مشهد عبثي يطل من كل أرجاء “أرض الياسمين” التي تحولت فجأة وبدون سابق إنذار إلى ساحة ممتلئة برائحة البارود، وإصابات بالغة في كل شيء تطوله النيران والطائرات الحربية وزكمت الدماء الأنوف والعيون، والأجساد التي خرجت في عام 2011 مع اندلاع ما عرف بثورات الربيع العربي.
الصراع في سوريا منذ عام 2011 شهد تطورات كبيرة، فتحولت الاحتجاجات الشعبية إلى حرب ضروس بين قوات النظام وفصائل مسلحة، وسرعان ما انتقلت إلى حرب بالوكالة بمشاركة قوى إقليمية ودولية كبرى، ظهرت على شكل تحالفين كبيريين الأول تقودة “روسيا وإيران” لدعم الرئيس السوري بشار الأسد، والثاني تتزعمه أمريكا ودول أوروبية وتركيا والسعودية، فضلًا عن الحروب الصغيرة الدائرة على الأرض بين ثلاثة جهات ضد بعضها، ممثلة في: “النظام السوري، والجيش السوري الحر ونظرائه من المعارضة المسلحة، والجماعات الإسلامية المتشددة في مقدمتهم تنظيم داعش.
مشهد مختصر
في مارس عام 2011، علت أصوات المواطنين في سوريا بالشكوى من حكومة بشار الأسد بسبب ارتفاع معدل البطالة، والفساد في أجهزة الدولة المدنية، وغياب الحريات السياسية، بعد نجاح ثورتي تونس ومصر واللتان انتهتا مع إسقاط نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وتخلي نظيره المصري محمد حسني مبارك عن مقاليد الحكم آنذاك، لكن النظام السوري رفض على مدار السنوات السبع التالية التخلي عن حكمه، ليتحول المشهد في سوريا إلى “حرب أهلية” متشابكة الأطراف بدعم ووجود دولي خارجي.
اكتسب الصراع صبغة طائفية، حيث بدأت جماعات السنة في قتال جماعات مسلحة أخرى من العلويين، وهي الطائفة الشيعية التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد وعائلته، واجتذب الصراع قوى إقليمية ودولية بدأت الاقتتال من أجل السيطرة على الوضع لتقرير مصير سوريا.
“مواطن” التقت الناشط السوري عبده شحادة والذي فر من سوريا إلى ليبيا في ظل الأزمة التي عانت منها بلاده، فبدأ حديثه قائلًا: “مظاهراتنا كانت سلمية، وأنا كنت أحد الشهود على ذلك وخرجت في إحدى التظاهرات التي انطلقت في مدينة حلب مناديًا (ارحل يا بشار)، والتعامل الأمني حينها كان عاديًا مثل كل البلدان العربية التي انطلقت فيها الاحتجاجات الشعبية، حيث أطلق أفراد الأمن الرصاص في محاولة لتفريق المتظاهرين، وبالفعل خافت الناس، لكنها ما لبثت أن عادت من جديد يطلبون بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية كأقرانهم من الشعوب العربية الشقيقة”.
وتابع الشاب السوري: “عقب تلك التظاهرات بدأت الاعتقالات في كل الأرجاء، ومع زيادة أعداد المتظاهرين، صار الأمن يطلق الرصاص على الشعب، وازداد الاحتقان بين المحتجين، وبلشت الانشقاقات في الجيش السوري، والذين كونوا فعليًا ما يعرف الآن بـ(الجيش السوري الحر)، ومع تزايد وتيرة التظاهر والاشتباكات الأمنية، لجأ النظام السوري بقيادة بشار الأسد في سياسة جديدة تعتمد على حصار المدن”.
وأكمل شحادة: “مع استمرار التظاهرات في ظل الحصار، استخدم النظام السوري الطائرات، ومع مرور عامين من عمر الثورة، وإيمان بشار بأن الوضع خرج عن السيطرة وأن الدماء التي أريقت ولن توقفها الاشتباكات، اتجه لدعم الإسلاميين المتشددين، وترك لهم الساحة فارغة حتى يوسعوا نفوذهم، ويحدث الاصطدام بينهم وبين الجيش الحر، ليعطي مبررًا لقتل الناس بحجة التصدي إلى العناصر المتطرفة التي انتقلت إلى سوريا من كافة الأرجاء”.
