‘‘الباب الذي يجيلك منه الريح سده واستريح‘‘.. المقاطعة سلاح فعال تستخدمه الشعوب أحيانا ضد حكوماتها للحد من تغولها ضد الفقراء برفع أسعار منتجات الأغذية، فقد أثبتت الأيام أن المظاهرات والاحتجاجات التي تقوم بها بعض الحركات والتي تتمثل في السير بالشوارع والاعتصام في الميادين وتكسير وهدم المنافع العامة غير مجدية، لأن الاحتجاجات يقابلها رد فعل قوي من قبل الشرطة والجيش واستخدام الرصاص الحي لذلك تنفض هذه المسيرات سريعا.
لكن تطور التغول الحكومي المتمثل في الاتفاق غير المعلن مع التجار ورجال الأعمال على رفع الأسعار، ألهم الجماهير هي كذلك أن تبتكر سلاحا ناجعا بعيدا عن الأسلحة المتهالكة التي تَنفق فورا عقب قيامها، فكان سلاح المقاطعة هو الحل.
المغاربة والمصريون والجزائريون والتوانسة، نجحوا بالفعل ربما استفادوا من مقولة الخليفة عمر بن الخطاب الذي جاء إليه الناس في يوم من الأيام ليشتكوا له غلاء الأسعار ورفع التجار لسعر اللحم بصورة لم يستطيعوا معها شراءه، فما كان من الخليفة –القادر على إصدار فرمان لخفض الأسعار- إلا أن قال ‘‘لهم ارخصوه أنتم‘‘ فسألوا وكيف لنا هذا؟ فقال ‘‘اتركوه للجزارين يرخص سعره‘‘.
المقاطعة الاقتصادية التي أحدثت دويا مؤخرا هي المقاطعة المغربية والتي كان شعارها ‘‘خليه يريب‘‘ فبعد أن رفع التجار أسعار منتجات الألبان كان رد المغاربة الفوري بمقاطعة شراء هذه المنتجات لتفسد عند أصحابها، قائلين، التاجر الذي يرفع ثمن الحليب، قل له خليه يريب، دعه يفسد عندك.
من جهتها استطلعت مجلة ‘‘مواطن‘‘ أبرز حملات المقاطعة التي قامت في بعض الدول العربية والعالمية وبيان جدواها في هذا التقرير.
بلاد المغرب العربي على خط النار
في المغرب مؤخرا قامت حملة مقاطعة للغلاء ترتب عليها ‘‘إفساد ملايين اللترات من الحليب‘‘ اعتراضا على رفع الأسعار، البعض يرى أن ذلك رد طبيعي على جشع التجار، بينما رأى آخرون أن هدف هذه الجملة سياسي في المقام الأول.
وعلى هذا يعلق الكاتب المغربي قائلا “المواطن تضاعفت معاناته بسبب الزيادات، ولا أحد يرحمه حتى جمعيات حماية المستهلك التي من واجبها الاصطفاف للطرف الضعيف، اختارت الصمت ولم تصدر أي بلاغ، لكن يبدو أنها تختار الطرف الرابح دائما كما هو الحال بالنسبة للعديد من السياسيين”.
خليه يعوم وصندوق النقد
حملة دولة المغرب للمقاطعة لم تكن بغريبة عن بلاد المغرب العربي، فقد سبقها لهذا الأسلوب الجزائر وتونس، حيث دعا تونسيون لمقاطعة شراء عدد من السلع الغذائية، اعتراضا على الارتفاع المتواصل لأسعارها، وأطلق المتضررون من الأسعار حملات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في شهر أبريل الماضي، دعوا فيها إلى مقاطعة شراء 8 سلع غالبيتها غذائية.
اشتملت قائمة المنتجات المقاطعة على الألبان، والزبادي، والبيض، والموز، والطماطم، إضافة إلى اللحوم، ومؤخرا الأسماك، التي أطلق المتضررون من ارتفاع أسعارها حملات، بعنوان” خليه يعوم”.
