ملاحظة: تم نشر الجزء الأول من هذه الورقة تحت عنوان: قراءة في النظام الدستوري البحريني: التعاون بين السلطات مع الفصل بينها
تشابهات جوهرية.. اختلافات شكلية
إن المقارنة السريعة بين النظام الدستوري الحالي وفق دستور 2002 والنظام السابق وفق دستور 1973[10] تدل على أن الجوهر التنظيمي لم يتغير رغم كل التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها البحرين، فكان دستور 1973، مثل دستور 2002، أيضًا قائمًا على ثنائية التعيين الملكي والانتخاب الشعبي مع جعل عمل المؤسسات الشعبية رهن موافقة أو “تعاون” الجهات المعينة ملكيًا.
يستند التأييد لدستور 1973 في مقابل دستور 2002 على كون الأول “دستور عقدي” إلى حد ما في طريقة إقراره، بالإضافة إلى تقاسم سلطة التشريع فيه بين المجلس الوطني والأمير آنذاك، بدل أن تكون متقاسمة بين ثلاثة جهات كما هو الحال في دستور 2002، إلا أن هذا التحليل الضيق يخفي حقائق مغيبة عن حقيقة بنيته المؤسسية.
بدءًا بطريقة صياغة وإقرار دستور 1973، فقد تم تكليف مجلس الوزراء بإعداد مشروع الدستور بمرسوم أميري[11]، وبعد ذلك تم إجراء انتخابات لمجلس تأسيسي لمناقشة مشروع الدستور وتعديله والموافقة عليه، على أن يتم تشكيل هذا المجلس عبر الانتخاب العام السري المباشر لاثنين وعشرين عضوًا بالإضافة إلى تعيين ما لا يزيد عن عشرة أعضاء بمرسوم أميري، كما يكونون أعضاء مجلس الوزراء (14 عضوا) أعضاء بالمجلس التأسيسي بحكم مناصبهم، حسب المادة (1) من المرسوم، مما يعني أن التعيين الملكي في المجلس التأسيسي يمثل 50%. كما لرئيس مجلس الوزراء رئاسة المجلس في جلسته الأولى إلى أن يتم اختيار رئيس دائم من بين الأعضاء.
أما بالنسبة إلى النظام الانتخابي، فتم تكليف مجلس الوزراء بتحديد الدوائر الانتخابية وإدارتها لتقسّم البحرين إلى ثمان مناطق انتخابية تضم المنامة والمحرق والمنطقة الشمالية والمنطقة الغربية والمنطقة الوسطى والمنطقة الجنوبية والرفاع وستره، وتوضح المواد (3) و(5) و(13) من المرسوم بقانون بشأن أحكام انتخابات المجلس التأسيسي[12] أن النظام الانتخابي المعتمد هو نظام الدوائر الانتخابية انتخابًا وترشحًا، حيث لا يجوز للناخب والمرشح المشاركة في العملية الانتخابية خارج إطار الدائرة المسجلة فيها إقامته.
ونرى أن المجلس الوطني البرلماني تشكل على نحو مماثل نوعًا ما للمجلس التأسيسي، حيث يتألف من 30 عضوًا منتخبًا (على الأقل في فصله التشريعي الأول) مع عضوية 14 وزيرًا بحكم مناصبهم، مما يجعل ثلث المجلس معين من قبل الأمير. واختيار رئيس المجلس هنا تشابه طريقة اختيار رئيس المجلس التأسيسي، حيث يتولى رئيس الوزراء رئاسة المجلس في الجلسة الأولى إلى أن يتم اختيار رئيس آخر من بين الأعضاء.
وبالرغم من كون أغلبية أعضاء المجلس منتخبون، إلا أنه كان للوزراء وسيلة قوية وفعالة جدًا في التحكم وعرقلة عمل المجلس، أبرزها هي عدم جواز مناقشة القوانين المدرجة ضمن جدول أعمال المجلس إلا بحضور الحكومة، ولأن الوزراء كانوا يعملون في إطار الكتلة الموحدة فقاموا باستغلال هذه الآلية القانونية بالانسحاب المتعمد من الجلسات لإبطال انعقادها واعتبارها كأن لم تكن، ومثال على ذلك هي أحداث جلسة 8 يونيو 1975[13] عندما انسحبت الحكومة من الجلسة المقررة لمناقشة المرسوم بقانون بشأن تدابير أمن الدولة[14] لسنة 1974 مع تغيبها عن الحضور لثلاث جلسات متتالية تعطيلًا لعمل المجلس، وبهذا لم يعط نظام دستور 1973 سلطة للجهات المعينة للتحكم في تحركات المؤسسات الشعبية وتركيبتها فحسب بل وأعطاها الإمكانية لتعطيل عملها بشكل مباشر ومستمر.
