في صدد الحديث عن الانفتاح الحضاري يعيش على كوكب الأرض ما يقارب السبعة مليار إنسان ويتقاسمون أسباب بقائهم فيها وتظل أعدادهم في ازدياد مضطرد يهدد بفناء الموارد المحدودة ويتباينون في الثقافات والألوان والهيئة ومناطق العيش.
كان الاختلاف بين البشر يشكل بوناً شاسعاً تزداد فيه بعداً ببعد المسافات وتعدد اللغات وانقطاع العلاقات الدولية أو اتسامها بالعزلة والحرب، ولكن وفي القرن الواحد والعشرين أصبح العالم يعيش في قريةٍ صغيرة تتلاقح فيها الحضارات وتتبادل العلوم والخبرات وينال خير هذا القرب معظم سكان الأرض بطرق أسهل للعيش والكسب والتعلم.
أما على الجانب الآخر يخرج للعالم صراعٌ أو اختلاف ثقافي يهدد العالم والوجود الإنساني في ظل انعدام وعي التعايش والاختلاف بين الشعوب وفي صميم الوعي الفردي قبل المجتمعي ليمثل الانعكاس السلبي لهذا الانفتاح الحضاري، خصوصاً مع ثبات وجمود مواقف الايديولوجيات التقليدية من العلاقات الدولية وتلاقح الحضارات الذي ترى أنه يشكل تهديداً في بقائها.
و بالطبع فإن ما تحدثه التكنولوجيا في واقع اليوم من تقاربٍ والانفتاح الحضاري على الشعوب بشكل حر يمر مخترقاً الحواجز والعزل التي تفرضها الأنظمة المختلفة في كل مجتمع يحتم نشوء صراع لن يهدد وجود الايديولوجيا أو النظام ، بل يهدد الوجود الإنساني.
مع ما حمله الانفتاح العالمي من خيرات وصلت العالم أجمع والإنسان في كل مناطق الأرض إلا أنه يحمل الكثير من المخاطر التي قد تنتج عن تلاقح الاختلافات وصراعات الاختلاف ليبرز ما يسمى صراع الحضارات بطريقةٍ أخرى حرة كما تحدث عملية التقارب هذه بنفس الصورة الحرة مخترقةً كل الحواجز.
العالم بالتأكيد بدأ يشهد ما يطفو على السطح الآن من ازدياد وتيرة الدعوات العنصرية والتمييزية وانتشار الأفكار المتطرفة والإرهاب وسهولة وصول هذه الجماعات إلى فئات واسعة من الناس والمجتمعات جميعها بمختلف مكوناتها.
الكثير من الشعوب التقليدية ما زالت ترى أحقيتها التكوينية في السيادة على البشر، وأخرى ترى أن لديها خطةً خاصة وضعت منذ آلاف السنين لتخليص العالم من الشرور وأخرى ترى أن طريقتها هي المثلى وتعتبر كل اختلاف جديد دخيلاً عليها يحتم مواجهتها الرادعة له.
يمكن توقع ردود فعلٍ سلبية في خضم تفاعلات هذا الانفتاح الحضاري العشوائي بين الشرق والغرب قد ينتج عنها صراعٌ واقعي داخل المجتمعات المغلقة نفسها قبل أن يصل إلى المجتمعات والشعوب الأخرى ، وهذا مما لا يدع مجالاً للشك في عشوائية هذا الانفتاح الحضاري والحاجة الماسة لوعي الاختلاف والتعايش والتلاقح الثقافي والحضاري للوقوف أمام التهديدات الناتجة عن هذه العملية والسعي إلى تقارب الوعي الجمعي للبشر حول هذه المسألة.
التعايش مع الاختلاف
حدوث عملية الصراع الحضاري في هذا العصر أو تلافيها بالتأكيد لن يكون في كل الحالات إلا مفضياً لتَكوُن وعيٍ جمعي بثقافة الاختلاف والوصول إلى قناعة الحاجة الماسة إليها في العالم الصغير هذا ، ولكن الفرق أنه في الحالة الأولى ستكون أكثر كلفةً ومدمرة إلى حدٍ ما.
