أؤمن بوحدة الإنسان ووحدة الحضارة الإنسانية، فليس ثمة فارق، بين دين أو ملامح أو لون أو لغة، فكلنا تجليات مختلفة، لأم واحدة وتلك الأم هي الأرض، منذ 300 ألف سنة يمتد تاريخ الإنسانية حسب أحدث الحفريات في مراكش بالمغرب، وبعد ظهور الإنسان، ظهرت الأديان ومن ثم اخترع الإنسان اللغة والتاريخ، 10 آلاف سنة فقط تعد تاريخ البشرية، ومن خلال التأمل في ذلك نجد أننا كلنا واحد.
كانت هناك محاولات وحدة إنسانية مع الأديان إلا أنها كانت استبعادية بشكل ما، إما أن تنضم لي وإما أن تكون ملعونا تماما، وكان هناك استعلاء عند كل الأمم بنسب الأفضلية العالمية لها، حتى داخل أبناء الأمة الواحدة، بل والدين الواحد، ولقد شهد التاريخ الكثير والكثير من الصراعات بين المذاهب الإسلامية-الإسلامية، فهل يمكن لذلك التاريخ من الصراعات مع المختلف أن يتوقف؟
الإسلام والآخر: أزمة تطور تاريخي أم مشكلة نصوص دينية؟
بالتأمل في نصوص القرآن الكريم، نجد أن القرآن المكي، أي وقت استضعاف المسلمين، يدعو للحوار والمحاججة، كان أهل قريش يعذبون ضعفاء قريش ممن مالوا لجماعة المسلمين الجديدة داخل المجتمع القرشي، مثل سمية أم عمار بن ياسر، وهناك حديث شهير عن النبي الكريم يقول لعمار بن ياسر “إن عادوا فعد”، نجد أن الإسلام برر المدارة في أوقات الاستكراه حين كانت جماعة المسلمين ضعيفة، ولكن حين امتلك الإسلام قوة أصبح يستنكر تلك الأفعال القرشية، بل أصبح يواجه وبعنف في مرحلة لاحقة، بالفعل. تلك مواقف متناقضة تماما، إلا أن السياق الاجتماعي عامل رئيسي في فهم تلك التناقضات، فأي إنسان أو جماعة هي نتاج تأثيرات التفاعلات الاجتماعية الحادثة.
نجد أيضا أن من أكثر الصفات توغلا داخل العقل الإسلامي هي احتقار المختلف، ذلك موجود عند كل الفرق الإسلامية، مع استثناء بسيط للصوفية الفلسفية والحركات المتأثرة بذلك النوع من التصوف، لكن عند النظر لبقية الفرق الإسلامية نجد الصراع ممتدا بين الفرق كالأحناف الذين يقبلون بنكاح الكتابي قياسا على نكاح الكتابية، أما الشافعية مثلا قالوا إذا سقط النبيذ في قارورة الماء تلقى لكلب أو حنفي، وجماعة تعتبر الشافعيات غير مسلمات تحديدا يهوديات أو مسيحيات وجماعة تشبه الأحناف بالكلاب، ربما لا تحمل الأوصاف ازدراءً إلا أنها اعتبارات مذهبية تلعن اليهوديات والمسيحيات حتى الحيوانات كالكلاب المساكين لم تنج من تطرف هؤلاء، وهناك عدة فتن مذهبية عند المؤرخين المسلمين كالذهبي والطبري وبالأخص لأبناء المذهب الحنبلي، لقد كانت الجماعة الحنبلية كثيرة المشكلات مع جميع المذاهب، إلا أن النظرة داخل المذاهب الإسلامية للآخر المسلم كانت دنيئة دائما، وهذا يبين كيف ستكون النظرة لغير المسلم أساسًا.
