لعّل أكثر الأدوار رعبًا هي تلك التي نراها بين حين وآخر على شاشات التلفاز، والتي يمثّل الظالم فيها دور المظلوم، والمجرم دور المجني عليه. أمّا نحن، فننقسم بين مبرّرٍ وشاجبٍ ومستنكر أو آخرين محتفلين. الإرهاب له أديانه وليس دينًا واحدًا وحسب، إذ تتراوح فاعلية الأديان في الإسهام الإرهابي بأكثر من 95% في الأعوام الخمسين الأخيرة مقابل نسبة ضئيلة لا تنتمي لأي ديانة. وتتفرّق أشكال أعمال الإرهاب بين أعمال فرديّة يكون الفاعل فيها شخصًا منتسبًا بشكل أو بآخر لدين ما، وبتحفيز داخلي من شعوره بالواجب الديني الدفاعي أو الشعور بالمظلومية وهو ما يجعله يقوم بفعل يراه عملا ملحّا جدًا غير قابل للتأجيل، أو أقله لا بدَّ منه. وبإمكاننا إسقاط ذلك أيضًا على “جماعة” ما كتنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة وبوكو حرام وجهة النصرة، أو “طائفة” بأكملها كتلك الممارسات الإرهابية التي كانت تقوم بها الطائفة الكاثوليكية في إيرلندا وكرواتيا، أو دينٍ بأسره كالممارسات اليهودية تجاه الفلسطينيين أو المسيحية تجاه الدول الأفريقية المستَعمرة باسم الحروب الصليبية والتبشير أو تلك الممارسات الإسلامية تجاه العالم –دين أو شعب- تحت اسم الفتوحات الإسلامية أو الحاكمية أو الغلبة لله أو الجهاد. بل إنَّ الإرهاب لا يقتصر على الديانات الإبراهيمية وحسب، بل يشمل الجميع بما فيها الوضعيّة أو الأرضية أو السلوكية الفلسفية، فكما أسلفنا؛ فالحافز لا يختلف باختلاف العدد أو الشكل.
يكتفي الكثير من المؤمنين على اختزال تلك الأعمال الإرهابية في عوامل بيئية وثقافية وسياسية ونفسية فقط، فنادرا جدًّا أن ترى توصيفًا دقيقًا لتلك الأعمال، ولو أخذنا على سبيل المثال؛ المؤمن السعودي المجاور لبيت الله والمقدسات الإسلامية من مسجدٍ نبوي ومقام إبراهيمي وحجرٍ فردوسي، كمدخلٍ لدراسة هذا الظاهرة المنتشرة بشّدة في ذلك المجتمع وعلى سبيل المثال لا الحصر، إذ إن المجتمع السعودي مجتمع أراه الأفضل للمقارنة ولطرح الأمثلة، وبلا شك، فالأمثلة تضرب ولا تقاس، في كثير من الأحيان.
يرى الأستاذ الدكتور صالح السدلان أن أسباب الإرهاب تقتصر على النواحي السياسية والفكرية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والتربويّة. فالأسباب السياسية كما يراها هي البعد عن الله وعن تطبيق الشريعة والإحباط السياسي الذي تعانيه البلدان العربية من خلال تهميشها للجماعات الإسلامية وعدم الاكتراث لها ومحاربتها والاعتماد على مصادر أخرى غير الشريعة الإسلامية كالعقول المجردة والفاسدة والمنطق والفلسفات الكلامية وانتشار المظالم والتحزّبات السرية والاستعمار[1].