واستطرد: “الغرب بعد فتره اقتنع أن مفتاح الحل والقضاء على الإسلاميين بيد بشار، في ظل الدعم الروسي الإيراني له، ليبدأ الوضع بالتغيير من قبول وجود بشار في السلطة، في ظل علاقته مع إسرائيل، وقلت الضغوطات التي فرضت على روسيا في ظل دعمها لبشار وتخاذل الولايات المتحدة، ليبقى الآن مهد الثورة السورية خارج سيطرة النظام (إدلب ودرعا)”.
ويعتقد الناشط السوري أنه بعد استعادة بشار نفوذه في سوريا سيبدأ صراع جديد بين كل من روسيا وإيران اللذان يبحثان عن نفوذهما في أرض الياسمين، مشيرًا إلى أن إيران سترحل عن سوريا في ظل القوة الروسية التي تحاول إيجاد مكان لها في المنطقة.
الدعم الإيراني
مع اتخاذ الوضع في سوريا البعد الطائفي بدأت إيران في إظهار دعمها لبشار الأسد سواءً ماديًا أو عسكريًا، حيث تعد أول الحصون التي احتمى بها بشار من إسقاط حكمه، الدعم الإيراني كان سببه محاولة الحفاظ على “محور المقاومة” – وهو تحالف قديم بين إيران وسوريا وحزب الله، بحسب مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية.
المجلة الأمريكية ذائعة الصيت ترى أن التواجد الإيراني في سوريا قائم من أجل إحداث توازن في السلطة، مع جهات إقليمية ودولية أخرى لها مصالح في سوريا، في ظل العداء الموجود بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، مشيرة إلى تقديم الدعم لشريكها المكافح (نظام بشار) ومحاولة تقليل خسائره عن طريق تقوية الميليشيات الحليفة داخل سوريا، مع التركيز على خطة طوارئ منطقية ومحدودة في حال سقوط الأسد، وهو ما تم تفسيره بشكل غير صحيح على أنه توسعة إيرانية”.
الناشط السوري محمد حيان –المقيم في دولة السويد- يرى أن التواجد الإيراني ليس فقط من أجل إحداث توازن في السلطة، منوهًا إلى أن إيران تسعى من خلال مليشياتها الموجودة في سوريا ولبنان إلى توسيع نفوذها في المنطقة، إضافة إلى أنها استمرت في دعم نظام بشار في ظل الأزمة الاقتصادية التي عانت منها خلال السنوات الماضية، فكون الصراع تحول إلى حرب “سنية شيعية”.
ونقلت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية عن رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست الإسرائيلي آفي ديختر, قوله :”إن عدد الميليشيات الشيعية الأجنبية بسوريا يصل إلى 25 ألف مسلح”، وهو ما اعتبرته الصحيفة كارثة، لأنه يعني استمرار النفوذ الإيراني في سوريا لعقود، وهو ما من شأنه أن يؤثر في الجميع بالشرق الأوسط.
وذكر حيان في تصريحات خاصة لـ”مواطن” أن الحلف السوري الروسي الإيراني أصبحت كلمته العليا في المنطقة في ظل عجز الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأوروبية في كبح جماحه في السيطرة على الوضع، لافتًا إلى أن المشهد الحالي يؤكد نجاح التحالف الثلاثي في تصدر المشهد، وأن الأيام المقبلة ستشهد مواجهة “روسية إيرانية” لفرض السيطرة في سوريا.
أهداف إيران لم تقتصر على توسيع النفوذ فقط، فهناك بُعد اقتصادي أشارت إليه صحيفة “الجارديان” البريطانية، في 9 أكتوبر قبل الماضي، منوهة إلى أن إيران على وشك إكمال مشروعها الإستراتيجي بتأمين ممر بري يخترق العراق في نقطة الحدود بين البلدين، ثم شمال شرق سوريا إلى حلب وحمص وينتهي بميناء اللاذقية على البحر المتوسط.