الاختلاف والتناقضات الفكرية التي يتحتم على أفرادها ومجموعاتها التفاعل مع التناقضات الأخرى قد تجد حلولاً أخرى لحدوث علاقات سلمية متبادلة المنفعة فيما بينها، فعلى سبيل المثال يمكن الانفتاح في حوار حضاري يجمع بين الجماعات المتفاعلة للسعي لتشكيل منظومة فكرية تتخلى عن تناقضاتها وتجتمع على المشتركات فيما بينها كما هي المحاولات في بعض المكونات الدينية المختلفة أو العمليات والصفقات السياسية بين اليمين واليمين أو اليسار واليسار. التنازل عن تضارب المعتقدات قد يكون حلاً لتوطيد علاقةٍ سلمية داخل المجتمعات ولكنها تظل كذلك أمراً من ضرب المحال بسبب تمسك بعض الجماعات بمعتقداتها ورؤية ساديتها على البقية ما قد ينذر بحدوث انشقاقات كذلك داخل هذه الجماعات تمهد لصراعات أصغر وبشكل واسع.
بطريقة أو وسيلة أخرى يمكن أن يكون التحفظ على الممارسات المناقضة والمغيضة للجماعات المناوئة التي تتخذ من ممارسات الجماعات الأخرى إساءةً لها مراعاةً للمشاعر. يبرز هذا التحفظ أو يكون مفروضاً إجباراً على الأقليات التي تعيش مع أكثرية وأغلبية مخالفة ولا يمكن أن تكون قناعةً لبناء وعيٍ حضاري بالاختلاف والتعايش فأما أن يكون فرضاً وإجباراً وعلى حساب حريات الأقليات والجماعات الأضعف أو أن تكون نفاقاً يبني كذلك حواجز جديدة وكبتاً يهدد بالانفجار في أي لحظة، على الأغلب قد تكون مواجهة الحقيقة والاعتراف بها هي السبيل الأفضل والأكثر صدقاً لبناء علاقات إنسانية سلمية وذات منفعة.
تقبل الاختلاف والاقتناع بحريات الفكر والاعتقاد والحريات الشخصية قد يكون هو الحل الأفضل لتلافي سلبيات الحلول السابقة وترك مساحة من المصداقية في التعامل وقبول الاختلاف، وقد تبدو الغلبة في سباق الحلول أن الحل الأنسب للتعامل مع هذا الانفتاح الحضاري الواسع هو قبول الاختلافات وتلاقح الحضارات والاختلاط المتسامح مع الثقافات الإنسانية المختلفة عن قناعةٍ إنسانيةٍ بعدمية جدوى الصراع الحضاري وفتح عصرٍ جديدٍ من التعايش السلمي المتعظ من فداحة سوء الصراع الحضاري في الماضي وما يجلبه على الوجود الإنساني ككل.
الدين والانفتاح الحضاري
منذ أن أدرك الإنسان المفكر وجوده وبدأ الإدراك شيئا فشيئا علاقته بمحيطه ومكونات العالم من حوله سعيًا نحو إقامة هذه العلاقات ودراستها وتفسيرها وإدراكها إدراكا صحيحا والعيش معها وضبطها وتطويرها بما يجلب له المنفعة وفق نظام مناسب يمكنه من استغلالها على أفضل وجه والاستفادة منها وتحقيق ديمومة هذه العلاقة مع محيطه ، فبدأ بتكوين المجتمع البشري من أسرة لقبيلة وما فوقها ليصل لمفهوم الدولة وتكوين حضارة قائمة على نظام وأعراف تنظم أمورها وتفسر علاقاتها والمكونات من حولها وأساليب الحياة فيها والعمل.
صاحبت البشرية تساؤلات كثيرة مذ بدأت إدراك وجودها والبحث في حقيقة ذاتها واختلافها عن المخلوقات الأخرى واكتشافها قدراتها وإمكانياتها وتميزها الفريد في قائمة الحيوانات، فبدأت كنتيجة طبيعية لذلك تتساءل عن حقيقة وجودها وبدايتها وتتفكر في ما حولها وكيف تم كل هذا المحيط وجاء واستمر في العيش وكيف يجري الأمر في هذا المحيط وهذه البيئة التي حوله ومن الذي أوجد كل هذا وما هي قدراته وأين هو وما هي قوته وما هو علمه الذي اوجد كل هذا ؟! .. كانت الأسئلة تبرز تباعاً مع بروز كل جوابٍ نظري من فكرة الخلق إلى فكرة الله ولم تكن تلك الإجابات إلا مفتاحاً لعوالم أخرى من الأسئلة والتشكيك.
