لم يعد الإنسان يخجل من العمل (الوضيع) الذي وقف خلفه النبلاء وصنعوا صورته، فأخذ الصانع يغيّر شكل العالم، لذا تراجع الإقطاع وتراجعت معه صور العالم المصطنعة والمغلقة التي حجّمها المجتمع اللاهوتي؛ أصبح العالم أكثر رحابة واتساعًا، بفضل المنجزات التي نجمت عن اكتشاف طرق المواصلات البحريّة، وأُطلق سراح التقنيّات بعد أن كانت قوى الفرد الكامنة مجهولة حتّى تمّ اكتشافها، فتقدّمت وسائل الإنتاج، وظهر التجديد في الفن والموسيقى، وتنوّعت الأنشطة بتنوّع البشر ضدًا على الأنماط الجامدة في الشكل الارستقراطي الأُحادي”، ما أخرج أوروبا من عزلتها وأعدها لدخول عصر جديد أصبحت فيه أكثر انفتاحًا على العالم.
شهدت أوروبا في أواخر العصور الوسطى أو عصور الظلام، وتحديدًا في الفترة بين القرنين الرابع والسابع عشر، انتفاضة ثقافية انطلقت شرارتها في إيطاليا، والتي لم تكن خلالها موجودة ككيان سياسي في الفترة الحديثة المبكرة، بل كانت مقسمة إلى دويلات ومقاطعات صغيرة.
وبدأت في الانتشار شيئًا فشيئًا إلى أنحاء القارة العجوز، وخاصةً بعد اختراع يوهان جوهانسبرج للطباعة وهو الأمر الذي جعل الكتب والأفكار تنطلق بحرية أكبر، ما مهد إلى بداية عصر النهضة في أواخر القرن الخامس عشر.
الأفكار التي امتاز بها عصر النهضة ترجع أصولها إلى مدينة فلورنسا الإيطالية في القرن الثالث عشر، خاصة في كتابات دانتي أليجيري، وفرانشيسكو بتراركا، وجوتو دي بوندوني، موضحين أن البداية كانت عام 1401 عندما تنافس لورنزو جبرتي، مع فيليبو برونليسكي للفوز بعقد بناء الأبواب البرونزية لبيت المعمودية الخاص بكاتدرائية فلورنسا، والتي فاز بها جبرتي، مرجعين ذلك إلى عنصر المنافسة بين الفنانين والمثقفين للفوز بالمشاريع الفنية الكبيرة التي كانت تفسح مجالًا لهم متنفسًا لإظهار إبداعاتهم.
“الطاعون الأسود”
النظريات بشأن نهضة أوروبا وتحديد وقتها وسببها بشكل دقيق اختلفت كثيرًا، فهناك رأي يشير إلى البداية من إيطاليا، وذكر مؤرخون أن مرض “الطاعون” الذي أصاب أوروبا بين عامي 1348 و1350، وضرب إيطاليا بشكل شديد كان السبب في تلك النهضة، مشيرين إلى أنه كان سببًا في تحول نظرة الإيطاليين للعالم من حولهم في القرن الرابع عشر، فالألفة مع الموت جعلت المفكرين يتأملون أكثر في حياتهم على الأرض بدلًا من الحياة الآخرة والروحانية.
بحسب المؤرخ جيري بروتون من جامعة أوكسفورد بكندا، في كتابه “عصر النهضة: مقدمة قصيرة جدًا” كان لـ”الطاعون” فضل كبير في تلك الفترة، حيث ساهم بشكل كبير في انتشار “العلمانية”، والتي ازدهرت في أوروبا عمومًا، وفرنسا خصوصًا بعد عجز الكنيسة عن تقديم المساعدة ضد الموت الأسود.
“أسباب الحياة الجديدة”
تعددت أسباب قيام النهضة الأوروبية وعواملها، وكان أهمها سقوط العاصمة البيزنطية القسطنطينية تحت الحكم العثماني عام 1453م، والتي دفعت علماء قسطنطين على الهجرة إلى إيطاليا، ونقل الكتب الإغريقية وما خلفه الإغريق من تماثيل وأدوات قديمة، وهناك تعاونوا على بعث الثقافة اللاتينية وتطويرها في قالب جديد كان نواة للنهضة الأوروبية، وفق ما ذكر المؤرخ الإنجليزي جون جوليوس نورويتش في كتابه “تاريخ قصير من بيزنطة”.