وأضافت الصحيفة في تقرير لها أن قوات كبيرة من الميليشيات الشيعية تضع اللمسات الأخيرة على خطط للتقدم بتنفيذ مشروع الممر الذي ظل في طور التبلور خلال 3 عقود، مردفة: “الشريط البري غرب الموصل الذي ستعمل فيه الميليشيات الشيعية، يُعد أساسيًا في تحقيق الهدف الإيراني للوصول للبحر الأبيض المتوسط”، لافتة إلى أن إيران أصبحت أقرب من أي وقت مضى لتأمين ممر بري سيوطد أقدامها بالمنطقة، ومن المحتمل أن ينقل الوجود الإيراني إلى أراض عربية أخرى.
المصالح الروسية
الدعم الروسي لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، يبدو أكثر وضوحًا من الإيراني، حيث أن روسيا تعمل في سوريا من أجل مصالح اقتصادية وعسكرية كبيرة في سوريا وخصوصًا القاعدة العسكرية التابعة للبحرية الروسية في مدينة طرطوس، والموجودة هناك منذ فترة الاتحاد السوفييتي.
شبكة “سي إن إن” الأمريكية كشفت في تقرير، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يسعى من خلال دعمه إلى نظام بشار في إرسال رسالة للعالم بأن روسيا ما زالت قوة يعتد بها على الساحة الدولية، وخصوصًا بعد الإطاحة بحلفاء مثل الرئيسين العراقي والليبي صدام حسين ومعمر القذافي، إضافة إلى الخوف من تنامي ظاهرة الجماعات الإسلامية التي هددت أمن روسيا في السابق.
وبحسب تقارير دولية فإن روسيا تسعى من خلال استمرار الاقتتال في سوريا إلى تحقيق استفادة كبرى من خلال عمليات بيع الأسلحة، حيث إن العمليات الروسية في سوريا وعمليات استعراض الأسلحة من طائرات وصواريخ وأنظمة عسكرية يعتبر دعاية للتصنيع العسكري الروسي.
الكاتب الروسي بصحيفة بلومبرج فيو، ليونيد بيرشيدسكي، قال في مقاله بصحيفة “الشرق الأوسط اللندنية” إن “روسيا تمكنت من اختبار أكثر من 200 نوع من الأسلحة الجديدة التي ابتكرها الجيش الروسي مؤخرًا، فقد كانت تصميمات الأسلحة الجديدة ترسل إلى سوريا لمعرفة نتاج عملها”.
وتابع: “تباهى الجنرال فاليري جرسيموف، رئيس هيئة الأركان الروسية، بأن الصراع السوري منح روسيا أعظم فرصة حتى الآن لنشر طائرات (درون)، وكان العدد يصل أحيانًا إلى 60 طائرة تحلق في السماء يوميًا”، منوهًا إلى أنه جرى إصلاح الغالبية العظمى من مواطن الخلل في تلك الأسلحة”.
المطامع التركية
ولحقت دولة تركيا بركب الحرب في سوريا في أغسطس من عام 2016، بعد أكثر من 5 أعوام من اندلاع الأزمة، في ظل مطالبات الولايات المتحدة الأمريكية لها بالمشاركة في القتال، وحسبما صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فإن أنقرة تسعى إلى إزالة المخاطر الناجمة عن تنظيم “داعش” وحزب “الاتحاد الديمقراطي” الكردي، حيث تعد تركيا حزب “الاتحاد الديمقراطي” امتدادا لحزب “العمال الكردستاني” الذي يخوض حربا دموية منذ أكثر ثلاثة عقود ضد الدولة التركية في جنوب شرقي البلاد، إضافة إلى تهيئة منطقة آمنة صالحة للعيش وإعادة اللاجئين إليها”.
تصريحات أردوغان عن المشاركة في الحرب بسوريا، ليست الأهداف الوحيدة التي سعت إليها أنقرة، حيث إن تركيا سعت إلى الحصول على أكبر مكاسب ممكنة من أزمة اللاجئين التي عانت منها أوروبا على مدار الأعوام الماضية، إضافة إلى تحقيق نفوذ لها في شرق سوريا من أجل طمس الهوية الكردية خشية إقامتهم منطقة فيدرالية من جانب، والسيطرة على المنطقة المتاخمة للشطر الجنوبي التركي من أجل تحقيق مخطط الدولة العثمانية من جانب آخر، بحسب المتحدث باسم وحدات حماية الشعب الكردية نوري محمود.