كل هذه الأسئلة وأكثر كان يتساءل عنها الإنسان بغية معرفة سبب وجوده وما هي غاية وجوده على هذه الأرض وهذا الكون ولماذا خلق ؟!.. وهنا كان مقام قصّاصيهم ومفكريهم الذين بدأوا إما بالبحث والوصول لنتائج معينة ما زالت إلى اليوم الوقود المحرك للعلوم والفكر إلى حد كبير وإما أولئك المستغلين فقد ابتدعوا ما يملأ ذلك الفراغ في الحيز الفكري لتلك الأسئلة من الخرافات التي تسكت الناس وتعينهم على تحقيق أهدافهم وتجلب لهم المنافع وتمنيهم بالآمال ومواساة آلامهم .
لقد حاول الإنسان أن يشبع ذلك الخواء المعرفي لديه للإجابة عن هذه التساؤلات في ظل غياب العلم المحسوس والملموس والثابت واقعا ليوفر له الجواب الشافي عن ذلك ، فحاول التفكير فيما حوله وربطه بوجوده سعيا لإشباع هذه الرغبة لديه ، فكان -نتاجا- اقتناعه بوجود موجد له ولكنه يجهل من هو هذا الموجد ، فقام بعبادة كل شيء حوله سعيا منه لمعرفة الحقيقة ، فكانت هذه التوجهات عبارة عن محاولات لسد هذا الخواء المعرفي والذي لم يدم أمام عبقرية هذا المخلوق وتطوره كلما مر الزمن ليفضح تلك الإجابات والتوجهات السابقة فيبدأ بخلق تصورات أخرى لعلة الإيجاد ولكنها جميعها كانت في طور التصور النظري ولا تملك دليلا محسوسا حول هوية الموجد الاول.
مع انعدام التصور الحقيقي حول الموجد الأول للكون والإنسان والحياة بشكل عام ، أسعف الإنسان نفسه بتكوين تلك التصورات والتي إن نظرنا إليها اليوم سنرى أنها خرافات محضة ومدعاة للسخرية ، وفي نفس الوقت لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط بل وصل به الأمر إلى تدخل هذا الموجد في كل تفاصيل حياته وطريقة عيشه وغاية وجوده ، الأمر الذي جعله يقع ضحية الكهنة الذين اخترعوا هذه الخرافات للإجابة عن هذه التساؤلات وتعبيد الناس وتطويعهم لتحقيق رغباتهم.
عندما كان الدين يتمتع بهذه السطوة على الإنسان وصارت تتوراثه الأجيال ، أصبح الدين لصيقا وانعكاسا لقيام الحضارة وتنظيم الناس وفق نظام كهنوتي معين ينتسب في الأخير إلى موجد الكون حسب زعمهم، فكانت البشرية هنا عالقة بين منظومات فكرية للعبادة والحياة وفق صناعة بشرية ابتكرها البشر لأنفسهم مع نسبهم إياها أنها إرادة موجد الكون – في محاولات متكررة – اختلفت مبادئها ومكوناتها وأساليبها – لإيجاد النظام الأنسب لإقامة حضارة بشرية واحدة تكفل الديمومة والبقاء لهذه الحضارة واستمرارها في التطور.
وبالتأكيد أنه مع توزع البشر على قارات الأرض وجغرافيتها الممتدة التي قطعت آفاق التواصل بينهم ، كان من المتوقع ظهور آراء ومنظومات مختلفة تبعا للمنظومة التي ابتكرها أولئك القوم وتكفل بها الكهنة فيهم ، فكانت مع رداءة التواصل بين هذه الوجودات الإنسانية بعد إدراكها لبعضها سببا في الصراعات الحضارية فيما بينها تربطه صراعات المصالح والثروة ، ولكنها في المرتبة الأولى كانت صراعات ايديولوجية تحقق أغراض المعبد، الأمر الذي أوصل البشرية إلى منعطفات خطيرة تهدد وجودها ، فتعددت الأنظمة والحضارات وتقسمت الأرض ونشبت الصراعات الكارثية بين هذه الأنظمة لتوضح للبشرية من جديد فشل تجاربها المتكررة في هذا الاختيار المستمر حتى أيامنا هذه.