خليه يعوم هي اسم حملة المقاطعة التي دشنها التونسيون بسبب غلاء أسعار الأسماك التي لا يوجد من داعٍ لغلائها، فتونس يحيطها البحر الأبيض المتوسط من جانبيها.
يقول الخبير الاقتصادي التونسي، مختار بن حفصة ‘‘إن ارتفاع أسعار السلع والخدمات هو نتيجة طبيعية لتنفيذ الحكومة التونسية لأوامر صندوق النقد الدولي‘‘ مضيفا، أن الصندوق يشترط عند إقراض أي من الدول تنفيذ عدة إجراءات، بغض النظر عن الظروف والسياق الذي تمر به كل دولة، من ضمن تلك الشروط خفض قيمة العملة المحلية، لتحقيق التوازن المالي على مستوى ميزان المدفوعات، فيعتبرون خفض قيمة الدينار يشجع على زيادة الاستثمار الأجنبي.
بينما كشف تقرير لإذاعة فرنسا الدولية ” RFI”، أن زواج المال والسلطة وراء اتساع حملة المقاطعة التي يقودها نشطاء مغاربة عبر وسائل التواصل ، لمقاطعة منتجات ثلاث شركات رئيسية في مجال الماء والحليب ومشتقاته والوقود.
خليها تصدي تزعزع استقرار الجزائر
كشفت حملة ‘‘خليها تصدي‘‘ أو ‘‘اتركها تصدأ‘‘ التي أطلقها مجموعة من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي وساندها المجتمع الجزائري -احتجاجاً على الأسعار الخيالية التي دخلت بها السيارات عام 2018- الكثير من الخبايا التي كان يقوم عليها سوق السيارات، حيث أكد خبراء في المجال، أن الحملة تسببت في تراجع أسعار بعض الماركات التي يتم تركيبها في الجزائر بـ 500 ألف دينار جزائري، وهو أمر لم يكن متوقعا، وفاجأ العديد من المنتجين الخواص، وحتى بعض المسؤولين في الجزائر.
وكشف المحلل الاقتصادي الجزائري كمال رزيق، فيقول في تصريحات له أن الوضع قد تجاوز الخطوط الحمراء، بعد تهديد بعض المؤسسات التي تقوم بتركيب السيارات في الجزائر، بتسريح جزء من عمالها بعد تراجع المبيعات لديها.
وأرجع ما يحدث من قبل التجار، لبعض المنتجين الذين قرروا استرجاع استثماراتهم المالية في ظرف وجيز، من خلال تضخيم هوامش الربح، في حين كان عليهم تأجيل ذلك لسنوات أخرى بحسب تعبيره.
في ظل هذا الخضم الحديث من المقاطعة لا يمكن أن نتناسى المقاطعة الفلسطينية لكثير من المنتجات الإسرائيلية، فما زالت حملات مقاطعة المنتج الإسرائيلي هي وجع صامت في رأس الكيان المحتل، خاصة بأن السوق الفلسطيني يعد ثاني أكبر سوق لتصريف منتجاتها، ومع ظهور المقاطعة أدت لنتائج كارثية ابتدأت بالمقاطعة الاقتصادية واتسعت لتشمل مقاطعة أكاديمية، ثقافية، طبية، رياضية وحتى زراعية، لكن تبقى الأرقام مجهولة حول كم الخسائر الحقيقية لإسرائيل وواقعها الاقتصادي تحديدا بعد مقاطعة العديد من الدول الأوروبية لها ببعض المجالات.
وفي هذا السياق يؤكد مخيمر أبو سعدة رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الأزهر، أن حملات المقاطعة الفلسطينية ضد المنتجات الإسرائيلية بدأت منذ عدة سنوات تحديدا في عهد رئيس الوزراء الفلسطيني السابق الدكتور سلام فياض، بإطلاق حملة لمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، بمعنى أن أي منتج إسرائيلي صُنع في إسرائيل بغض النظر عن نوعيته تتمُ مقاطعته على اعتبار أن المستوطنات غير شرعية وغير قانونية وهي مخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة، ومقاطعة المنتج الإسرائيلي والمستوطنات حق كل فلسطيني أن يقوم به، لكن فيما بعد تطورت حملات المقاطعة الفلسطينية لتشمل كافة المنتجات الإسرائيلية التي لها بديل آخر وطني فلسطيني بسبب استمرار الاحتلال والتوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي ونهب إسرائيل للحقوق الفلسطينية، بالتالي فإن هذه الحملات كان لها صدى فعال وواسع في الضفة الغربية، بينما في القطاع فبسبب الحصار وتحكم إسرائيل في المعابر فلم يكن لها نجاح كما في الضفة الغربية.