وانتشرت أفكار عصر النهضة في القرن الخامس عشر بسرعة كبيرة من مكان نشأتها في فلورنسا، حيث انتشرت أولًا في بقية إيطاليا ومنها إلى باقي أوروبا، وأتاح اختراع المطبعة الانتقال السريع لهذه الأفكار الجديدة، ومع انتشارها، تغيرت أفكار النهضة وتنوعت لتتكيف مع الثقافات المحلية، وفي القرن العشرين عمد الباحثون إلى تقسيم النهضة إلى حركات إقليمية ووطنية.
وساهم اعتماد اللغة المحلية في الفنون والثقافة في حدوث ازدهار فكري وثقافي في أوروبا، حيث كانت اللغة اللاتينية هي اللغة الرسمية للعلم والثقافة والدين، ما دفع المفكرين إلى اعتماد لغة وطنية أو رسمية لكافة أبناء الشعب، وقد كان لتشجيع بعض الحكومات الأوروبية للغات القومية السبب الرئيسي في الحفاظ على اللغات الأم، مثل الفرنسية والإنجليزية والإيطالية وغيرها.
المدن التجارية أيضًا، مثل “جنوة وميلان وفلورنسا” كان لها دور، فبفضل التجار تحولت من مستودعات إلى مراكز قبل أن تصبح مدن، ما ساعد في بث شرايين الحياة داخل المجتمعات، عبر توفير السلطات لقضائية والتشريعية وغيرها من الأسسس والبنى اللازمة لتأسيس المدن بشكلها المتعارف عليه، وهو ما ساهم في حفظ سير تجارتهم، وأدى بطريقة غير مباشرة إلى نهوض تلك المدن بفضل الحركة التجارية وتحولها إلى مرافئ تجمع الناس من كل الأعراق وتصنع حراكًا متبادلًا.
“مظاهر النهضة”
ومع بزوغ شمس النهضة، بدأ نظام الإقطاع في التلاشي والزوال نتيجة موت عدد كبير من أمراء الإقطاعيين في الحروب الصليبية، وانصراف بعض الإقطاعيين إلى ممارسة التجارة، فتحرر الفلاحون، ولم يتمكن من بقي من الإقطاعيين من مقاومة التغيرات التي حصلت نتيجة النهضة.
ويرى المؤرخ الإنجليزي كوينتين سكينر في مجموعته: “أسس الفكر السياسي الحديث عصر النهضة” أن تطوير أساليب الحكم، والأفكار الجديدة للعديد من المفكرين في القارة مثل الإيطالي مكيافيلي والفرنسي جون رودان والإنجليزي هوبس ساهموا في تدفق الثروات، الناتجة عن الاكتشافات الجغرافية الكبرى لإسبانيا والبرتغال في البداية، حيث ساندت الطبقة المتوسطة الملوك على استتباب الأمن والنظام، والقضاء على الإقطاع فضلًا عن تكون الرأي العام ونمو اللغات المحلية وظهور الروح القومية، وكان لهذه العوامل أثرها الفعال في قيام الدول الأوروبية الحديثة.
وأدى اهتمام الأوروبيين بالدراسات الإغريقية واللاتينية، والتي وجدوا معظم مجلداتهم في الكنائس والأديرة، وعكفوا على دراستها، وترجمتها إلى اللغات المحلية إلى فتح نوافذ المعرفة أمام غالبية الشعب.
وفي تناقض شديد مع العصور الوسطى، ففي وقت كان الباحثون اللاتينيون يُركزون فيه بشكل كامل على دراسة أعمال العلوم الطبيعية والفلسفة والرياضيات عند العرب واليونانيين، كان الباحثون في عصر النهضة مهتمين في دراسة واستعادة النصوص الأدبية والتاريخية والخطابية لدى اللاتينيين واليونانيين.
وقال المؤرخان بيتر وليندا موري في كتابهما “فن عصر النهضة”، أن ذلك ساعد أيضًا في اكتشاف النصوص القديمة واختراع الطباعة على نشر العلم وتوالد الأفكار، ووجد رجال الفن والأدب في تلك الفترة في الفنون الكلاسيكية القديمة نماذج يحتذون بها ويستمدون منها الإلهام. فعكفوا على دراسة المخطوطات القديمة والآثار والمخلفات الفنية.
