إن لم يكن بنا كريماً آمناً
ولم يكن محترماً
ولم يكن حراً
فلا عشنا، ولا عاش الوطن!
بهذه الكلمات اختتم الشاعر العراقي أحمد مطر قصيدته المعنونة بـ(يسقط الوطن). لخصت هذه الأبيات الأخيرة مجموعة من أهم أعمدة المواطنة في تفسيرها الحديث، الحرية كمفهومٍ عامٍ بصورها الأربعة، العيش الكريم والحق الاجتماعي والإنساني، والكرامة.
أن تتلقى حقوقك الإنسانية الكاملة في مماثلةٍ مع أقرانك في صورةٍ تسمح لك بالانصراف عن الانشغال في قضاياك الشخصية لقضيةٍ جمعيةٍ أكبر تحت نظامٍ ديمقراطيٍ يكفل لك حرية التعبير والرأي والمشاركة السياسية في تحديد مصيرك ومصير الأرض التي تنتمي إليها وإلى شعبها وتحمل جنسيتها التي تمنحك حقوقك كاملةً دون انتقاص ما دمت في حِلٍ من أي مخالفةٍ قانونية، فهنا أنت مواطن تتمتع بمزايا المواطنة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من هويتك الوطنية وتتحمل كذلك الالتزامات الملقاة على عاتقك تجاه المنظومة الجمعية التي تمنحك هذه المواطنة وهي الأرض والشعب والتاريخ والانتماء، وبالتأكيد أنت لست بشرياً يعيش في الوطن العربي أو الشرق الأوسط أو ربما في دولةٍ من دول العالم الثالث.
يبدو أن أحداث العقد الأخير اثبتت مدى هشاشة الوعي الوطني ومفهوم المواطنة والوطن في العقل العربي والإسلامي المتراكم عبر ما يقرب قرناً من الزمان في صورة الدول الحديثة بعد الأفول العثماني، مع غياب الديمقراطية والحرية السياسية عن الواقع العربي والإسلامي انتهى بالمنطقة إلى ما هي عليه من تشرذماتٍ وولاءات وصراعاتٍ طائفية وحروبٍ أهلية وحولت الأوطان إلى منفى صغيرٍ جداً لا ينتج إلا مخرجاتٍ من التجهيل والتبلد والتخلف الاقتصادي والعلمي والسياسي.
الشعور بالانتماء
الشعور بالانتماء للوطن والشعب والتاريخ الناتج عن الحياة الكريمة والحرية هو خلاصة معنى المواطنة وهو ما يغيب عن المشهد الشعبي في أقطارنا الممتدة على الخارطة العربية والإسلامية، والشعوب العربية على وجه الخصوص انتماءاتها عابرةٌ لمفردة الوطن ولها إما امتداداتٌ أيديولوجية خارجية وإما أخرى عرقية صغيرة، والغالبية من المواطنين العرب لا يشعرون بالانتماء تجاه أوطانهم وإنما يشعرون أن انتماءهم يكون عابراً لمشاريع خلف الحدود أو مشاريع داخلية أصغر من الوطن ولها كيانٌ في الخارج غالباً.
هذا معزوٌ تقريباً إلى سببين محتملين لهذه الظاهرة من فقدان الشعور بالانتماء الوطني، ألا وهما حرمان السلطة له من حقوق المواطنة والحرية بشكلٍ يشعره بغربته عن موطنه وتحفيزه بشكلٍ غير مقصود نحو البحث عن انتماءٍ أكثر قرباً له.
السبب الآخر هو تمكن الأيديولوجية العابرة للحدود كالأيدولوجيا الدينية من وعي المواطن العربي، الأمر الذي يجعله يعادي وطنه تجاهها إذ إنه يشعر بانتمائه لها أكثر من انتمائه لوطنه كنتيجة تكريس السلطة والمجتمع لهذا المفهوم في الوعي الشعبي بشكلٍ رسمي عبر المؤسسات التعليمية والثقافية منتجةً مخرجاتٍ كهذه لا تصب في مصلحة الوطن أو المواطن.
الإسلاميون كما هي جماعة الإخوان يعلن أفرادها في مختلف الدول العربية والإسلامية انتماءهم للجماعة وللدولة التي ترعى الجماعة وتحقق أهدافها وهم بذلك يخدمون مشاريعها حتى ولو كانت تتعارض مع نصالح بلدانهم وشعوبهم.