تجارب عالمية
أثبت هذا السلاح جدواه في دول كثيرة لعل أبرزها الأرجنتين حيث تعد تجربة مقاطعة الشعب الأرجنتيني لتجار البيض من أفضل التجارب التي يستشهد بها الاقتصاديون؛ لتأكيد مدى التأثير الناتج لامتناع المستهلكين عن شراء منتج معين لفترة زمنية ممتدة، حيث تفاجأ الأرجنتينيون في أحد الأيام من ارتفاع أسعار البيض بعد أن اتفق جميع التجار وأصحاب مزارع الدواجن لرفع سعر البيض في وقت واحد، تراجع الشعب الأرجنتيني عن الشراء بشكل جماعي وبدون أي دعوات أو حملات للمقاطعة، حيث كان لسان حالهم يقول «لن يضرنا عدم أكل البيض لفترة»؛ لتكون المفاجأة للتجار عندما علموا من موزعيهم رفض كافة المتاجر لاستقبال أي كمية بيض جديدة لعدم بيعهم أيٍّ من الكميات القديمة المتكدسة على الرفوف.
الهند واستغراب غاندي
أيضا كانت للهند تجربة مع المقاطعة، ذلك بعد أن اتفق الهنود على عدم شراء أي منتجات تقوم بتصنيعها الشركات البريطانية داخل وخارج الهند والتي تكبدت خسائر مادية فادحة أثرت في اقتصاد قوة الاحتلال في الأراضي الهندية، وكانت الفكرة التي أطلقها «المهاتما غاندي» وتفاعل معها الشعب الهندي من خلال «نعمل لهم، ولا نشتري منتجاتهم»، وبالتالي يستلمون رواتب منهم فيما لا يحصلون على أي مقابل أو أرباح .
ورغم أن «غاندي» لم يكن يتوقع أن يتحطم اقتصاد المستعمر من خلال فكرة المقاطعة؛ إلا أنه كان متأكداً من قوة إرادة الشعب الهندي وعزيمته لمقاطعة المنتج الأجنبي وإحلال المحلي بدلًا منه.
قوة المقاطعة
يؤكد -في تصريحات له- الدكتور عبيد العبدلي -أستاذ التسويق بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن- أن فكرة المقاطعة الشعبية باعتبارها حقاً مشروعاً للمستهلك؛ الذي يرى بأن هناك تلاعباً بالأسعار في ظل غياب الرقابة الجادة من الجهات ذات الاختصاص لقمع ارتفاع الأسعار بشكل غير مبرر، وهو ما تقوم به جميع المجتمعات المدنية المتحضرة لإيصال رسالة من جهتهم للشركات والتجار برفضهم للأسعار الغالية، وذلك بأسلوب بسيط وهو الامتناع عن شراء السلع الغالية والاتجاه لسلع بديلة.
وأضاف، ما ينقصنا لإنجاح حملات المقاطعة هو ثقافة الاستهلاك والمطالبة بحقوق المستهلك، من خلال حس المسؤولية لدى كل مواطن الذي يقوم باستبدال أي سلعة يجد بأن سعرها قد ارتفع بدون مبرر، مع عدم الحاجة لوجود شخص أو جهة تدعو لضرورة المقاطعة، كما يحدث عند الأسواق من قيام البعض بنشر منشورات لمقاطعة منتج معين دون تفاعل أو اهتمام من قبل المستهلك الذي من المفترض أن يقاطع بشكل ذاتي لتكون النتيجة فعالة ومجدية.