ولعّل أكثر ما يدعو للسخرية حقًّا هو أن الكاتب يسكن في أكثر الدول الإسلامية تطبيقًا للشريعة الإسلامية دستورًا وقانونًا ومنهجًا في شتى المجالات، كما أنَّ الجماعات الإسلامية تحظى بشعبية كبيرة واحترام وإجلال ودعم مالي وإعلامي غير منقطع، وشهرة عالميّة في شبكات التواصل الاجتماعي لعلَّ أهمها محمد العريفي الذي تجاوز عدد متابعيه الخمسة عشر مليونًا، كما أنَّ الجماعات الإسلامية تحظى بسلطة تشريعية وتنفيذية مطلقة في كثير من الأحيان، كالمفتي وهيئة الأمر، وهي – السعودية – لا تعتمد على العقول المجردة الفاسدة ولا المنطق أو الفلسفات الكلامية في القرار، بل إنَّ السلطة مقسّمة بين رجال الدين والسلطة الحاكمة، وهي دولة لا تمتلك مؤسسات ولا جامعات تدرس المنطق أو الفلسفة، فهي دولة تنتهج مذهبًا سلفيا أصوليا أشعريا مبني على النقل وبعيد كل البعد عن الجانب الفلسفي والتوجه المعتزلي أو الصوفي أو أي تيار مخالف. كما أنّنا لا يمكننا الادعاء بوجود المظالم أو على الأقل بانتشار المظالم، على افتراض أن الحكم لله ولشرعيته، وهي دولة لم تستعمر من أكثر من قرن ولا يوجد بها تحزّبات سرية. الأمر الذي يجعل العاقل يسأل عن المنطلق والمعطيات التي يتحدث فيها الكاتب، فلعلّه غفل عن حقيقة أمرٍ مخجل جدا يجعل منطقه معطوبًا؛ ألا وهو أن الفرد السعودي هو المصدر الأول للإرهاب الإسلامي حسب الإحصائيات الأخيرة لمجلة الإيكونوميست التي تؤكد أنَّ أكثر الأفراد المنخرطين في الجماعات الإرهابية هو الفرد السعودي. فمع وجود حكم الشريعة الإسلامية وسلطة رجل الدين والابتعاد عن الفلسفة والزندقة والجماعات السرية إلّا أن السعودية لم تنهِ مسلسل الإرهاب المادي ولا حتى الإرهاب الفكري المنتشر في العقول السلفيّة الممتلئة بالتوحيد وحب الله والرسول والصحابة. إذ ينقسم أولئك الذين لا يقترفون الأفعال الإرهابية بين صامت أو متشفٍ. ولعلَّ الولائم والذبائح التي حدثت في يوم الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 في بعض أوساط المجتمع والتي لا تضاهيها ولائم في تاريخ السعودية بأكمله نتيجة قتل ثلاثة آلاف كافرٍ خيرُ دليلٍ على ذلك الإرهاب المنخمد.
يذكر الباحث عددًا من الجوانب الفكرية التي تسهم في خلق الإرهاب ، إذ يحصرها في الجهل بقواعد الإسلام وآدابه وسلوكه، والجهل بمقاصد الشريعة والغلو في الفكر ويختم بتقصير أهل العلم في النصح والإرشاد. مجددًا يقع الباحث في مغالطة كبرى، ويلزمنا بطرح أسئلة تعجبيّة أكثر من كونها استفهامية؛ فعن أي جهل يتحدث في ظل وجود أكثر من خمسين جامعة إسلامية تتقاسم السعودية النصيب الأكثر فيها، وعن أي جهل يتحدث في ظل وجود الآلاف من شيوخ الدين والقائمين بأعمالهم على أكمل وجه، وأقصد هنا على أكمل وجه هو عدم تذمر الأوساط السعودية أو الحكومة تجاه أعمالهم مما يستدعي بداهة الاستنتاج بوجود حالة من الرضا، وأخيًرا ينتقد الباحث غياب الدور الإرشادي. وتلك مناورة فكرية وهروب من المسؤولية في تقديم الإجابات المقبولة وخطاب سردي بعيد كل البعد عن التحليل العلمي؛ إذ إن الباحث لو انتقد الدور الإرشادي المتمثل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نقدًا أكاديميًّا منهجيا لكان بذلك لا يكون قد وضع العربة أمام الفرس، بل بالعكس تمامًا، ولأمكننا