تخصص حكومات دول العالم مبالغ ضخمة لمعالجة أخطر وأهم القضايا التي تهدد وجودها واستقرارها، ووفقًا لمنظمة الشفافية العالمية فإن كبرى العقبات التي تعترض هذا الجهد هو الفساد ، الذي يحول دون تقدم الأمم ونهضتها، وأصبح العثرة الكبرى أمام محاولات التطوير والتنمية في العديد من البلدان ما أثر بصورة كبيرة على أحلام وطموحات أجيال متعاقبة في التقدم، لاسيما في محيطنا العربي.
وفي التقرير الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية بشأن مؤشرات الفساد في دول العالم لعام 2017، احتلت نيوزيلندا صدارة قائمة دول العالم الأقل فسادًا تلتها الدنمارك في المركز الثاني ثم فنلندا والنرويج والسويد مشاركة في المركز الثالث، وجاءت بريطانيا في المركز الثامن، أما الولايات المتحدة الأمريكية فجاءت في المركز السادس عشر، في حين جاءت الصومال في المرتبة الأخيرة من بين 180 دولة شملها الاستبيان.
غابت الدول العربية عن المراكز العشرين الأولى كأقل دول العالم فسادًا، وبرزت معظم دول الخليج كأكثر الدول العربية نزاهة، ولعل الجانب المضيء في التقرير مثلته دولة الإمارات التي جاءت في المرتبة الأولى في العالم العربي بمؤشر مدركات الفساد واحتلت المركز الـ 21 عالميًا، وكذلك قطر التي احتلت المرتبة الثانية عربيًا والـ 29 عالميًا، وجاءت دول السعودية والأردن وسلطنة عُمان على الترتيب في المراكز 57، 59، 68 عالميًا.
أما الجانب المظلم في التقرير فكان تصنيف المؤشر لستة بلدان عربية بين الدول الأكثر فسادًا في العالم، وهي الصومال وسوريا واليمن والسودان وليبيا والعراق، وجاءت دولتان فقط في أول 50 دولة، بينما لحقت بهما 6 أخرى في المراكز من 50 إلى 100، وجاءت بقية الدول العربية في المراكز من 101 إلى 180.
وعلى صعيد دول المغرب العربي فقد تراجعت تونس مركزًا واحدًا لتصبح في الترتيب 74 برصيد 42 نقطة، أما المغرب فقد تقدمت ثلاث نقاط لتصبح في المركز الـ 81 عالميًا برصيد 40 نقطة، في حين تراجعت الجزائر نقطة واحدة إلى المركز 112 بـ 33 نقطة.
الفساد.. رشى واختلاس واستغلال نفوذ
بحسب المنظمة الدولية ، يعرف الفساد بأنه إساءة استعمال السلطة بغرض تحقيق مكاسب شخصية، ويعتمد المؤشر في قياسيه على بعض السلوكيات المرتبطة بالفساد كالرشوة واختلاس المال العام، واستغلال السلطة لمصالح شخصية، والمحسوبية في الخدمة المدنية.
واعتمدت المنظمة في تقريرها على النتائج المستندة إلى الرأي العام حول مدى انتشار الفساد في القطاع الحكومي، وتجربة التعاطي مع الرشوى، وبالرغم من أن النتائج قد تفتقر إلى الدقة التامة إلا أن العديد من المنظمات الحقوقية تستند إليها عند الإشارة إلى بعض الانتهاكات التي تحدث في تلك الدول.
ويقوم المؤشر بتصنيف 10 بلدان وفقًا لمدى انتشار الفساد في القطاع العام للدولة، مستندًا في ذلك إلى آراء خبراء ومسؤولين في مجال الأعمال، وتصنف الدول في التقرير بحسب مقياس يتراوح بين 0 و100 نقطة، وتمثل النقطة 0 الدول الأكثر فسادًا، وتمثل النقطة 100 الدول الأكثر نزاهة، وبيّن المؤشر لعام 2017 أن أكثر من ثلثي البلدان حصلت على درجة تقل عن 50 نقطة.
وبحسب التقرير فقد شهدت بلدان عدة تحسنًا ملحوظًا لدرجتها وفقًا للمؤشر خلال السنوات الست الماضية، ومنها كوت ديفوار والسنغال والمملكة المتحدة، في حين تراجعت درجات عدة بلدان أخرى، من بينها سوريا واليمن وأستراليا.
مظاهر الفساد التي يغطيها مؤشر مدركات الفساد
ركزت منظمة الشفافية الدولية في تحليلها لمؤشر مدركات الفساد على أبرز المظاهر والسلوكيات التي تنخر في جسد الدولة، والتي تركزت على النحو التالي:
الرشوة.
اختلاس المال العام.
انتشار ظاهرة المسؤولين الذين يستغلون المكاتب العامة لتحقيق مكاسب شخصية في ظل الإفلات من العقاب.
قدرة الحكومات على احتواء الفساد وفرض آليات فعالة لتكريس مبدأ النزاهة في القطاع العام.