وكشفت صحيفة نويه تسورخر تسايتونغ السويسرية، أن أهداف تركيا من العملية العسكرية في منطقة عفرين السورية لا تقف عند حدود “القضاء” على وحدات حماية الشعب الكردي، بل تمتد إلى إعادة رسم مناطق النفوذ في سوريا وتشكيل النظام الإقليمي الجديد، فضلًا عن إيجاد جديدة لظهور جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، في ظل فشلها في السيطرة على حكم مصر وتونس عقب ثورات الربيع العربي”.
المنافع الاقتصادية أيضًا بدأت تداعب أفكار السلطة التركية، حيث إن الدولة العثمانية تسعى إلى تحقيق أكبر استفادة من الوضع في سوريا خلال فترة إعادة الأعمار التي باتت قريبة في ظل الغلبة الموجودة للحلف الروسي الإيراني، فتسعى أنقرة إلى فتح مجالات اقتصادية كبرى للشركات التركية لتحقيق المكاسب الاقتصادية مستقبلًا.
الحلف الأمريكي
الحلف الأمريكي المناوئ لنظيره الروسي يبدو أكثر هوادة، فالقوى الأكبر في العالم لم تلقِ بثقلها في الحرب السورية كما فعلت في العراق سابقًا، فباتت السيطرة الكبرى للدب الروسي، ورغم محاولات البعض الإشارة إلى وجود حرب نفوذ بين القوى العظمى في سوريا، إلا أن تدخلال التحالف الدولي بقيادة واشنطن يبدو أنه بلا أطماع في سوريا.
ويرى متابعون للشأن السوري، أن الولايات المتحدة الأمريكية تهدف من خلال عملياتها في سوريا إلى محاولة “صد” النفوذ الإيراني، في ظل الرغبة المستميتة لحماية إسرائيل، شريطة عدم الدخول في حرب مباشرة ضد روسيا، والتي أكدها وزراء خارجية أمريكا منذ عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما.
مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأمريكية لخصت الخفوت الأمريكي في سوريا، بأن سوريا ليست هدفًا حيويًا بالنسبة للولايات المتحدة مثل العراق، أو أفغانستان، وأنها ليس لديها مصالح كبرى هناك مثل مصالح روسيا أو إيران، مشيرة إلى أن هناك اختلافا واضحا في الطريقة التي ترى بها أمريكا سوريا، والطريقة التي تتعامل بها الدول الموجودة هناك (روسيا وإيران)، ودول الخليج العربي مع الأزمة، حيث إن إيران وتركيا وإسرائيل والأردن على أتم الاستعداد للقيام بأي تضحية من أجل إنهاء الصراع هناك.
وكشفت وكالة “أسوشيتيد برس” عن رؤية كاملة لإدارة ترامب تقتضي استراتيجية أمريكية كاملة لوضع نهاية للملف السوري، تحقق في نهاية المطاف المطلب الأول للشعب السوري للإطاحة بالأسد، منوهةً إلى أن واشنطن تسعى لتحقيق ذلك بعد محاربة تنظيم داعش الإرهابي، وتحقيق الاستقرار في سوريا، عبر وساطة أمريكية بين النظام والمعارضة لوقف النار وتحقيق مناطق استقرار تساهم بها حكومة النظام تختلف عن المناطق الآمنة التي دعا إليها سلفه أوباما طيلة فترة حكمه.
وعقب القمة “الأمريكية الروسية” التي عقدت في هلسنكي، الإثنين الماضي، ظهرت ملامح الوجود الأمريكي جلية أكثر من السابق، فقالت صحيفة “اندبندنت” البريطانية إن موسكو ستتولى العمل على سحب القوات الإيرانية من الحدود السورية مقابل الانسحاب الأمريكي من المنطقة، مشددة على أن ترامب وإدارته المؤلفة من مايك بومبيو وجون بولتون المتعلقيْن بـ”إسرائيل” حتى النخاع، يشغلهم في المقام الأول والأخير العداء لإيران، وفي هذا الإطار يأمل ترامب وإدارته أن تتولى موسكو مهمة انسحاب إيران من سوريا.