وأوضحا أن المشتغلين عرفوا بهذه الحركة باسم “الإنسانيين” Humanists، حيث كان الإنسان محور اهتمامهم، فكان ذلك خروجًا على ما جرت عليه الأعراف في العصور الوسطى من تدين وتقشف وزهد واحتقار لكل ما هو دنيوي ومادي وجسدي. ويقال أيضًا عن سبب تسميتهم بهذا الاسم لأنهم كانوا يسمون دراسة الثقافة القديمة بـ “الآداب الإنسانية”.
وفضل الإنسانيون الدراسات الإنسانية على الفلسفة الطبيعية وتطبيقات الرياضيات، وعزز تبجيلهم للمصادر الكلاسيكية رؤاهم الأرسطية والأفلاطونية للكون.
وكان من أبرز إنجازات علماء عصر النهضة جلب الإنتاج الثقافي الإغريقي كاملًا إلى غرب أوروبا للمرة الأولى منذ العصور القديمة. ويُرجع البعض تاريخ حركة إعادة دمج النصوص اليونانية الأدبية والتاريخية والخطابية واللاهوتية في مناهج أوروبا الغربية إلى دعوة كولوتشو سالوتاتي للدبلوماسي والعالم البيزنطي مانويل كرايسالريس (حوالي 1355-1415) لتدريس اليونانية في فلورنسا.
ونتج عن عصر النهضة تحولات كبرى فى السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا، كما ساعد تطوير صناعة السفن والتقدم فى علم الفلك على تسهيل حركة الملاحة والتجارة بين دول العالم وبالتالي تغيير نمط الاقتصاد العالمي.
الثورة العلميّة بدأت بعدَ نشرِ نيكولاس كوبرنيكوس نظريّة مركزيّة الشمس في العام 1543، تضمّنت الاكتشافات العديدة في الثورة العلميّة القوانين الثلاثة للحركة الكوكبية ليوهان كبلر، ونظريّات جاليليو جاليلي في الحركة والعطالة والنظرة الجديدة لآلية عمل النجوم من طرفِ تيخو براهي، حسبَ قسم التّاريخ لجامعة إنديانا، كما ظهرت الاكتشافات الجغرافية، لا سيما اكتشاف كريستوفر كولومبس لأمريكا في عام 1492.
وانتهت الثورة العلميّة باكتشاف إسحق نيوتن لقانون الجاذبيّة وفهمهِ للكون الميكانيكي مع نهايات القرن السّابع عشر.
الحركة الثقافية والفنية في تلك الفترة شهدت رواجًا كبيرًا، كما ذكرنا مسبقًا، بفضل إبداعات: “وليام شكسبير، وكريستوفر مارلو، وأدموند سبنسر، توماس مور، فرانسيس بيكون”، فضلًا عن ظهور العديد من الفنانين والرسامين، مثل: “ليوناردو دافنشي، ومايكل أنجلو و جان فان إيك، وهيرونيموس بوش”.
“عصر التنوير”
ومع أفول شمس القرن السادس عشر، بدأت أوروبا مرحلة جديدة في تاريخها، حيث قادت أفكار عصر النهضة الأوروبيين لدراسة العالمِ الملموُس بشكل أقرب، ما قادهم إلى دراسات علميّة أعظم، وبدأ مفهوم التنوير والذي نشأ في إنجلترا وتطور في فرنسا في الانتشار ليشمل أي شكل من أشكال الفكر الذي يزيد تنوير العقول من الظلام والجهل والخرافة، مستفيدًا من نقد العقل ومساهمة للعلوم، كما أكد الباحث الإنساني جيانوتسو مانيتي في كتاب “على الكرامة والتميز في الإنسان”.
“إعمال العقل” في العقود السابقة، دفع مسحيي أوروبا إلى مقاومة الأفكار الباطلة من الكنيسة، وكسر سطوتها التي كانت مدعومة من الحكام حينها لحاجتهم إلى طاعة العامة، كانت الفلسفة التنويريّة مُشكّكَة في كلّ من الدّين -خصوصًا الكنيسة الكاثوليكية القويّة- والأنظمة الملكيّة والأرستقراطيّة المُورّثة.
وفي عام 1517م أخرج القس مارتن لوثر أطروحته في انتقاد الكنيسة الكاثوليكية وقد شرحها في 95 بندًا، لتكون تلك نقطة انطلاق الإصلاح البروتستانتي، والذي استند أيضًا على العمل الذي قام به مصلحون مختلفون مثل جون ويكليف وجون هوس وآخرون، وفق ما ذكر المؤرخ الفرنسي الشهير جان دوليمو، في كتابه “الخوف في الغرب”.