القبول جدلًا والتسليم بتقصير تلك الجهات المسؤولة؛ فهنا يحتم علينا الحديث عن أمرٍ جلل، وهو فساد هيئة بأكملها في تقديم النصح والإرشاد والتوجيه الذي يعد الأمر الرئيس المناط القيام به في دولة ثيوقراطية الملبس والمأكل. فالقول بالتقصير في ظل انتشار رجال دين منتسبين لهيئة إرشادية أو وعظيه أو متطوعين غير مقبول تمامًا لاستحالة وجود تقصير يلّمُ بمؤسسة بأكملها سوى في الأفلام البوليوودية وهو نقد غير أخلاقي تمامًا علاوة على كونه غير ممنهج. ومن هنا يمكن الاستدلال بتلك الجملة التي انتشرت في الآونة الأخيرة كتبرير وتوصيف لما يحدث في البلدان الإسلامية بالاكتفاء بالقول الشهير: نحن لا نطبق الشريعة الإسلامية، ولو طبقنا لما كان ما كان، نعم هناك مليار ونصف مسلم يقولون الجملة ذاتها الأمر الذي يستدعي سؤالًا اعتباطيًا لا يبحث عن إجابة وهو: من يطبّق الشريعة الإسلامية؟
أمّا الأسباب النفسية فقد حصرها الباحث في حب الظهور والشهرة، أي أن الشخص على حسب قوله “ليس مؤهلًا فيبحث عما يؤهله باطلًا”. الأمر الذي يضعنا مجددًا في مأزق شديد وتساؤلاتٍ ملحّة؛ فهل حقًا يبحث من يحمل حزاما ناسفا يوشك على تفجير نفسه في سوق مزدحم عن شهرة؟ وهل وحدهم الأشخاص غير المؤهلين –يشير الباحث إلى غير المؤهلين أي غير المتعلمين أو غير الناجحين- من يقومون بتلك الأعمال الإرهابية؟ ما نعرفه أن القاعدة كانت مؤهلة وبشكل تام إلى اختراق مخابرات أقوى دولة أمنيّة في العالم، فمن المحال أن تنجح طبقة غير مؤهلة على الاستيلاء على طائرات واختطاف مدنيين وتفجير أبراج، كما أنَّ ابن لادن لم يكن راعيَ غنم بل مهندسًا مدنيّا، ومما لا شك فيه أن تنظيم الدولة الإسلامية يملك في صفوفه من يملكون شهادات علمية ومن جامعات أوروبية عريقة أيضًا. لعلَّ الباحث غفل عن هذا كله.
ثم يذكر الباحث عامل الإحباط، أي أنّه لا مأوى للمحبطين سوى الالتحاق بتنظيمات إرهابية. مجددًا التحليل غير موفق؛ إذ إن عامل الإحباط قد يرمي بالشخص إلى اتخاذ سلوكيات محددة لعل آخرها وأندرها هو الانخراط في الجماعات الإرهابية، إذ إن الإحباط عامل يساعد على اللجوء إلى الإدمان وتعاطي الخدرات أو التدخين، أو سلوكيات شاذة، وفي أحسن الحالات، يقدِمُ المحبط على التعالج من إحباطه. ومن العوامل الأخرى التي ذكرها الباحث أيضًا هو اكتساب الفرد لسلوكيات سلبية من خلال البيئة المحيطة به، مما يجعل تلك السلوكيات عاملًا فعّالًا في تكوينه وتركيبه النفسي، وتلك نقطة يدين بها الباحث الدين الإسلامي أكثر من تبرئته.
“إن أكبر عامل اجتماعي، يؤثر على التنشئة السليمة للفرد، ويشجع على خلق خلايا إرهابية هو ظهور التناقض في حياة الناس بين ما يجدونه من مفارقات عجيبة وبين ما يسمعون وما يشاهدون، وما يقرأه المرء وما يراه وما يتعلمه وما يعيشه”، وهذه نقطة يدين فيها الباحث بشكل مباشر الدين الإسلامي الذي يحاور في رسالته أن يبرئ ساحته، من النواحي الميثيولوجية والتاريخية أقلّه، حيث إن أي فرد سوي متعلم يحتم عليه بطبيعة الحال بحسب اطلاعه وفكره أن يتساءل ويشكك في ما بين يديه، ولعل أبرز ذلك هو معضلة ترجيح كفة المعرفة العلمية أو المعرفة الدينية، وذاك أمر لا يدعو إلى التفكير في الانضمام إلى جماعات إرهابية، بل بالعكس تمامًا، يجعلك باحثًا جادًا عن الحقيقة.
