لا يخفى على الجميع أهمية تناول أفكار وتاريخ الإسلام السياسي لما يثيره من إشكاليات في أيامنا الحالية، كعدم قبول الأخر، والتحريض على العنف، وتهديد السلم الاجتماعي للبلاد المسلمة وغير المسلمة، ينظر أتباع هذا التيار السياسي إلى الأولى باعتبارها تساهلت في حق الدين، بينما ينظر للثانية كعدو رئيسي للدين الإسلامي –في استعادة واضحة لمشهدين رئيسين– يكون المشهد الأولى، صراع النبي محمد مع أهل مكة، والمشهد الثاني صراع الأمة الإسلامية المتمثل في الفتوحات العسكرية مع بقية الأمم.
إن الأزمة الرئيسية التي تخلق ذلك العداء الذي توقف عنده العقل الإسلاموي هو الجهل. أي عدم معرفة الآخر، الخوف من التعايش والاختلاط والحوار السلمي الهادئ العقلاني، ولكن حين ننفتح على الآخرين، بالطبع نصبح أكثر هدوءا.
كنت أحد أبناء ذلك التيار الإسلامي، وبفضل الاحتكاك الديالكتيكي، والنقد ومراجعة الأفكار، تخليت تماما عن أفكاري الإسلاموية، لعدم تماسك تلك الأفكار وكونها تنافي منطقية العقل، وهذا ما نتطرق له في هذا المقال.
“نهدف إلى أستاذية العالم“
حسن البنا –مؤسس جماعة الإخوان المسلمين–
إن الهدف الرئيسي لتيار الإسلام السياسي عامة، هو السيطرة على العالم، أو بتعبير حسن البنا –مؤسس جماعة الإخوان المسلمين– أستاذية العالم، إن تلك الفكرة قائمة بالأساس على سقوط الخلافة العثمانية عام 1922، بينما تأسست جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 لمحاولة استعادة تلك الخلافة الساقطة. إن سقوط الخلافة هو مفتاح التحليل السيكولوجي للجماعات الإسلامية التي تعد حركة رفض أو مقاومة للهيمنة الغربية، حركة يسيطر عليها التيه والضياع بسبب الوقوع تحت النفوذ الغربي، استعماريا أو فكريا، فالمواطن العربي قد يقبل ببساطة السيارة الغربية، ولكنه يرفض بشدة العلمانية، أو ذلك العقل الذي أنتج السيارة، ربما بسبب كونه عقلا لا يفكر بالشرع.
نجد أن سيد قطب أهم منظري جماعة الإخوان المسلمين يوجه خطابه قائلا إلى طلائع الحركة الإسلامية في أيامه “أنتم خلاص البشرية“. إنها دعوة خطرة تنطلق من فكرة احتكار الحقيقة، وأن الآخر على باطل دوما، إن تلك الأفكار حتما تقود للعنف، لأنها تجعل المؤمنين بها لا يرون إلا أنفسهم، فإننا نجد في مصر مثلا قيام أشخاص غوغائيين بالتعدي على مفكرين مهمين أمثال فرج فودة ونجيب محفوظ، هؤلاء الغوغائيون لم يقرؤوا حرفا من أعمال فرج فودة أو نجيب محفوظ.المسئولية الأكبر تقع على المحرض، خاصة إن تلك العملية التحريضية تكون عامة، تسمم عقول الجهلاء والبسطاء من المجتمع.
إننا نجد عدة طرق للتعامل مع هيمنة الغرب الاستعمارية التي بدأت مع حملة نابليون، عقلية كتلك التي لدى محمد علي، وخير الدين التونسي، عقلية تطالب بالقوة، وإنشاء الدولة الحديثة، وعقلية أخرى تجدها رافضة لكل ما هو غربي، تحيا في أجواء مؤامراتية لا تنتهي، فالعالم الغربي في نظرهم يستيقظ يوميا بهدف التآمر على العالم العربي الإسلامي، والمدهش حقا، أننا نجد أن عند الجيل الأول من المفكرين الإسلاميين، المكون من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي نغمة المؤامرة خافتة تماما وارتفاع نسبة النقد للمجتمعات العربية أعلى كثيرا، ربما تلك سمة رئيسية في الحركة الإسلامية إلى اليوم، أن الجيل الأول أكثر عقلانية.
دعوة غياب الإسلام من جماعات الإسلام السياسي في البلدان المسلمة
إن الرؤية الأساسية التي انطلقت منها دعوة حسن البنا هي استعادة الخلافة والعودة للإسلام الصحيح، بحكم عدم وعي الفرد والأسرة والمجتمع والدولة بالإسلام الصحيح من وجهة نظر البنا، وتمر تلك الدعوة بأربع مراحل رئيسية: ١- التعريف، ٢- التكوين، ٣- التنفيذ، ٤- أستاذية العالم.
