في عهد الدولة العثمانية وعلى يد السلطان عبد الحميد الثاني، جرى تدشين مشروع “سكك حديد الحجاز” أو ما يعرف بـ قطار الحجاز عام 1908، وعمل لفترة ثمانية سنوات بغرض خدمة الحجاج والتجار وربط الأقاليم ببعضها البعض، لكنه توقف عام 1916، بسبب الحرب العالمية الأولى وأعمال التخريب التي لحقت به.
ومن وقتها أغلق باب النقاش فيه، لكن خلال الفترة الأخيرة الماضية دخل المشروع مجددًا في دائرة الاهتمام لدى المراكز الاستراتيجية بعد تصريحات وزير النقل الإسرائيلي الذي طالب بإحيائه لتكون سكك جديدة تنقل التجارة والبضائع الإسرائيلية.
يمر القطار بالعاصمة السورية دمشق والأردن ومدينة تبوك ومدائن صالح ثم المدينة المنورة، كما يتبع هذا الخط تفريعة عبارة عن شريط حديدي يصل لمدينة حيفا التابعة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، والتي ترى أن هذه التجارة من الأفضل لها أن تمر بهذا الطريق، ولا تمر بقناة السويس، لأنها مكلفة ماديًا فضلًا عن عدم توفر مستويات عالية من التأمين. السبب الآخر الذي تحدثت عنه إسرائيل وجود مضيق “باب المندب” ومنطقة الحوثيين و”مضيق هرمز” وكلها مناطق تشهد حالة من التوترات، وبالتالي من الأفضل لإسرائيل أن تمر تجارتها عبر هذه السكك، بحيث تكون نقطة الانطلاق من المملكة الأردنية.
مجلة ‘‘مواطن‘‘ تستعرض تاريخ القطار وأبعاد إعادة تشغيله من جديد، ومن المستفيد الأكبر من ورائه وما أضراره على المنطقة وعلى قناة السويس ومصر تحديدا؟.
مقترح سعودي وإسرائيلي
لم يكن المقترح الذي قدمه وزير النقل والاستخبارات الإسرائيلي يسرائيل كاتس، للحكومة الإسرائيلية وحدها، حيث كانت حكومة المملكة العربية السعودية طرفا ثانيا لدراسة المقترح الإسرائيلي الذي يقضي بإحياء مشروع قطار الحجاز التاريخي، بهدف ربط إسرائيل بالمحيط العربي والمنطقة ككل.
يقول الوزير الإسرائيلي ‘‘إن مقترحه حظي بموافقة من إسرائيلية، ويجري الاتصال مع شركات صينية لبدء العمل في التنفيذ الفعلي للمشروع، وربط الخطوط الحديدية في السعودية والبحرين والإمارات وغيرها، بمدينة حيفا الإسرائيلية، عبر مدينة بيسان، الواقعة على الحدود مع الأردن، ومن ثم إلى معبر الشيخ حسين الحدودي مع الأردن، بحيث تكتمل السكك من منطقة إربد والمفرق الأردنيتين مرورًا بالحدود السعودية، والالتقاء بالسكك الحديدية السعودية، ليتم ربط منطقة الخليج العربي بميناء حيفا على البحر الأبيض المتوسط‘‘.
يرى كاتس، أن إعادة إحياء قطار الحجاز من جديد، أمر قد يكون واقعًا في القريب العاجل، بهدف إيجاد طريق قصير، يصل إلى مدينة حيفا، ونقل واستقبال البضائع من أوروبا والولايات المتحدة عبر البحر المتوسط بكلفة أقل، وذلك في ضوء النقل غير الآمن عبر مضيقي هرمز وباب المندب، والتكاليف الباهظة للنقل من، وإلى، أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
لماذا الشركات الصينية؟
إسرائيل لم تجر اتصالاتها للتنسيق مع شركات صينية ووضع خطط تنفيذ مشروع القطار من فراغ، فكلا البلدين لديهما تعاون اقتصادي وتجاري كبير، وكذا اتفقيات تجارية استثمارية تتخطى قيمتها الملياري دولار، فضلًا عن أن الصين أصبحت شريكا تجاريا لإسرائيل، فتشير بعض الإحصائيات إلى أن حجم التجارة معها تقريبا يصل لـ11 مليار دولار، فضلًا عن أن البلدين لديهما اهتمام مشترك فيما يتعلق بـ”مبادرة طريق الحرير”.
كما تعد الشركات الصينية في مجال النقل، من ضمن المحركات الرئيسة في مشاريع البنية التحتية الإسرائيلية، مثل نظام مترو الأنفاق في تل أبيب، والموانئ في كل من حيفا وأسدود، حيث يعمل في هذه المشروعات قرابة 3500 عامل صيني، وبالتالي رأت إسرائيل أن هذه الشركات الصينية هي الأفضل لإحياء مشروع سكك حديد الحجاز.
ويعد ميناء حيفا واحدا من بين عدد متزايد من الموانئ المملوكة للصين في البحر الأبيض المتوسط- نذكر منها مثلًا ميناء كومبورت التركي، ومينائي جنوا ونابولي الإيطاليين، وهذا بدوره يتيح فرصة للصين ولدول أخرى لتعزيز التكامل الاقتصادي من خلال مشروع “حزام واحد – طريق واحد” (أوبور)، وخاصة في شرق المتوسط والشرق الأوسط، وبالتالي يمكن استغلال الاستثمارات الصينية المتزايدة في كل من تركيا وإسرائيل من أجل توسيع نطاق التعاون الإقليمي، ومن بين هذه المشاريع خط سكك حديد الحجاز.
