة، ومشروع فتنة الهدف منه شق وحدة البلاد. وكذلك، تغلغلت السلطات في مكونات المجتمع القبلية والطائفية والدينية والمذهبية، لتستميل الرؤوس إلى جانبها، حتى إذا ما ظهرت ملامح تهديد حقيقي لصورتها -وليس حتى لوجودها ككيان إداري- دفعت بهذه الرؤوس للقيام ما عجز عنه مثقفوها وإعلاميّوها عن تحقيقه. ولعل التغلغل الأخير أكثر فاعلية، ذلك أنه تمثّل في وظائف كبيرة ومميزات مثل العقود التجارية والأراضي والدراسة والعلاج وغير ذلك.
ثالثا، المجتمع الدولي، هل كانت حكومات المجتمع الدولي جاهلة بحقيقة الأوضاع داخل البلدان العربية أو الشرق أوسطية؟ أم أنها كان غير مبالية حفظا لمصالحها الاقتصادية؟. وهل حقا، حكومات الغرب لا تريد للشرق الأوسط النهوض في حياته المهنية والعلمية والاقتصادية؟
من المستحيل طبعا جهل حكومات الغرب بالأوضاع المحلية لكل بلد، خاصة إذا ما تحدثنا عن أمريكا وأكبر دول أوروبا من الناحية السياسية، خاصة وأنها أسهمت في وجود أنظمة الأسر الحاكمة حاليا، على وجه الخصوص في منطقة الخليج العربي. ولكنّ هذه الأنظمة، وإلى جانب الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، وخدمة لمشاريع سياسية واضحة/مجهولة، فإنها موافقة على ماهو عليه. ولعلّ تجربة مثل العراق وأفغانستان أعطت رسالة واضحة أن التدخلات التي أتت عن طريقها أدت في النهاية إلى المزيد من الدمار والخراب. وهو ما تمثل في الدفع بأنظمة عربية في الوقت الحالي، إلى القيام بعمليات عسكرية داخل أراضي عربية شهدت ثورات، مثل ليبيا، أو ما سمي بـ”عاصفة الحزم” في اليمن. وأنّه من الأجدى دعم حكومات مستبدة تحافظ لها على مصالحها السيادية أولا والاقتصادية ثانيا، وتحفظ أمن البلد واستقراره بما يخدم مصالحها كذلك مما يوفر بيئة إقليمية آمنة نوعا ما. هذا فيما يخص معرفة دول الغرب عن أوضاع منطقة الشرق الأوسط على ما كانت عليه حتى 2011، مع استثناء بعض المناطق مثل العراق والمناطق الحدودية بين الأراضي المحتلة الفلسطينية ولبنان.
إلا أن الثورات التي حدثت في تونس ومصر وليبيا، والحراكات الاحتجاجية التي شهدتها بعض دول المنطقة وعلى رأسها البحرين، كان كفيلا بإرغام بعض الأنظمة الغربية المتنفذة، إلى البحث عن خطط بديلة تتناسب مع الأوضاع الراهنة، بما يعطيها الفرصة إلى التحكم في اتجاهها كأبعد تقدير. ولذلك، إن كان ما يسمى بالثورات المضادة صناعة عربية لأنظمة خليجية تسعى إلى الإبقاء على حظوظها مرتفعة في الاستمرار على مقاعد الحكم كأسر حاكمة أطول فترة ممكنة، سواء عبر استمالة أنظمة أخرى أو تقديم وتجهيز شخصيات معينة داخل الأنظمة تتناسب مع سياساتها، أو تمويل عدد من الحركات الجهادية من أجل تحريف مسار الثورات والتشويش على ماهيتها، والقضاء على أسباب نشأتها؛ إلا أن الأنظمة العربية ووفق التجهيزات الاستخباراتية التي تملكها، لا أعتقد أنها قامت بهكذا أمور وحيدة من غير دعم وحتى تخطيط لأنظمة غربية معينة، لها مصالحها السيادية والاقتصادية من بقاء هذه الأنظمة الخليجية، وكذلك القضاء على ملامح أي حراك احتجاجي مقبل عبر تشويه الحالي.
في الخلاصة، الحراك الذي يبدو للكثير أنه ذاهب إلى نهايته، أو بصورة أدق، إلى الهاوية، وذلك بالأخذ في الاعتبار كافة الأساليب التي اتبعتها الأنظمة المحلية أو الدولية المستفيدة من نهايته عبر توظيف المال والإعلام للقضاء عليه وتحريف مساره، وتشويه أهدافه وأسس نشأته، مثل الأمثلة التي ذكرتها سابقا، إلا أنه لن ينتهي بالصورة التي تتمناها له هذه الأنظمة أن ينتهي، وتراكمات التشويه والقتل والإسراف في التلاعب بمستقبل الشعوب، أو تكريس الظلم ضد فئات محددة بعينها في المجتمعات، سيصل في مرحلة ما، إلى انفجار جديد، حتى أكثر الناس تشاؤما، لم يكن ليتوقع هول نتائجه!