ومن ناحية فعلية، قام دستور 1973 بتقسيم سلطة التشريع بين ثلاث جهات: جهة ملكية (الأمير) وجهة معينة يمارس فيها الأمير صلاحياته بطريقة غير مباشرة (عضوية الوزراء في المجلس الوطني بحكم مناصبهم) وجهة منتخبة شعبيًا (أعضاء المجلس الوطني المنتخبون)، بالضبط كما هو الحال في دستور 2002 فيما يخص معادلة الملك -مجلس الشورى- مجلس النواب.
وفيما يخص الشأن البلدي، فقد كان يوجد قبل عام 1973 بلديات منتخبة بالكامل في كل من المنامة والمحرق والرفاع وستره والمنطقة الشمالية، إلا أن مرسوم إنشاء الهيئة البلدية المركزية المؤقتة[15] (التي اتضح لاحقًا أنها لم تكن مؤقتة) أمر في المادتين (1) و(2) بحلها واستبدالها بمؤسسة بلدية مركزية جميع أعضاؤها الثمانية والعشرون معينون بأمر من رئيس مجلس الوزراء، على أن يكون نصف الأعضاء من “المواطنين من مختلف المناطق البلدية” والنصف الآخر ممثلين لوزارات الدولة ذات العلاقة ويرأسها وزير البلديات والزراعة. ومن ناحية التشكيل وعلاقتها بالمؤسسات الدستورية الأخرى، فمن خلال مقارنة الهيئة مع أمانة العاصمة الحالية فإن الاستقالات لا تعتبر مقبولة إلا بعد موافقة الجهة التي عينته (رئيس الوزراء). وعلى الرغم من ذلك كله فإنه يحق لمجلس الوزراء الاعتراض على أية قرارات تُصدر من الهيئة إذا كانت تُعتبر خارج دائرة اختصاصها أو مخالفة لسياسة الدولة العامة، تمامًا كما هو الحال بالنسبة إلى أمانة العاصمة اليوم، في مؤشر لتحكم الجهات المعينة ملكياً في مخرجات المؤسسات التمثيلية حتى وإن كانت معينة ملكياً.
إن الهدف من مقارنة النظامين الدستورين هو تبيان التشابهات الجوهرية بينهما، حيث يتجلى سيرهما على النهج نفسه بجعل المؤسسات المنتخبة شعبيًا ضعيفة عمليًا وخضوعها لرغبات وتحركات الجهات المعينة ملكيًا، فالذي تغير فعلاً بين دستوري 1973 و2002 هو البعد الشكلي لهذه العملية، ففي السابق كان النظام الدستوري يعتمد على تواجد الجهات المعينة والمنتخبة في إطار مؤسسي موحد (سواء كان ذلك في المجلس التأسيسي أو المجلس الوطني البرلماني)، بينما في الوضع الراهن فقد تم فصل الجهات المعينة عن الجهات المنتخبة ووضعهما في إطار مؤسسات مختلفة، ولكنها مرتبطة في الوقت نفسه عبر مجلسي النواب والشورى.
إن الذي تغير فعلًا ليس غاية السيطرة على مخرجات المؤسسات المنتخبة بل وسيلة تحقيق ذلك، فتوارد عبارة “يقوم النظام على أساس فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية مع تعاونها” في الدستورين لهو دليل على تشابه البنية الدستورية بينهما.
تطورت طريقة تطبيق السلطة لهذه العبارة من خلال استغلال مبدأ تعاون السلطات مع بعضها البعض في دستور 1973 عن طريق دمج السلطات في مؤسسة واحدة (حتى أن المرسوم الأميري بحل البرلمان[16] في أغسطس 1975 لم يشر إلى أي سبب واضح للقرار غير سوء “التعاون بين المجلس الوطني والحكومة”)، وتشكيل مؤسسات منفصلة شكليًا لكنها مترابطة بشكل غير مباشر في دستور 2002، ليفرض التعاون بين السلطات بفاعلية أكثر، حيث لا يستطيع مجلس النواب أن يكون مستقلًا بذاته دون الرجوع إلى مجلس الشورى المعين ملكيًا تمامًا كما كان عليه الحال في السبعينات عندما كان الأعضاء المنتخبون لا يستطيعون تجاوز الأعضاء المعينين سواء في المجلس التأسيسي أو المجلس الوطني.