في الدراسة التي أجريت والتي قمتُ بالتركيز عليها من أجل مناقشتها لأسباب مهمّة، تبيّن لي إغفال تام عن جوهر المشكلة التي تعاني منها المجتمعات المسلمة، إذ إنَّ أكثر الناقدين للإرهاب هم إما غافلون عن الحقيقة، وإما خجلون من التحدث فيها بشفافية. فـ الإرهاب هو قيام فردٍ ما بعمل منافٍ لأخلاقيات البشر، فمن يعترض رجلاً آسيويّا أو يشتمه فهو يمارس إرهابا، ومن يتجاوز حدود اللباقة في الحديث والنقاشات الفكرية فهو يمارس إرهابا أيضًا، فـ الإرهاب لا يقتصر على تلك الممارسات التي تقوم بها جماعات متطرفة أمام كنيسة أو مسجد أو معبد أو في الأسواق، بل هو كل فعلٍ منافٍ لأخلاقيات البشر. وقد قام العديد من الأكاديميين بالإشارة إلى أن أحد أكبر العوامل المسببة في نشأته هو الجهل، غير آبهين بتعريف الجهل، أو تسليط الضوء على ماهيته أو شروطه أو أشكاله، ولتلك محاولة برأيي فاشلة في تفسير الأمور على غير واقعها. فكما قيل قديمًا؛ لا تحاول قتل البعوض دون أن تجفف المستنقعات.
هناك أسبابٌ عديدة ملهمة للمؤلفة عقولهم للانخراط في تلك الجماعات الإرهابية، والحقيقة أنه لا يمكن حصرها، إذ إن الدافع والحافز يختلف من شخص إلى آخر، ولكن سأسلط الضوء على أحد أهم الأسباب التي من شأنها أن تخلق مناخًا ملائمًا لاحتضان تلك الفئة:
أولاً: الكراهية
المعروف عن المسلمين أنهم قوم ماضيّون، فهم يفسرون كل ما يحدث حولهم اليوم بالرجوع إلى أحداث وأقاويل ونصوص قيلت في الماضي، في مناسبات عديدة ومختلفة، بيد أن الدلالات الحقيقية للنصوص قد تتعدّد، واللفظ قد ينحرف من مجاله الحقيقي إلى مجال مجازي، ثم يشيع ذلك المجاز حتّى يصبح مألوفًا، ويعد حينئذ من الحقيقة، وتظل تلك الدلالة القديمة ملازمة للّفظ في حدوده الضيقة[2]، بالإضافة إلى أن عقل المسلم عقلٌ غيبي، أي أنه يفسر ما لا يفهمه علميًّا بأشياء لا يمكن للعقل السوي أن يستدل عليها، فَهُمْ يفسّرون كل ما يقع خارج إطار العالم الإسلامي كالأعاصير والزلازل بغضب من الله نتيجة الشرك به، وتلك التي تقع في داخل القطر الإسلامي يفسرونها بغضب من الله نتيجة التقصير في العبادة، ومن هنا يتولّد في عقله ووجدانه ركنٌ آخر وهو الكراهية، وعادة ما تكون نتيجة ورغبة لإثبات الذات، ولهذا تكثر مصطلحات في الواقع الإسلامي بين المسلمين تصف الغرب بأعداء الإسلام أو الكفار أو المشركين، وتلك المفردات مستمدة من الخطابات الإسلامية المعتادة في خطبة الجمعة أو المحاضرات الدينية والتي يقوم فيها رجل الدين بأمرين لا ثالث لهما في تفسير ما آلت إليه البلدان الإسلامية فإما من خلال جلد الذات والإسراف في استخدام العبارات الشديدة اللهجة حتى يخرج الفرد من المجلس تائبًا ناقما على أهله ومجتمعه، وإمّا من خلال شتم الغرب ووصفه بأنه السبب الرئيس في فشل المسلمين السياسي والروحي من خلال المؤامرات الصهيوأمريكية والماسونية والشيوعية والقائمة تطول.