ليس ابن تيمية وحده الذي يحتكر شيطنة الآخر ومنع الحق في الحياة عنه، فالتراث كله متشابه وإننا نجد كلاما شبيها عند الغزالي والطوسي، وأعتقد أن حد الردة الذي رفضه تيار الإسلام العقلاني على رأسه الأستاذ الإمام محمد عبده، إلا أن تلك الفكرة إلى أيامنا هذه لا زالت تملأ صدور المسلمين، قتل من يقرر مخالفة جماعة المسلمين، إن العنف يعج بالصدور، فلنتخيل أن قوة أمريكا مثلا في يد داعش، سيقتلون البشرية جمعاء تعجيلا بيوم القيامة، لن يقبلوا بحياة المخالفين إذا امتلكوا النووي مثلا، لن يصيغوا حوارات حول التعايش، بل سيبدأون التسابق حول فناء الأمم الأخرى، والمذاهب الأخرى ثم يبدأون في فناء ذلك الكون.
فالعقل الإسلامي يستخدم الحريات في الدعوة للإسلام ولكنه يرفض الشيء نفسه في بلاده، من العادي جدا أن يذهب شاب لاجئ بألمانيا فيدعو الناس، أو شيخ بأمريكا مثلا هذا أمر معتاد، لك أن تتخيل ماذا سيحدث إن ظهر شخص من دين آخر، يدعو الناس ببلد عربي مسلم لدين مخالف، كل هذا نوع من التشويش الذي يملأ العقل المسلم، فالمسلم اليوم الذي يؤيد حد الردة هل يقبل بتطبيق حد الردة بالمثل في مناطق الأقليات المسلمين ومنع الناس من دخول الإسلام؟
المسلم الذي يقوم ويقبل بهجاء الآخر ليلا ونهارا ويشتعل لمجرد إهانة من موتور في أي بقعة من الأرض ضد الإسلام كل هذه تناقضات، توضح لنا لماذا يقولون إن الجماعات الإرهابية المتطرفة، صناعة النظم الغربية، هذا طبيعي جدا لعقل متخم بالمتناقضات، أن يعيش حالة من الإنكار الدائم، وبعيدا عن نظريات المؤامرة فالجماعات المتطرفة ابنة نصوص أمهات الكتب في التراث والمدونات الدينية وهذا ما يتم تجاهله دائما.
لقد خرج شيخ مصري يدعو لحل الأزمات الاقتصادية بالغزو والعودة بأموال وذهب وسبايا وغلمان وتجارة الرقيق، هذا طرح مضحك إلا أنه يعبر عن إشكالية فكرية في العقل المسلم الحالي، وهي العيش خارج الحياة العصرية بتقاليدها وآلياتها وأدواتها، إن ذلك الشيخ يفكر بشكل أحادي، ويتجاهل احتمالية أن يكون الوضع بالعكس، أن تكون نساؤه هن السبايا، وأن يباع أبناؤه عبيدا ويقتل هو.
تلك الأفكار المسمومة ليست محصورة في الجماعات المتطرفة، بل في عقول بسطاء المسلمين كذلك، حتى هؤلاء الذين لا يذهبون للصلاة مثلا، يطالبون بقتل المرتد، ورجم الزانية، وغزو الغرب واستعادة الأندلس وأشياء كثيرة تحمل أحلاما تدميرية، ضد العديد والعديد من المختلفين، لمجرد أنهم مختلفون، مع أن كل ذلك الهراء يمكن أن يتوقف، إذا فهمنا نسبية المقدس، أو كما أردد دائما: دينك هو أسطورة الآخر ودين الآخرة هو أسطورة لك.
الإسلام في الغرب: لندن أنموذجا
الإسلام في الغرب وبالمدن الكبرى بالأخص في لندن، بحكم معايشتي هناك، يعد تكثيفا لكل ما هو إسلامي، كل الطوائف موجودة، حتى تلك التي تتصور أن تقرأ عنها فقط، وحتى تلك التي لم تكن تسمع عنها أو تعرفها من قبل موجودة بلندن، وكنت دوما أمزح متسائلا: لمَ لا تكون لندن عاصمة العالم الإسلامي طالما جمعت كل تلك الطوائف الإسلامية؟
في النهاية كل ذلك التنوع والتعدد من الطوائف الإسلامية في المدن الغربية، قد يكون طبيعيا بسبب ارتفاع سقف الحريات على عكس العالم العربي الإسلامي، كما أن تلك الحرية المتاحة، تستخدم من قبل تلك الطوائف أحيانا بشكل مقبول، أحيان أخرى بشكل يسيء تماما للجالية الإسلامية عامة.