غياب الدور الشعبي
جوهر المقال يكمن في توضيح غياب الدور الشعبي في تشكيل مؤسسات الدولة وإدارتها، وهو ما دل عليه النظام الدستوري الحالي والسابق من خلال حصر صلاحيات الشعب بانتخاب نصف السلطة التشريعية تقريبًا بينما جميع المؤسسات الأخرى تتشكل وتدار بفعل الإرادة الملكية.
ينتج عن هذا النظام الدستوري خلق علاقات غير سوية بين أطراف المعادلة السياسية، حيث توجد مؤسسة معينة ملكيًا كطرفٍ موازٍ لكل مؤسسة منتخبة وممارسة الوصاية على المؤسسات التمثيلية الأخرى مثل الهيئات البلدية حتى وإن كانت معينة ملكياً، بالإضافة إلى أخذ التعيين الملكي الحصة الكبرى من كعكة النفوذ واتخاذ القرار.
وعلى الرغم من قلة تمثيل المؤسسات المنتخبة شعبيًا (حيث لا تمثل أكثر من الثلث في أفضل تقدير) في الهيكل الدستوري وضعف آلياتها بشكل عام، إلا أن التحليل السابق للنظام الدستوري ككل يدل على تقويضها والتلاعب في تركيبتها ووضعها تحت وصاية الجهات المعينة ملكيًا في جميع زوايا عملها.
إن مجرد قراءة النصوص الدستورية لوحدها غير كافٍ لفهم البنية المؤسساتية في البحرين، حيث إنه ومنذ البدء في العمل في إطار دستور مملكة البحرين لسنة 2002 فقد تم محاربة الدور الشعبي حتى في حق الشعب المكفول دستوريًا في انتخاب نصف السلطة التشريعية عن طريق مختلف الوسائل القانونية وغير القانونية.
وإحدى أهم تلك الوسائل هي طريقة إدارة النظام الانتخابي لمجلس النواب والمجالس البلدية، حيث يعتمد نظام الدوائر الانتخابية (البالغ عددها 40 دائرة) حسب المادة (17) من المرسوم بقانون بشأن مباشرة الحقوق السياسية[17]، إلى جانب آلية أكثرية الأصوات في اختيار المرشحين الفائزين، حيث تنحصر مشاركة الناخب والمرشح في الانتخابات في نطاق حدود الدائرة الانتخابية التي هو مسجلٌ فيها (حسب المادة (2) من القانون نفسه)، ومع ذلك فإنه يوجد أيضًا اثنا عشر “مركزًا عامًا” موزعين على جميع المحافظات يتبعون آلية التصويت نفسها.
يفيد النظام الانتخابي المتبع أن المرشح مقيد بالترشح في دائرة واحدة كما على الناخب التصويت مرة واحدة فقط لأحد المرشحين المسجلين في دائرته، ولكن تشوب المراكز العامة العديد من الملاحظات من قبل المراقبين المحليين بسبب عدم تمكنهم من التحقيق من سلامة العملية الانتخابية ومراقبتها كما هو مسموح في المراكز الانتخابية في الدوائر، فلا يُسمح لهم بالدخول إلى بعض المراكز العامة أثناء عملية الفرز تحديدًا، مما يثير التساؤل حول الأسباب من وراء هذه الممارسات التي قد تُعزى إلى استغلال المراكز العامة للتلاعب في نتائج الانتخابات بالإضافة إلى توجيه أصوات المواطنين العسكريين والأفراد الذين تم تجنيسهم بالجنسية البحرينية مؤخرًا للتصويت لمرشحين مُختارين بدقة من قبل الجهات الرسمية، ويُعتبر المركز العام الواقع على جسر الملك فهد الرابط بين البحرين والسعودية أحد المراكز التي تم توجيه أصابع اتهام عديدة في هذا الشأن.
وفي السياق نفسه، يحرم على المواطنين المنتسبين للأجهزة العسكرية حضور المقرات الانتخابية التثقيفية التي يعقدها المرشحون للتعريف عن برامجهم، كما يحرمون من المشاركة في الحياة السياسية بشكل عام، ولكن في الوقت نفسه يسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات كناخبين وفق التعليمات الصادرة من القيادات العسكرية، كما توضح المادة (50) من قانون الحرس الوطني[18] على سبيل المثال. إن حرمان العسكريين من المشاركة في الحياة العامة يعتبر تمييزًا في الحقوق الدستورية وفي الوقت نفسه يتم استغلالهم سياسيًا بالسماح لهم بالتصويت شرط القيام بذلك وفق تعليمات القيادات العسكرية العليا، وكل ذلك في ظل عدم السماح لهم بالتحرك بشكل مستقل وحر للتعرف على المرشحين وبرامجهم مما ينتقص من مواطنتهم.