وفي الغالب، يتجه الخطاب الديني في نهاية الخطبة إلى الدعاء إلى وحدة الصف وعدم التفرقة وتقديم آليات لتوحيد المسلمين تحت راية الإسلام، ويمكننا الاستدلال من ذلك الخطاب إلى وجود مصطلحات عسكرية قتالية تجعل الأمر لا ينفك من التفكير في التخيل ما لو اصطلح حال المسلمين وانتهى الأمر بهم إلى وحدة دينية وعسكرية. ويستمر الخطاب الديني لمن اعتاد على المواظبة على تلك المجالس لسنوات طويلة مستمدّة من باكورة التنشئة الأولى إلى أمدٍ طويل يتسم بطول الانتظار ويتعلق فيها المؤمن بتلك الآمال التي لم تحدث بعد مما يشكّل حالة من الغضب والكراهية المستمدة من الخطاب الديني والانتظار الطويل لرؤية تلك الغايات متحققة، فالمسلم لا يهمه وضع دول الجوار المسلمة ولا أحوالها البائسة، ولكن يهمّه حال الأمة الإسلامية بشكلها الشمولي. لذا بتكرّر هذا الخطاب بشكل منتظم ودوري، يصبح الفرد مؤمنا بوجود شرط وحيد لبقاء الإسلام في العالم كدين حاضر ومهيمن ألا وهو الكراهية لأعداء الإسلام. وبلا شك فالخطاب الديني يقصد بأعداء الإسلام ليس من يحمل السلاح في وجه المسلمين؛ وإنما كل من يخالف المسلمين في العقيدة أو الغايات والأهداف الجيوبولتيكية والجغرافية وفي استعادة المجد السابق، وكما أسلفنا القول بأنهم قوم ماضيون بامتياز.
ولنأخذ كراهية المسلمين لليهود كمثال حي، تلك الكراهية التي لا مبرر منطقي لها سوى أن الأديان الإبراهيمية ترث ذلك من ديانة سبقتها، فاليهود يكرهون على أتباع يسوع الذي يرون أنه ادعى أنه المسيح المنتظر، والمسيحيون يكرهون اليهود الذين حاربوا المسيح وحوارييه وإتلافهم للأناجيل، والمسلمين يكرهون المسيحيين والنصارى على حد سواء، ولذلك تبرير تراثي وثقافي مستمد من خلال معاداة اليهود للمسلمين والحروب الصليبية، غير منتبهين إلى أمرٍ مهم آخر، وهو أن تلك الحروب الصليبية التي قام بها المسحيون هي باسم الرب تمامًا كالحروب التي قام بها المسلمون المسماة في ما مضى بالفتوحات الإسلامية والتي أسقطت القسطنطينيّة والشام ومصر والشمال الأفريقي ومنطقة الهلال الخصيب وشرق آسيا من يد المسيحيين. كما أن تلك المعاداة لليهود منبعها هو الرب أيضًا؛ حينما أراد اليهود إحياء أرض أجدادهم الكنعانيين في أرض فلسطين التي يشهد لهم فيها التراث الإسلامي نفسه بوجودهم فيها في ما مضى. وأقول إن الأمر غير مبرر منطقيًّا لأن المسلمين يتمسكون بأحقيتهم في أرض فلسطين فقط لأنه لها طابع ديني مقدس ليس إلّا، فالأرض لا تعنيهم بالضرورة؛ وإلّا لاستعادوا أيضًا إسبانيا من يد الإسبان، لهذا فهذه الكراهية التي تسكن في قلب المسلمين مستمدة من إطار تاريخي طويل لم ينخمد فتيله لأكثر من سبعين عاما على اغتصابها أو استردادها كما يدّعي اليهود. وتلك العوامل التاريخية التي تقوم الخطابات الدينية بتكرارها هي ما يجعل الأمر يبدو وكأنه حدث بالأمس، لذا ما زال المسلمون مصرين على استرجاع الأرض آملين بأيوبي جديد أو بيبرس آخر يطرد اليهود من بقاع الأرض كلها وليس فلسطين وحدها. هذه الكراهية تفقد الإنسان إنسانيته بأكملها، وتجعل الإنسانية نسبية ومجزئة في البعض الآخر، وخير دليلٍ على ذلك هو الشهرة والاحترام الذي يحظى به هتلر في الأوطان الإسلامية التي أعمى بها عقول الناس، فلم يعد مجرمًا قام بقتل الملايين من الأبرياء المدنيين، بل أنه قام بتخليص العالم من جرثومة تسمى اليهود، وتلك مشكلة عظيمة تهلك الروح البشرية وتصنع منها شخصية سيكوباثية مخيفة، وقد خلقت تلك الشخصية السيكوباثية في قلب المسلم فعلًا حينما تراه يستمتع بعذاب إنسان بريء، والأخطر من هذا كله هو مشاهدته لتلك المشاهد المأساوية بنفسٍ مرحة، وفي المقابل عدم قدرة على مشاهدة حادث دهس لرجل على الطريق في هاتفه النقال لعدم قدرته على رؤية تلك المشاهد المؤلمة. فهو يرى الأمر مؤلمًا حينما لا يتعلق الأمر على بني ملّته، في حين يراه ممتعا حينما يشاهد سقوط أطفال ورجال ونساء من أعلى برج في العالم وأن يلقوا حتفهم أمام عائلاتهم. هذا أمر لا بأس به. وتلك هي أولى خلية تسهم في خلق النواة الإرهابية في عقل المسلم الكراهية.
