ثورات الربيع العربي أطلقت تحديات وجودية كبيرة أمام الأنظمة العربية ولا سيما الملكية منها، فمع سقوط عدة رؤساء في الجمهوريات العربية تواجه الممالك العربية خطر سقوط أركان النظام الملكي فكان عليها أن تتعامل مع هذه التحديات بطريقة تضمن على الأقل نهاية التحركات الثورية وفي الوقت نفسه أن تطور نظام الحكم ليكون أكثر استدامة. وكانت التعديلات الدستورية التي أجرتها الممالك العربية، عُمان والبحرين والأردن والمغرب، آخر الأساليب التي اتبعتها الأنظمة لإغلاق ملف الربيع العربي واعتبار المشكلة محلولة، إلا أن الكويت قررت اتخاذ مسار مختلف تمامًا عن نظيراتها في المنطقة بعدم إجرائها أي إصلاحات سياسية أو دستورية.
وبصرف النظر عن تقييمنا للتعديلات التي أدخلت على دساتير عُمان والبحرين والأردن والمغرب، إلا أنها تحمل دلالة مهمة وهي اعتراف ضمني من قبل السلطة أن أساس المشكلة هي مشكلة دستورية حلّها إعادة صياغة الأسس الدستورية التي يقوم عليها النظام السياسي، وهي تمثل فرصة أمام الشعوب لانتزاع إصلاحات جذرية بعدما فتحت لهم الأبواب. وهذا ما يجعل الخيار الكويتي ملفتاً للنظر حيث إن تغيير الكويت للنظام الانتخابي واستبدال رئيس الوزراء في ظل عدم جديتها أو في بعض الأحيان، رفضها بشكل صريح، لأي تحركات قد تدفع الدولة نحو الإصلاح السياسي يشير إلى اختلافها في تصور المشكلة عن نظيراتها، فالأسباب التي دفعت السلطة لتغيير النظام الانتخابي، حسب ادعائها، استبعدت الجذور السياسية للأزمة وحولتها إلى مشكلة اجتماعية لا ذنب للسلطة فيها.
في أواخر العام 2011، رضخ النظام لمطالب المعارضة بإزاحة رئيس الوزراء الشيخ ناصر محمد الصباح، وأجرت انتخابات جديدة فاز فيها أغلبية معارضة قبل أن ينحل هذا البرلمان بعد بضعة أشهر بحجة وجود خطأ إجرائي في طريقة حل البرلمان السابق والدعوة للانتخابات، وبعد ذلك أصدر الأمير مرسومًا بقانون يقضي بتعديل النظام الانتخابي وسط معارضة واسعة، قبل تحصين المحكمة الدستورية للقانون بالقول إنه جاء لمعالجة سلبيات في النظام الانتخابي السابق “تهدد وحدة الوطن ونسيجه الاجتماعي”.
جميع هذه الإجراءات كانت تصب في الترويج لرواية واحدة وهي أن المشكلة مشكلة أفراد لا يستطيعون التعاون والعمل مع بعضهم البعض. فبدلاً من الأخذ بمطالبات المعارضة ليكون رئيس الوزراء مسؤولاً أمام البرلمان وضرورة كسب الحكومة ثقة المجلس لبدء أعمالها، أُبطل البرلمان وعُدل النظام الانتخابي لمنع وصول أغلبية معارضة مجدداً، تحت ذريعة الحفاظ على الوحدة الوطنية ومنع انتشار الفئوية في المجتمع وتشجيع تمثيل الأقليات في البرلمان. بهذه الخطوة حوّل النظام الكويتي مشكلة دستورية سياسية مرتبطة بتقاسم السلطة بين الأسرة الحاكمة والشعب إلى مشكلة نزاعات بين فئات المجتمع!
وبذلك يرغب النظام الكويتي في تفريغ الأزمة السياسية من محتواها وتحويلها إلى مشكلة اجتماعية لا ذنب للسلطة فيها حيث تقوم بتقديم نفسها كطرف متعالٍ على خلافات المجتمع وترعى الحل الذي سينهي الصراع. المحصلة النهائية هو استبعاد أي توجه لتغيير الدستور أو إجراء إصلاحات سياسية لأن السلطة ترى في هذا الأسلوب الوسيلة المثلى للحفاظ على الوضع القائم، وهذا ما دلّ عليه تصريح مجلس الوزراء في العام 2013 بأنه “ليس مطروحاً أو وارداً التفكير في تعديل الدستور أو تنقيحه” وأنه “ليس من الملائم” افتعال أي أطروحات لتعديل الدستور في ظل الظروف التي تعيشها الساحة العربية من “صراع دموي”لما سيؤدي ذلك من إشغال الدولة عن مسؤولية حماية أمن الوطن، على حد تعبيره.
كما وأكد في التصريح نفسه على الشرعية التي تستمدها الدولة من الدستور، وأشار إلى أن الأمير هو “الراعي والمسؤول عن حمايته وعن سلامة تطبيقه، وهذا الالتزام تجلى في حرص السلطة على اتخاذ جميع الإجراءات التي سبق مناقشتها من خلال مؤسسات الدولة بشكل عام، والمحكمة الدستورية على وجه الخصوص، لإضفاء نوع من الشرعية على قراراتها التي بدت أمام الجميع مسيسة إلى أبعد حد.
إن إصرار السلطة على تكرار الرواية بأن الكويت تتمتع بديمقراطية “حقيقية”في ظل هذه الظروف لن يساهم في تقليل الفجوة بين النظام ومعارضيه وبين رواية النظام والواقع، لا سيما وأن الدستور الذي تتغنى به السلطة في كل مناسبة لم يتطور منذ إقراره في العام 1962 ليواكب تطور المجتمع، وهذا بالإضافة إلى إسقاط سلطة الدستور مرتين منذ ذلك الحين.
الدستور الكويتي وضع شروطاً معينة لآلية تعديله حيث لا يجوز تعديله إلا بإرادة مشتركة بين الأمير والبرلمان، ويبدو أن الأمير أبدى موقفه من تعديل الدستور بإصداره قانون الانتخاب الجديد وتعطيله مجلس فبراير 2012 ذات الأغلبية المعارضة بعد أشهر قليلة من بدء أعماله. فمحاولات السلطة للحفاظ على الوضع القائم بهذه الطريقة بتعارض بشكل صريح مع روايتها عن الشرعية التي تتمتع بها من خلال الدستور، فكيف يمكنها تبرير إبطال إرادة الأمة التي أتت عن طريق انتخابات حرة بهذه الطريقة الاعتباطية؟
النتيجة الحتمية لهذه السياسة هو تفريغ الدستور من محتواه وتحويله إلى مجرد مظهرٍ من مظاهر الحكم، فبعد أن حاولت السلطة تفريغه من محتواه عبر تعطيله في العامين 1976 و1986قررت السلطة أن أفضل طريقة للحفاظ على الوضع القائم هو إبقاء الدستور وثيقة جامدة لا يحق للمجتمع أن يطالب بتطويرها بما يتناسب مع ظروفه الآنية وتطلعاته المستقبلية. فمن جانب، تلتف السلطة حول مطالب الإصلاح بتغيير النظام الانتخابي وتحويل الأزمة السياسية إلى أزمة بين مكونات المجتمع بدلاً من الاعتراف بالمشكلة الحقيقية، ومن جانب تقول السلطة إنه يحق لها القيام بكل ذلك لأنها تحظى على شرعية الدستور القائم على مبدأ الشورى!