سادت البشرية مجموعة من الأنظمة والفلسفات في محاولات لإقامة الحضارة والنظام الأمثل عصرا تلو آخر وقرنا بعد آخرحتى عصرنا هذا الذي أصبح في شقين ، صراع ايديولوجي واقعي على جهتين تمثل إحداها الايديولوجيا والأخرى تمثل المصلحة والمنفعة .
إن العالم دوماً ما كان يعاني من مساوئ الصراع الديني وسيطرته على وعي المجتمعات والأنظمة السياسية إذ كان الدين هو أكثر سببٍ قد يقتل أو يُقتلُ الإنسان لأجله. الأديان غالباً ما تبني عزلةً حول أفرادها وتطوقهم بأنظمتها وتستغلهم لتحقيق عمليات الهيمنة بعد أن كان منشؤها في الأساس نوعاً ما كفكرةٍ إصلاحية لتنظيم المجتمعات ضمن أطر أوسع وأنظمة قانونية تنظم سبل العيش والمعاملة بين الأفراد إلا أنها تصبح في مرحلةٍ من مراحلها أقدم من عصرها ولا تلبي حاجات الزمن الذي تعيشه الشعوب فتفرض عليها الثبات وتخاف على وجودها فتفرض كذلك العزلة عن الخارج وتبدأ في علاقة حرب مع بقية الحضارات والأنظمة من حولها، ومع أي اختلافات وحركات تجديدية تبرز في داخل مجتمعاتها فتعمل على قمعها للمحافظة على وجودها.
أما من ناحية هذا الانفتاح الحضاري فهو ما قد تصنفه المنظومات الدينية بأنه الصورة الأكثر خطراً عليها في عملية الصراع من أجل البقاء والمحافظة على التسلط الفكري والسياسي على الشعوب، وبدون شك هي الأكثر معارضة لفكرة الاختلاف ومحور عملية الصراع الحضاري في المستقبل. ومن الأمثلة على ذلك هو ما عاشته أوروبا من حروبها الدينية وما شاهده العالم من منظمات إرهابية في الشرق الأوسط وظهور دولة داعش .
بالتأكيد سيستغل الدين وسائل الانفتاح الحضاري في مواجهة العولمة لتأطيرها في قالبٍ خاص به يضم العالم وفق رؤيته وايديولوجيته وسيصل للمستهدفين بشكل أسرع وأفضل ويهيج الحس العام بالاستهداف له ولأفراده وسيشهد العالم صراعات مأساويةً جراء ذلك وجراء غياب طرفٍ محايد يتناول قضية وعي الاختلاف والتقارب بين البشر وينقذ الكثير من الأفراد من الانخراط ضمن الخطط المدمرة للصراع الحضاري مع الأديان وبين الدين مع نفسه.
إن السلاح الأقوى بيد الانفتاح الحضاري هو العلم والحداثة التي تجعل من الدين تقليداً بالياً يفضحه العلم والتطور والتمدن والصياغة الجديدة للتركيبة المجتمعية المعولمة التي ستفضح الدين شيئاً فشيئاً وتُفقِدُه انصاره خصوصاً في المجتمعات الأكثر نمواً ومعرفة.
سيتقلص الدين كما هو الحال بأديان وحضارات سالفة كنتيجة طبيعية للتقدم المعرفي والتكنولوجي في سد فجوات المجهول والغيبي، وسيضطر في مرحلة من مراحله للعيش في هذا الانفتاح وسيواكبه أملاً في الاستمرار ولكنه سيفقد كذلك فرص بقائه في سطوته الكاملة على المدى الطويل، والأنسب هو تجنب الصراع الدموي معه والدفع بعملية التنمية الخدمية والتعليمية في المجتمعات ذات الأغلبية الدينية والإسهام أكثر في انفتاحها على العالم لتفادي هذا الصراع والتسريع من عملية عولمة وتلاقح حضاري مفتوح يقبل الاختلاف ويحسن من حياة الإنسان وتعدد الفرص المتاحة له في العيش والتعلم والمشاركة في التنمية الحضارية العالمية.