في نفس السياق أيضًا، تحضرني محادثة جرت بيني وبين طالب حقوقي في عامي الأخير في الجامعة، حينما طلبت منه مشاركتي مائدة الغداء في مطعم الجامعة، يومها تبادلنا حديثاً طويلاً، فرغبتي من دعوتي له كانت لمعرفة مكنونات عقل طالب حاصل على المركز الأول في الدفعة، كانت رغبتي شديدة في معرفة آليات التفكير والملكة الفكرية التي يملكها هذا الطالب؛ إذ كنت حينها أوشك على السقوط في الملاحظة الأكاديمية نتيجة لتغيبي الدائم. لم يكن لحديثي معه هدف فكري كالذي أكتبه الآن، بل أنني لم أتوقع يومًا ما أن يخرج الحديث الذي دار بيننا خارج مطعم الجامعة. فحينما وصلت إلى الحديث بأن المسلمين يملكون تراثًا إجراميًا ساهم بشكل كبير في تعبئة السلوك الإجرامي قاطعني قائلاً وبنفس الأسطوانة المعتادة التي يتحدث فيها غالبية المدافعين عن الدين بأن الولايات المتحدة عندما ألقت قنبلتين نوويتين لم تكن مسلمة، وهتلر الذي ذبح الملايين وقاد حربًا على العالم لم يكن مسلماً ثم ذكر الحروب التي قادها المسيحيون ضد المسلمين في أفغانستان والشيشان والعراق وبورما والعديد من الأمثلة التي لا أتذكرها، ثم انتهى بوصفي أنني لا أتحدث بشكل علمي وأنني لا أدين تلك الأعمال الوحشية التي يرتكبها غير المسلمين ضد البشرية.
من خلال الحديث الذي دار بيننا اكتشفت أنه يخوض بشكل دائم في معارك كلامية كالتي حدثت بيننا، وقد سئم من الاتهامات التي يأخذها على محملٍ شخصي. إذ إنّه لم يتحدث عن حقيقة أن المسلمين مهيئين لارتكاب أعمال الإرهاب أكثر من غيرهم، وهذا كان موضوع الحديث حينها، بل اكتفى بتجريم العالم كلّه في محاولة منهم ليقول إن العالم كلّه اقترف نفس الجرائم وربما جرائم أشد وطئًا منها، فليس المسلمون وحدهم من يقوم بتلك الأعمال الإرهابية، وهو هنا لم يقدم خدمة تدعم كلامه أكثر من ما قام بتوسيع دائرة نطاق الإرهاب ليصل إلى الأديان كلها وبالتالي أسهم بشكل لافت في خروجنا من النطاق الضيق إلى نطاق واسع. فسألته عن سبب كون المسلمين يعيشون بسلام مطمئنين وينامون قريري العين في ظل وجود إسرائيل في الإقليم ذاته والتي تملك قنابل نووية ورؤوس نووية لا تحصى، وبالرغم من كل هذا لا تشكل لهم خوفاً أكثر من الخوف الذي يسكن في باطن المسلم عندما علم بامتلاك إيران أسلحة نووية. تلك الدولة المسلمة التي تشاركهم الدين والعقيدة، ونرى ذلك الخوف جليًا جداً في المعاداة التي يحملها الشاب الخليجي المسلم تجاه الدولة الإيرانية وهو ما كشفته وثائق ويكيليكس مؤخرًا حينما طلبت السعودية أكثر من مرّة من الولايات المتحدة الأمريكية شن حرب على إيران لامتلاكها مفاعلات نووية. تمامًا كما يشعر العالم الإسلامي بالذعر إذا ما ملكت أو استولت القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية أسلحة دمار شامل لعلمه اليقين بوجود عقيدة وسلوك تثني على المسلم لقيامه بذلك العمل الإجرامي أكثر مما تدينه أو تستنكره.