فلسطين مستفيدة والأردن رابح أساسي
واعتبر كاتس أن الإسرائيليين يريدون منح الفلسطينيين ميناءً بريًا في منطقة الجلمة، قرب جنين، والاتصال بالخطوط الحديدية الإسرائيلية، ونقل بضائعهم من وإلى المناطق الفلسطينية عبر ميناء حيفا، مضيفًا: “سنمكن الفلسطينيين من المشاركة في استعمال الخطوط الحديدية للتواصل مع الأردن، ومع دول الخليج عبر هذا المشروع الإقليمي الكبير، بحيث سيكون الأردن الرابح الأساسي من المشروع الكبير، لأن كل الترتيبات والنقل ومنطقة التشغيل ستكون في المملكة الأردنية، وأنه خُصص مؤخرا نحو ألف دونم في منطقة المفرق لهذا الغرض”.
التجارة التركية
ووفقًا للرؤية الإسرائيلية فإن المشروع يفتح آفاقًا كبيرة أمام الاقتصادين الأردني والفلسطيني، خاصة أن تركيا تنقل بضائعها وتجارتها إلى دول الخليج العربي عبر ميناء حيفا الإسرائيلي، ومن ثم بالشاحنات إلى الأردن، ومن هناك إلى دول الخليج، كما أن نحو 25 بالمئة من التجارة التركية مع الخليج تمر عبر ميناء حيفا والأردن.
التطبيع أحد أهداف المشروع
ولا تريد إسرائيل فقط عبر هذا المشروع تحقيق مكاسب تجارية واقتصادية، ولكن تسعى لتأكيد فكرة التطبيع، حيث تعمل جاهدة من أجل الحصول على اعتراف عربي بدولتها كذلك زيادة العلاقات السياسية والاقتصادية، ومحاولة تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع دول الخليج العربي، حيث يرى جآل ماؤور، المدير العام لإدارة الشحن والموانئ التابعة لوزارة النقل الإسرائيلية، أنه إذا استطاعت الصين الاستثمار فى هذا الممر البري الذى يتضمن ربط مشروعات البنية التحتية فى منطقة الخليج بإسرائيل والأردن لنقل البضائع الصينية العابرة، فإن ذلك قد يدفع دول الخليج العربي إلى إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل، وهنا تأتي المملكة العربية السعودية كطرف قوي تريد إسرائيل التطبيع معها بشكل رسمي، حيث عرضت عليها فكرة المشروع، وهو ما وصف إعلاميًا بالإغراء الإسرائيلي للسعودية.
السعودية وغياب الموقف الرسمي
المعلومات التي أشارت إليها صحف ووسائل إعلامية مثل صحيفتي “بازلر تسايتونج” و”جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، أفادت بوجود اتصالات بين البلدين، لكن لم يظهر حتى اللحظة موقف رسمي من المملكة العربية السعودية بشأن المقترح الإسرائيلي، الخاص بتنفيذ مشروع سكك حديد الحجاز، إلا أن مواقف شخصية اعتبرت الأمر مستبعدا تنفيذه من قبل السعودية ومن قبل دول الخليج العربي ، لأن ذلك سيفتح حملة من الانتقادات عليها أولها الاعتراف بإسرائيل والتطبيع العلني الرسمي معها.
في الوقت نفسه هناك آراء تشير إلى أن المشروع مرهون بتحقيق وتنفيذ مطالب مهمة منها مبادرة السلام العربية وعودة الأراضي الفلسطينية المحتلة ووقف الاستيطان، وفي هذا الصدد يقول الخبير الاستراتيجي أنور عشقي، إن هدف إسرائيل من المشروع إغراء السعودية للتطبيع معها، مشددًا على أن السعودية لن تقبل بالمشروع إلا بعد تحقيق السلام مع الفلسطينيين، على أساس المبادرة العربية للسلام وحل مشكلة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
تأثير مشروع القطار على قناة السويس
ومع هذه الرؤية الإسرائيلية لإحياء مشروع قطار الحجاز من جديد، فإن كثيرا من الأسئلة تطرح نفسها حول مستقبل قناة السويس إذا تم تدشين القطار، ولعل الإجابة واضحة وهي مستقبل يشير إلى حالة إضعاف كبيرة للقناة المصرية ربما يصيبها المشروع بالشلل يلحقه تراجع قوي أكبر مما هو عليه في حركة مرور السفن التجارية ونقل البضائع في المنطقة، ومن ثم ضعف الإيرادات ما يؤثر على الاقتصاد المصري بدرجة كبيرة وكذا الأمن القومي المصري، لأن الحديث هنا عن قناة سويس بديلة لكن هذه المرة قناة برية ممثلة في سكك حديد الحجاز.
وهنا يكون لإسرائيل دور أساسي ومؤثر في المنطقة ككل، ليس سياسيًّا وعسكريًّا، بل اقتصاديًّا أيضًا، خاصة وأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قال في تصريحات صحافية، إن مشروع القطار سيوفر بديلًا عن قناة السويس؛ لتصبح صحراء النقب شريان النقل الرئيسي، الذي يربط الشرق الأقصى مع حوض البحر المتوسط.
ويبقى على المراكز البحثية والمراكز الاستراتيجة دراسة مختلف التحديات والبحث بقوة حول هذا المشروع في حال تدشينه، كما ينبغي أن يؤخذ الأمر بجدية إن كانت دول الخليج العربي تفكر في هذا الطريق البري، وهل فعلًا المستقبل الاستراتيجي لمضيقي هرمز وباب المندب معقد نتيجة العمليات العسكرية والتهديدات القائمة.