خطورة تلك الدعوة أنها تنطلق وكأن الناس قبلها لم يكونوا مسلمين، وكأن الشريعة وتطبيقها فكرة جديدة مثلا، وكأن الإسلام كان غائبا. يمكنني بالفعل القول إن البوذية هي الحل في بلد عربي مسلم لم يعرف البوذية من قبل، لكن الإسلام كان موجودا منذ دعوة النبي محمد وأيام الخلافات المتتالية عبر التاريخ من الأمويين إلى العثمانيين، وأيضا أيام نابليون واحتلاله العسكري، وظلت الشريعة فترة من بعده أيضا، لقد كان الإسلام موجودا دوما بالفعل، ولقد حمل نظام الحكم الإسلامي تاريخيا، دوما مجموعة من الإشكاليات، كأي نظام حكم آخر في العالم وعبر التاريخ.
يقول الإسلاميون إنه لا يوجد أفضل من جيل الصحابة، مع إنه قد حدثت العديد من الأمور فيه والكثير من الفتن، بدأت بحروب الردة ومن ثم الانتقال إلى الفتوحات العسكرية، ثم قتل الخليفة عمر من أحد أبناء تلك البلاد المفتوحة مثلما قتل كليبر على يد سليمان الحلبي، الإسلام نفسه لم يقدم حلولا سحرية بالإضافة إلى أن الخلاف كان على تفسير الإسلام.
وإذا خلا بلد مثل مصر تماما من كل الطوائف ولم يبق فيها إلا تيار الإسلام السياسي فسيكون قطعا أول حدث صراع حول ما هو الإسلام؟ أليس كافيا 1400 سنة من الصراع حول ما هو الإسلام بالضبط، لدرجة أن سيد قطب نفسه لم يعجب بعثمان بن عفان ومن بعده معاوية كخلفاء. يمكننا فتح أمهات كتب التاريخ الإسلامي ونقرأ كيف حكمت الشريعة، كم كان عدد القتلى، ومدى البطش لا أقول تقرأ عن مستشرقين بل عن المؤرخين المسلمين أنفسهم.
أوهام وأساطير
يعتمد الإسلام السياسي على مجموعة من القصص المجتزأة، لخدمة أهداف معينة، فمثلا تجد المنابر ترتفع فيها مقولة، حكمت فعدلت فأمنت فنمت ياعمر، دعوة صريحة للعودة 1400 سنة، مع خلق صورة عن الماضي كزمن جميل نحلم بالعودة إليه، مع أنه بالمراجعة البسيطة لتلك الفكرة، نجد أن الحاكم العادل عمر مات مقتولا، حتى الهرمزان قائل تلك الجملة للحاكم العادل أيضا مات مقتولا، هذا الزمن الجميل الذي يدعون الناس بالعودة إليه، ستجد أغلب أهله تم قتلهم لسبب أو آخر.
ومن صوت الميكروفون أيضا يظهر لنا صوت يجلجل وجدان البسطاء قائلا: “أين أيام عمر بن عبد العزيز” لقد كان المسلمون في رخاء كان يتولى أكلهم وشربهم ومأواهم ويدفع عنهم الزكاة، ويمدهم بالصدقات، إذا فرضنا صحة تلك القصة فقد انتهت بعد سنتين ونصف وقتل عمر بن عبدالعزيز على يد أبناء عمه، كما أن ذلك الرخاء وحسن معاملة الرعية لم يكن أمرا شائعا، وإن حدثت تلك القصة حيث كفالة الخليفة بفقراء المسلمين، فستكون حدثت في دمشق، وإن حدثت فستكون للمسلمين أي الأقلية في الإمبراطورية الإسلامية.
إن كل تلك الأقصوصات أشبه بغذاء فاسد وأفكار مغلوطة تضلل الوعي العام للمسلمين في أيامنا، تمنحهم رؤية خيالية عن المستقبل، فبدلا من أن ينصب التركيز الجمعي، على التطوير والعمل، يتجه للخلف، وبدلا من التفكير من حلول اقتصادية، وتوفير فرص عمل، نجد شيخا يقدم دعوة، بأن الغلاء ينتهي حين تتحجب النساء، وبدلا من دعوة الناس للعمل يدعون الجماهير للاستغفار، وبدلا من التطور الذاتي يفتحون الأبواق مطالبين بإطالة اللحية، أو سنة السروال القصير، وكلها أمور من باب الهراء، لا تقدم لا تؤخر ولا تفعل أي شيء، سوى انتصارات من أوهام.
على عكس الحلول الشكلية من إطالة اللحى وتحجب النساء تجد دولا أخرى كاليابان وكوريا الجنوبية عانت أكثر حتى مما عانينا وشهدت كوارث وأزمات كبرى. تجد واقعهم مخالفا تماما لواقعنا اليوم. والإجابة ببساطة لأن تلك الدول اتجهت للتعليم الجيد وإتقان العمل مع تبني رؤى استثمارية ومشروعات علمية واقتصادية حديثة. بينما اتجهت بلادنا إلى الاستغفار والصلاة على النبي وشراء حصن المسلم وسماع شريط كاسيت عن عذاب القبر وغيرها.
إن أي استحضار للتاريخ الإسلامي في أيامنا الحالية لن يأتي بتجارب مختلفة أبدا عن داعش وما آلت إليه أحوال بلدان عربية كسوريا واليمن والعراق.
طريق المستقبل أمامنا واضح، سبقتنا فيه دول وشعوب أخرى، كل ما علينا فعله أن نتحلى بالإرادة ونمشي في طريق العلم والعقلانية، الحداثة والحريات الفردية والمساواة والعلمانية.