وانتشرت في أوروبا الحركة الفكرية للتنويريين الفرنسيين الذين تعمقت جذورهم في الثقافة الإنجليزية، وعرف فولتير ومونتسكيو وفونتانيلي كمبشريين لهذه الفلسفة الإنجليزية التي تقوم على العقل التجريبي والمعرفة العلمية، العناصر الأساسية لفكر لوك ونيوتن وديفيد هيوم والذين يرجعوا بدورهم لأفكار فرانسس بيكون.
بدأ الفكر التنويري يتحرك في أوروبا شيئًا فشيئًا مواكبًا للثورتين المعرفية والعلمية، وأخذت المعرفة تتعمق في القرن الثامن عشر ليس كنظرية معرفة حسب، بل كنظرية للإنسان والمجتمع.
كان عصر التنوير وما أنتجه من أفكار وضعية وعقلانية ملهمًا لعدد من الثورات الاجتماعية والسياسية شهدتها أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أسفرت عن قيام الدولة الحديثة، وقد ارتكز قيام هذه الدولة على وجود بيروقراطية، وقيام جيش كمؤسسة قوية ومتمتعة باستقلال نسبي، وسيادة جو من العقلنة في التنظيم.
وسادت في هذه الدول أنظمة سياسية بديلة من أنظمة القرون الوسطى، بحيث قامت هذه الأنظمة بانتزاع الصفة الإلهية عن سلطة الملوك فاصلة الدين عن الدولة.
أصول الأفكار الفلسفية
وعن تلك الفترة تقول الكاتبة والمؤرخة سوزان آبرنيثي: “بدأت أصول الأفكار الفلسفيّة التي أدّت لظهور التّنوير خلال حرب الثلاثين عامًا (1618-1648). لقد كان صراعًا طويلًا ودمويًّا واندلعَ بشكل أساسي من أجل الدّين وسبّبَ اضطرابًا اجتماعيًا كبيرًا. فبدأ الناس بالتشكيك في مفاهيمَ مثل الوطنيّة والحرب”.
وأضافت في تصريحات صحافية لموقع “livescience”: “خلال عصر التّنوير، كان هناك تركيزٌ أكبر على المناهج العمليّة، وعلمنة التعليم، والتسامح الدّيني، والتعليم العام، والحريّات الشخصيّة، والعقلانيّة، والفصل بين الكنيسة والدّولة”.
ولعب نظام التعليم دورًا هامًا للغاية في نقل أفكار ومُثل عصر التنوير، حيث كان نظام التعليم في أوروبا خاضعًا للتطوير بصفة مستمرة، وقد استمرت تلك العملية خلال فترة عصر التنوير والثورة الفرنسية، أخذ تطوير نظام التعليم في التنامي، وأدى إلى ظهور عدد كبير من العامة ممن لديهم القدرة على القراءة، بالإضافة إلى انفجار ثقافة الطباعة، والتي ساعدت على توفير احتياجات الطلب المتزايد من القراء بين مجموعة واسعة من الطبقات الاجتماعية.
وشكلت هذه الحركة أساسًا وإطارًا للثورة الفرنسية والأمريكية وحركات التحرر في أمريكا اللاتينية واتفاقية 3 مايو في كومونولث بولوني-ليثواني. كما مهدت هذه الحركة بالتالي لنشوء الرأسمالية ومن ثم ظهور الاشتراكية.
خروج أوروبا من عزلتها الفكرية التي فرضها عليها كهنوت الكنيسة والانفتاح الفكري والاطلاع على تراث الثقافات الأخرى، إلى جانب أن نشاط الحركة التجارية والتعامل مع الآخر فتح آفاقًا جديدة لأوروبا جعلها أكثر مرونة واستقبالًا لكل ما هو جديد، سواءً على مستوى العلوم أو الآداب وحتى على المستوى السياسي فهذه الدويلات المتناحرة توحدت لتصنع كيانات كبرى ذات مصلحة مشتركة وقومية ولغة واحدة.
كما لعب اكتشاف العالم الجديد دورًا أيضًا في هذا الانفتاح الذي أدى إلى ازدهار الفكر الأوروبي وتحول تلك القارة من عصور الظلام إلى منارة التنوير في العالم، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة في تاريخها يقودها إلى الثورة الصناعية، والتحول من الاقتتال الداخلي إلى مرحلة الاستعمار والسيطرة على العالم، والتي بدأت مع حروب نابليون بونابرت.