عبء الإجراءات الروتينية والبيروقراطية المبالغ فيها الذي من شأنه أن يزيد فرص ظهور الفساد.
المفارقة في التعيينات القائمة على الكفاءة والتعيينات القائمة على المحاباة في الوظيفة العمومية.
ملاحقات قضائية جنائية حقيقة لمسؤولين فاسدين.
قوانين كافية تتعلق بتصريح الممتلكات والذمة المالية ومنع تضارب المصالح في صفوف الموظفين العموميين.
توفير الحماية القانونية للمبلغين عن الفساد والصحفيين والمحقيين لدى تبليغهم عن حالات الرشوة والفساد.
السيطرة على الدولة من قبل أصحاب المصالح الشخصية الضيقة.
قدرة المجتمع المدني على النفاذ إلى المعلومة فيما يتعلق بالشؤون العامة.
إرادة سياسية تقود التغيير والإصلاح
وأكدت المنظمة العالمية أن السبيل نحو مكافحة الفساد في منطقة الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا هو وجود إرادة سياسية حقيقية نحو التغيير والإصلاح، وهو ما يتطلب من الحكومات العربية اتخاذ إجراءات طويلة المدى لتأسيس مؤسسات شفافة ونزيهة تخضع للمساءلة، ومحاسبة الفاسدين، ويأتي ذلك بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني، بالإضافة إلى حماية الصحفيين والنشطاء في سعيهم لكشف الفساد، وكذلك التوقف عن ملاحقة المعارضين تحت غطاء قوانين مكافحة الإرهاب.
الإمارات.. الأولى عربيًا
وتقدم دولة الإمارات نموذجًا يتحذى به عربيًا وإقليميًا في مجال مكافحة الفساد والشفافية، مستهدفة في ذلك مواصلة مسيرة تحقيق التنمية الشاملة والمستديمة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وقد أظهر مؤشر مدركات الفساد لعام 2017 -الذي احتلت فيه الدولة الخليجية المركز الأول عربيًا وإقليميًا- أن إجمالي النقاط التي سجلتها بحسب التقرير يبلغ حوالي ضعف متوسط النقاط التي سجلتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لتتقدم ثلاثة مراكز مقارنة بالعام الماضي برصيد 71 نقطة من مجموع 100 في مكافحة الفساد، متفوقة في ذلك على دول أوروبية مثل فرنسا وإسبانيا.
وبحسب التقرير فقد تبنت الإمارات إجراءات متطورة في مجال إدارة المشتريات وتقدم أداء متميزا على مستوى الخدمات والبنيات التحتية، كذلك فإن مواجهة الفساد الذي حرصت قيادة الدولة أن يكون ضمن أولوياتها أسهم في أن تصل أبوظبي للمكانة التي تحتلها في هذا الصدد، وهو ما ظهر جليا في صورة قوانين وتشريعات حاسمة أصدرتها سلطات الدولة تواكب بها النظام العالمي.
مصر.. محاولات جدية لمكافحة الفساد
بالرغم مما تعلنه الحكومة المصرية دومًا من جهودها في السيطرة على منابع الفساد والدور الذي يقوم به جهاز الرقابة الإدارية في مكافحة الفساد بصورة جدية أثمرت عن اعتقال وضبط العديد من المسؤولين بتهم الفساد والرشى، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا أمام مؤشر مدركات الفساد العالمي لعام 2017، حيث تراجع ترتيب مصر في المؤشر، لتنخفض أكبر بلد عربي من حيث التعداد السكاني درجتين مسجلة 32 نقطة، مقابل 34 في التقرير السابق، وهي بذلك تحتل المركز 117 عالميًا في مؤشر الفساد، بعدما كانت في المرتبة 108 في التقرير السابق.
من جهته قال الوكيل الأسبق للجهاز المركزي للمحاسبات في مصر، عاصم عبد المعطي، إن “تراجع ترتيب مصر في مؤشر الفساد لعام 2017، يعود للظروف الأمنية الصعبة التي تعاني منها البلاد في مواجهة الإرهاب، والتي ألقت بظلالها على تقييد حرية الصحافة”، مضيفًا أن “السبب يتمثل في أن القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد (قاصرة) وأخرى (مقننة للفساد) لم يتم إلغاؤها حتى الآن”.
أما المستشارة الإقليمية للمنطقة العربية بمنظمة الشفافية الدولية، كندة حتر، فأشارت في تصريحات صحافية إلى أن “مصر أحرزت تقدمًا في مؤشر المنتدى الاقتصادي العالمي، لكن السبب في تراجع ترتيب مصر في مؤشر الفساد لعام 2017 عنه في التقرير السابق له، يعود إلى مؤشر العدالة الذي يدرس سيادة القانون والديمقراطية”، مؤكدة أن “الإرادة الحقيقية في مصر يجب أن تتبلور في استقلالية الأجهزة الرقابية”.
سلطنة عُمان.. شبه فاسدة
وتضمن المؤشر الذي شمل 180 دولة أربعة تصيفات للدول بحسب الدرجات التي حصلت عليها كل دولة وهي: “نظيف جدًا”، و”نظيف”، و”شبه فاسد”، و”فاسد جدًا”.