كما يتضمن نظام توزيع الدوائر الانتخابية وطريقة رسمها إشكالات عديدة، حيث لا يتساوى عدد الناخبين في كل دائرة، وأحيانًا يصل الفارق بين دائرة ودائرة أخرى إلى أكثر من 135%، وذلك بطبيعة الحال يؤدي إلى حالات تسمح نظريًا لبعض المرشحين أن يفوزوا بعدد 1100 صوتًا فقط بينما يحتاج مرشح آخر في دائرة أخرى 5400 صوت على الأقل ليتغلب على منافسيه، وبعض الدوائر التي يقطنها 13000 مواطن تتمثل بنائب واحد فقط بينما دوائر أخرى تشمل 2000 مواطن يتم تمثيلها أيضاً بنائب واحد رغم الاختلاف الكبير في عدد المواطنين. [19]
وتشير نتائج الانتخابات السابقة إلى أن النظام الانتخابي مركب بطريقة تضمن إلى درجة كبيرة إنتاج برلمان بتركيبة سياسية معينة، أي أن النظام الانتخابي قائم على المحاصصة المخططة مسبقًا. ومثال على ذلك هو فوز جمعية الوفاق الوطني الإسلامية بنفس عدد المرشحين في انتخابات 2006 و2010 (17 إلى 18 مقعدا برلمانيا)، كما توقعت الجمعية أنها ستفوز بنفس عدد المقاعد في انتخابات 2014 في حال عدم المقاطعة.
وبهذا يصبح من الواضح أنه يتم رسم الخريطة الانتخابية والنظام الانتخابي بدقة لضمان إنتاج تركيبة برلمانية معينة، ومجرد إمكانية جمعية الوفاق حساب نتائج فوزها بشكل دقيق جدًا فقط بناء على قراءة الدوائر الانتخابية يعطي إشارة غير مطمئنة عن طبيعة النظام الانتخابي وكيفية تشكيله، ليجمع أو يفصل قطاعات سياسية في دوائر محددة لينتج برلمان قائم على المحاصصة السياسية.
وعلى هذا النحو، فقد تم تعديل الدوائر الانتخابية[20] في 2014 ليكرس هذه الحالة باستخدام أسلوب “الحشر والفصل”، حيث تم تذويب أصوات ناخبين تم دراستها وتصنيفها على أنها معارضة للحكم في دوائر أخرى أو حشر أكبر قدر ممكن منها في دائرة واحدة بهدف تضعيف قوتها الانتخابية عن طريق نقل مجمعات سكنية إلى دوائر أو حتى محافظات أخرى، فعلى سبيل المثال تم دمج الدائرة السابعة والثامنة في محافظة العاصمة لتصبح الدائرة الخامسة مع نقل سبع مجمعات من الدائرتين السابقتين وتوزيعها على ثلاثة دوائر انتخابية مختلفة في العاصمة رغم عدم تأثر الدائرتين بإلغاء المحافظة الوسطى[21].
وهذا الشكل من التوزيع يعطي مؤشرا على كيفية إدارة العملية الانتخابية ويثير التساؤلات حول تزوير الإرادة الشعبية والتلاعب بتركيبة المؤسسات الشعبية المنتخبة، وذلك على الرغم من قلة عددها وضعف صلاحياتها في ظل التحكم المباشر في جميع المؤسسات الدستورية الأخرى عن طريق التعيين الملكي.
الخلاصة
إن عبارة “يقوم نظام الحكم على أساس فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مع تعاونها” في النظام الدستوري السابق والحالي، قد أنتجت بنية مؤسسية معقدة تم دراستها بدقة لمحاربة الدور الشعبي في المشاركة في صنع القرار وإدارة شؤون الدولة، كما أنها أتت ضمن سياق تاريخي واحد منبثق عن رغبة السلطة في فرض مبدأ “التعاون بين السلطات” كأساس تقوم عليه الدولة.
وبذلك تكون العبارة الأنسب لشرح الواقع الدستوري كالتالي: “يقوم نظام الحكم على أساس التعاون بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مع الفصل بينها”، حيث تدل النصوص الدستورية والسياسات المعمول بها في الدولة كما تم توضيحه في المقال على المحاولات المستمرة لإنتاج مؤسسات منتخبة متعاونة مع السلطة، وتأتي ثنائية التعيين الملكي والانتخاب الشعبي تجسيدًا واقعيًا لهذه السياسة.