وبعض الانفلات أيضا يفهم بطبيعة الخروج من مجتمعات قمعية بامتياز، لا تُعرف فيها حقوق سياسية أو آدمية حول الحريات والحقوق والعدالة، ولا بد من فيضان كل كبْت، وهذا ما يحدث مع أبناء الجاليات الإسلامية في المدن الأوروبية بالأخص في أول جيل، ولكن في النهاية أيضا قد يكون من الخطأ النظر إلى الجاليات الإسلامية في البلدان الغربية كوحدة واحدة، فالصور دائما مركبة وأشد تعقيدا مما يبدو، فالغرب نفسه لا يمكن النظر له كوحدة واحدة، فالبلدان تختلف كثيرا، فرنسا ليست إنجلترا، كما أن النمسا ليست فرنسا أو انجلترا، كما أن السلطة السياسية، ليست هي بطبيعة الحال سياسة الغربيين.
فالاستبداد مثلا غير موجود بين الجاليات الإسلامية في الغرب، اللهم داخل الجماعة، حين تقوم جماعة بإدارة مركز إسلامي، والمجتمعات الغربية ذات تقاليد ديمقراطية عميقة، تجعل الوافدين يحترمون تلك القواعد، ويمتنعون عن خرقها، وكان لي صديق وصل لعمدة مانشستر كان مسلما باكستانيا، وكان متشرب جدا ومنحاز لقيم المجتمع الإنجليزي.
وهناك البعض وبالأخص بين الفئات المتدينة يكون الانتماء للدين، أكثر من الوطن، مع البلاد العربية الإسلامية، وذلك يكون أشد داخل البلدان الغربية، وغالبا كانت الأجيال الأولى من المهاجرين المسلمين بسطاء، لا يطمحون إلى أي شيء سوى الحياة العادية، ولكن في الستينات ومع حركات ما يعرف بالصحوة الإسلامية، بدأت حركة السفر للغرب من أجل تحقيق مشاريع إسلامية، وبدأ ظهور المراكز الإسلامية.
وربما كانت مشكلة لندن أكثر تركيبا من باقي بلدان أوروبا، ففي النهاية نجد أن التراث العقلي بين الإنجليز، عن بريطانيا التي لا يغيب عنها الشمس، واستيعاب الجميع، والمجتمع البريطاني نفسه يقوم على فكرة التعددية الثقافية والدينية، أتذكر أن ترحيل إرهابي كعمر البكري من لندن، احتاج ست سنوات، فتميز لندن بالمجتمع المدني القوي وجمعيات حقوق الإنسان يمنح المسلمين من الحقوق ما لم يعرفوه في بلدانهم الأصلية. ولكن رغم تلك الحرية الممنوحة للجاليات العديد من الأحلام الهرطوقية، بأعداد اللاجئين والسيطرة على أوروبا وتغييرها، ويبقى البعض يرفض فكرة الاندماج في المجتمع الغربي، وترفع بعض الجماعات شعار اندماج بلا ذوبان.
ولعل أكثر دعاية تمارس لترويج فكرة أن الإسلام قادم لحكم أوروبا، تمارس من قبل الإسلام السياسي، واليمين الأوروبي المتطرف، طرف يبشر جماهيره، وطرف يحذر جماهيره، وقد ظهرت مراكز مضادة للإسلام على غرار المراكز الإسلامية، ولعل طلب سلافوي جيجك من النخبة الإسلامية على حسم ولائها هو الحل الوحيد لتصالح المسلم مع الغرب، ورغم قوة المنابر الدينية في الشحن العاطفي ضد الهوية الغربية، إلا أن -في النهاية- تلك الجاليات ربما هاجسها الأول هو الملف الاقتصادي، ولكن يبقى الرفض الثقافي ورفض الاختلاف والآخر يسيطر على العقل العربي والإسلامي، ويجب أن نفكر حول كيفية بعمل حوار من أجل فهم وتقارب والتصالح مع الغربيين من قبلنا نحن أصحاب ثقافة عربية إسلامية عقلانية.