ووفقًا للتقرير فقد صُنفت سلطنة عُمان أنها “شبه فاسدة”، حيث حصلت على (44) درجة من أصل (100)، وجاءت في الترتيب (68) عالميًا، والخامس عربيًا لتتراجع 4 مراكز عن العام الماضي.
وانضمت عُمان إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وهو ما يعكس حرص السلطنة على الالتزام بمعايير النزاهة والشفافية، وسعيها للتعاون مع المجتمع الدولي في القضاء على كل ما هو غير قانوني فيما يتعلق بأعمال الفساد وبسط العدالة.
السعودية.. تشكيل لجنة لمكافحة الفساد
يبدو أن تحرك القيادة السعودية مؤخرًا نحو مكافحة الفساد آتت ثمارها، فقد قامت السلطات السعودية باعتقال عدد من الأمراء ووزراء ومسؤولين حاليين وسابقين على خلفية تهم تتعلق بالفساد من بينهم رجل الأعمال ذائع الصيت الملياردير الوليد بن طلال الذي أفرج عنه مؤخرا، وكذلك قرار العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز بتشكيل لجنة لمكافحة الفساد يتولى رئاستها ولي العهد محمد بن سلمان .
وقد أسهمت تلك الإجراءات في قفز المملكة إلى المركز 57 عالميًا والثالثة عربيًا، وذلك ضمن قائمة الدول الأكثر نزاهة في مؤشر مدركات الفساد، حيث تقدمت المملكة خمسة مراكز، فكانت المملكة في المركز الـ 62 عالميًا في التقرير السابق.
من جهته أكد وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي، محمد بن مزيد التويجري، في تصريحات صحافية، إن “تَقَدم المملكة في مؤشر مدركات الفساد لعام 2017، يؤكد سير المملكة بخطوات ثابتة على طريق الإصلاح الاقتصادي نحو تحقيق التنمية المستدامة ورفاهية أبناء المجتمع السعودي”.
وفي السياق نفسه، قال حسام الدين بن صالح المدني، المدير العام المكلف للمركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة “أداء”، إن “توجهات الأمير محمد بن سلمان كانت واضحة منذ البداية وشديدة الصرامة في سبيل سد منابع الفساد، ودفع البلاد نحو مرحلة البناء والتطوير على أساس النزاهة والشفافية ومكافحة الفساد، للإسراع في عملية التنمية والتحول الاقتصادي، وذلك في إطار رؤية “المملكة 2030”.
الكويت تتراجع 10 درجات
واحتلت الكويت وفقًا للتقرير المرتبة الثامنة عربيًا، والخامسة خليجيًا، حيث تراجعت 10 درجات عن المؤشر السابق، حيث جاءت في المركز الـ 85 عالميًا بعدما كانت في المركز الـ 75.
ويأتي ذلك في الوقت الذي شرعت فيه الهيئة العامة لمكافحة الفساد الكويتية في وضع خطة شاملة للنزاهة والشفافية ومكافحة الفساد.
من جهته انتقد رئيس المستشاريين الفنيين لمكافحة الفساد التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أركان السبلاني، تراجع الكويت في مؤشر مدركات الفساد ووصفه بالظالم، وذلك لما تسعى إليه الكويت من خلال استراتيجية مكافحة الفساد، مشيرًا إلى أن “مسؤولية التراجع على المؤشر مشتركة بين العديد من الجهات بما فيها السلطتان التشريعية والقضائية ولا تتحملها هيئة مكافحة الفساد الكويتية (نزاهة) وحدها”.
حرية الصحافة والمجتمع المدني.. خطر وتضييق
ونوه التقرير إلى أن هناك خطرًا يداهم حرية الصحافة وهو ما ينعكس سلبًا على مساعي مكافحة الفساد في أنحاء مختلفة من العالم، وكشف تحليل نتائج المؤشر فيما يتتعلق بالعلاقة بين مستويات الفساد وحماية حرية الصحافة ونشاط المجتمع المدني أن غالبية الصحفيين الذين قتلوا منذ عام 2012، قد لقوا حتفهم في بلدان ينتشر فيها الفساد.
كذلك أظهرت نتائج المؤشر أنه خلال السنوات الست الماضية يُقتل صحفيًا واحدًا على الأقل في دولة من الدول الأكثر فسادًا، كذلك يلقى صحفي واحد من أصل خمسة صحفيين حتفه خلال تغطيته لخبر عن الفساد، ولم تأخذ العدالة مجراها في معظم هذه الحالات، وفقًا للتقرير.
كذلك اهتمت منظمة الشفافية الدولية بالبحث في العلاقة بين مستويات الفساد، والحرية الممنوحة لمنظمات المجتمع المدني في التأثير على السياسات العامة، وأظهرت نتائج التحليل أن البلدان التي حصلت على درجات ضعيفة على صعيد الحريات المدنية، تسجل مستويات عالية من انتشار الفساد.