أسئلة كثيرة تراود متابعي خطب الرؤساء والملوك أهمها من يكتب خطابات هؤلاء الزعماء، ومن يساعدهم على إلهاب مشاعر الجماهير والتأثير في عقولهم، فكثير من المعطيات كالتعليم والثقافة والخلفيات خاصة العسكرية، تؤكد أنه لا يمكن لرئيس دولة مهما أوتي من قوة العبارات وجزالة الألفاظ، أن يحسن استغلال ذلك للخروج بكلمات وجمل تستثير العاطفة وتلهب العواطف على طول الدوام، فربما خانه اللفظ حينا أو فقد التعبير في حين آخر.
لذا لجأ كثير من الرؤساء للخروج من معضلة رهاب الخطبة والخوف من ضعف التأثير على الجماهير الغاضبة في كثير من الأحيان والسعيدة في أحيان أخرى، لبعض الكتاب المرموقين لكتابة خطبهم الشهيرة لإبقاء الشعوب على وتيرة واحدة. في كثير من الأحيان يُعرف هؤلاء الكتاب، غير أن الكثيرين منهم مجهولون، اختبؤوا خلف الأبواب وظهروا على الجماهير في شكل خطب وكلمات تنسب لزعيم الأمة ورئيسها أو ملكها، وهذا الإعجاز الذي يُكتب والذي تحوله ألسنة الرؤساء لحكايات ووقائع تروى أو أحاديث تسرد أو كلمات تحرك المشاعر ليس مقتصرا على رئيس دولة بعينها أو شخصية محورية بل هو ديدن كل الحكام.
يقول الكاتب عادل السنهوري “في دول المؤسسات لا يتحدث الرئيس من تلقاء نفسه في الهواء الطلق دون أن يكون هناك مشاورات واجتماعات مع مستشاريه المتخصصين لتحديد عناصر الخطاب ومداخله ولغته وإشاراته والعبارات التي يركز عليها وفقا للمناسبة التي يتحدث فيها ونوعية الجمهور والرسالة التي يريد توجيهها والأهداف منها”. الرئيس في دول المؤسسات في الغالب لا يرتجل مهما بلغت بلاغته وفصاحة لسانه وقوة لغته لأنه بالتأكيد سيخرج عن النص وقد تخونه كلماته وعباراته وتصيب أهدافا خاطئة تماما ولا تحقق الغرض منها بل قد تأتي بنتائج عكسية على عكس ما يشتهي الرئيس. في هذه السطور التالية تسلط «مواطن» الضوء على أبرز الرؤساء والحكام الذي ألهبوا المشاعر بكلماتهم للتعرف على من وقف خلف الكواليس وحرك ألسنتهم.
هيكل وعبدالناصر علاقة لم تنقطع
عندما تطرح قضية كتاب الرؤساء وتخرج للعيان كل حين، يتبادر الى الذهن الكتاب والإعلاميون ورؤساء تحرير الصحف ومنهم محمد حسنين هيكل وحكاياته مع عبدالناصر، غير أن هيكل لم يكن فقط يكتب خطابات الرئيس المصري جمال عبد الناصر؛ بل حرر كتابه “فلسفة الثورة” أيضًا، وصنع بخطاباته زعيما يتابعه المصريون ويحفظون كلماته، إلا أن خطاب التنحي هو الوحيد الذي لم يكتبه.
السادات بين الفصحى والارتجالية
كان أشهر كاتبين لخطب الرئيس المصري الراحل أنور السادات الكاتبين موسى صبري وأحمد بهاء الدين الذي اختلف معه في أحد خطاباته، وفي هذا يؤكد موسى صبري أنه كان يجيد التعبير عما يريده السادات، بينما أكد بهاء الدين أنه اختلف مع السادات في كتابة خطاب ما بعد 18 و19 يناير 1977، فقد كان يرى المظاهرات مجرد “انتفاضة حرامية” بينما رآها هو انتفاضة اجتماعية لأسباب اقتصادية، وأنها نتيجة مباشرة لسياسة الانفتاح الاقتصادي، الذي أطلق عليه بهاء “انفتاح السداح مداح”.
وفي حرب أكتوبر التزم السادات بنص الخطاب المكتوب، وكان قليل الخروج عليه، لذا كان يتحدث بالفصحى، وبعد الحرب اكتسب شرعية جديدة غير التي اكتسبها من سلفه جمال عبدالناصر، ولذا تحرر من الخطاب الرسمي المعد له، وبدأ يرتجل في الخطاب ويخرج على النص، وفي السنوات الأخيرة، خاصة بعد عام 1976 كانت بعض خطبه ارتجالا كلها ولم يكن يلتزم بالنص.
سوريا على درب الأدباء
في سوريا لم يختلف الوضع فبداية من أديب الشيشكلي مرورا بحسني الزعيم وشكري القوتلي وأمين الحافظ وانتهاء بحافظ الأسد اعتمد هؤلاء الرؤساء دائما على الكتاب وأهمهم أكرم الحوراني، ونذير فنصة وفؤاد الشايب ومنذر موصلي وأخيرا الكاتب الفلسطيني أسعد كامل.
يقول الكاتب السوري مفيد نجم “الحوراني هو الإقطاعي الأحمر، صانع الانقلابات والحكومات، العسكري في ثياب مدنية، الاشتراكي العلماني في المدينة السورية الأكثر محافظة. صفات كثيرة أسبغت على أكثر شخصية إشكالية في الحياة السياسية السورية، هي شخصية أكرم الحوراني، الذي يعد من أهم الشخصيات السياسية التي ساهمت في صنع تاريخ سوريا الحديث”. غير أن الوضع اختلف بتولي بشار الأسد مقاليد الحكم حيث يعد من أشهر من ارتجلوا خطاباتهم، ووصفت خطاباته بأنها صبت في قالب الحزب والدولة.
لبنان وتسجيل حياة الرئيس
أما في لبنان فكان أشهر من كتب خطابات الرئيس إلياس هراوي الدكتور مناف منصور الذي رافق الهراوي وكتب معظم خطبه طوال مدة رئاسته التي امتدت لتسعة أعوام، كما رافق الوزير السابق جوزيف الهاشم الرئيس أمين الجميل طوال فترة ولايته وكتب جزءا كبيرا من خطاباته. يقول الكاتب واصف عواضه في كتابه “ليس كمثله يوم”: “إذا كان من شخص يمكن أن يسجل حياة الرئيس إلياس هرواي وطرائفه والحوادث التي مر بها خلال 9 سنوات من الحكم فهو الصديق الدكتور مناف منصور، ثم الزميلة الآنسة مي كحالة فقد رافقا مسيرته الرئاسية لحظة بلحظة”.
الأردن كتاب الملك حسين
كثر الكتاب في عهد ملك الأردن الراحل الملك حسين فكان هناك سعيد المفتي وأحمد اللوزي وسمير الرفاعي وزيد الرفاعي وحيدر محمود ومحمد دواوية وخالد محادين، يقول أحد الباحثين “إن الأردن كانت تعي أهمية الخطاب الذي يعكس شكل الدولة إذ لا دولة بلا خطاب أو بلا مجموعة من الخبراء الذين يكتبون ويصيغون الخطاب كذلك لا سلطة بلا خطاب”.
المغرب ورحلة زليخة
كذلك اختار الملك محمد السادس ملك المغرب بعض المستشارين لكتابة خطاباته منهم أندري أزلاي ومزيان بلفقيه ومحمد معتصم وزليخة نصري وعباس الجيراير. كانت الراحلة زليخة نصري تعد أوّل امرأة مغربية تتوّلى منصب مستشارة للملك في تاريخ المغرب، حاصلة على دكتوراه الدولة في القانون الخاص، وقد عملت سابقًا كاتبة للدولة في الحكومة المغربية مكلفة بملف التعاون الوطني.
سورنسن وجون كيندي
لعب سورنسن دورًا حاسمًا في صياغة الرسائل بين كيندي وغورباتشوف وخطاب كيندي للأمة الأمريكية بعد أزمة 22 أكتوبر، وقد تأثر باغتيال كيندي واعتبره أقسى تجربة مر بها في حياته ولم ير أي مستقبل لأمريكا من بعده. ورفض ليندن جونسون استقالته حتى كتب له خطابه أمام الكونجرس واستقال سورنسن وكتب سيرة كيندي الذاتية، وقد رافقه آرثر شيلنجر وريتشارد جودوين في كتابة خطابات كيندي.
بريطانيا على الدرب
وفي بريطانيا «رونالد ميلر»، مؤلف وممثل مسرحي وكاتب خطابات مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء الحكومة البريطانية والتي لُقبت بـ «المرأة الحديدية»، خلال الحرب العالمية الثانية التحق ميلر بالبحرية الملكية ليبدأ العمل بالتأليف المسرحي بعد انتهاء الحرب وانتقاله لهوليوود والتعاقد مع المسارح حتى عاد لبريطانيا وأعد روايات ويليام كلارك للتمثيل على خشبة المسرح، وبدأ بعدها في كتابة خطابات «المرأة الحديدية».
استراتيجيات الإقناع
يقول الباحث الدكتور عماد عبداللطيف في دراسة عنوانها “استراتيجيات الإقناع والتأثير في الخطاب السياسي”: “تثير خطب الرئيس، أي رئيس، قضية “الكاتب الخفي” ذلك أن هناك من يكتب للرئيس خطبه، وفي بلادنا لا يتم الإعلان عنه لأن الرأي العام يتصور أن الرئيس يجب أن يكون متحدثا لبقا وخطيبا مفوها، وفي بعض الدول المتقدمة مثل فرنسا والولايات المتحدة هناك هيئة معروفة تتولى صياغة خطب الرئيس ويعلن أسماء من يكتبونها، لكن لم يكن الأمر كذلك في البداية، الرئيس الأمريكي جورج واشنطن كان هناك من يكتب له خطبه، لكنه كان كاتبا سريا، لم يعلن عنه، وهكذا الحال بالنسبة للرؤساء العرب، وفي مصر نعرف أن محمد حسنين هيكل كان يكتب خطب الرئيس عبدالناصر، وهو من تولى كتابة خطب السادات خاصة في بداية حكمه، وبعد ذلك كان هناك موسى صبري وأحمد بهاء الدين”.
ويؤكد الكاتب حلمي النمنم، أن الخلفاء ألقوا العديد من الخطب في المناسبات المهمة، وكان هناك من يعدون تلك الخطب وأيضا يكتبون الرسائل لهم، وعرفت الخلافة “ديوان الإنشاء” وعرفنا عبدالحميد الكاتب نموذجا لذلك، وله دراسات ورسائل في إعداد الكاتب وتكوينه، وبعد سقوط الدولة العباسية ضعفت الخطابة والخطاب السياسي لأن الحكام المماليك لم يكونوا يتكلمون العربية، ومن ثم لم تعرف لهم خطب ولم يعرف عن أحدهم خطبة بعينها. وأضاف، في تاريخنا المعاصر لعبت الخطابة السياسية دورا مهما في كثير من الأحداث.، فقد كان الزعيم مصطفى كامل يعتمد على الخطابة في تهييج المشاعر العامة ضد الاحتلال البريطاني، وكانت خطب سعد زغلول تجتذب الآلاف ويرددون بعض عباراته ضد المحتل وضد استبداد الملك فؤاد.