كما هم الإسلاميون هي الإثنيات والقوميات التي تتوارث شعورها بالانتماء الإثني أو العرقي، وهذه الأخيرة كانت أشد خطراً على الوجود الإنساني من السلطة الدينية نفسها علاوةً عن أن تكون ذاتها قرينةً للفكر الديني والمعتقد، كما أن البشرية لا زالت تتذكر التضحيات التي قدمتها أمام النازية والفاشية والعنصرية العرقية والعبودية في القرن الماضي.
اليهودية والسلالية الإسلامية الهاشمية في مذاهبها المختلفة هي صورةٌ من صور هذا الاقتران العرقي الديني، وأفرادها كما أظهرته التحولات الأخيرة في المنطقة لا يمتلكون انتماءً وطنياً وشعورهم الوحيد بالانتماء هو لهذه الفكرة أينما حلت وفي أيّما مشروعٍ كانت.
الأيدولوجيا الدينية والمكونات العرقية في المنطقة تتعارض في أدبياتها ومبادئها مع مفهوم المواطنة القاضي بتحمل التزاماتٍ ومسؤولياتٍ تجاه البلد والشعب الذي ينتمي إليه، بل إن مذاهبها السياسية أيضاً تعد ذلك نقيضاً للدين، والمواطن فيها فاقدٌ للشعور بالانتماء وانتماؤه إما لهوياتٍ أصغر وأضيق وإما أكبر وأبعد وفي الحالتين لا تخدم مصالح شعبه أو بلده.
السلطة والمواطنة
على الضفة الأخرى من القضية، السلطة هي الأخرى الركن الأساسي في المواطنة والطرف الآخر في هذه العلاقة الوطنية بين الشعب والوطن وهي محور ارتكاز هذه العلاقة، إن الإنسان تحت ظل الحكومات المعاصرة إما مواطنٌ وإما عبد، وأتعمد هذا التوصيف وفق صور الحرية التي يتمتع بها أفراد دول العالم الأول الحقوق التي يستحقها البشر عموماً كاستحقاقٍ تكويني وآخر اكتسابي.
المواطنة ليست فقط شعوراً بالانتماء وتعصباً وطنياً يجعل منك مشروع شهيدٍ أو تجنيدٍ يقحمك في صراعات مغفلٍ آخر على رأس السلطة في بلدك، بل هي مجموعةٌ من الحقوق الواجب كفالتها وتوفيرها لك كإنسان يحمل جنسية هذا البلد ومنها مشاركتك في تقرير مصير بلدك إدارته وحكومته، والهناء بعيشٍ كريم يجعلك تلمس معنى إنسانيتك وقيمتك المعنوية كمواطن من حيث توفر كل الخدمات الاجتماعية والتعليمية والخدمية في بلدك وتكافؤ الفرص بين كل أفراد الشعب.
المواطنة لا تعني انتماءً يجهز الشعب لحربٍ قادمة، وإنما واجبات وحس بمسؤولية المشاركة في التعلم وبناء الذات والمجتمع في شكلٍ يحفظ استمرار وبقاء البلد وشعبه في ارتقاءٍ جمعيٍ مستمر كي لا يجد نفسه يوماً في ذيل الحضارات والأمم ودونما وطن، وتبقى السلطة العربية والإسلامية لا تتعامل مع شعوبها كمواطنٍ وإنما كعبدٍ أو مقتنى يخدم مشاريعها ويحافظ على إمداد خزينتها بالمال والعوائد الضريبية وثروات البلد وجندي احتياطٍ للحفاظ على بقائها ورفاهها وفناء الشعب في سبيلها وسبيل مشاريعها.
الديكتاتورية المتكررة في صورها المختلفة كبسيطةٍ أو مركبة تعتبر أول لصوص المواطنة، واستبدادها الفكري وتسلطها على الحريات السياسية والاقتصادية والشخصية والفكرية وتحجيمها ومراقبة الشعب وحرمانه منها هي اعتباراً صكٌ معنويٌ آخر من صكوك امتلاك المواطن وانتمائه للسلطة لا انتماء السلطة له.
و هذا ناهيك عن أن تكون السلطة أكثر استبداداً وفشلاً بصورةٍ تحرم الشعب أبسط مقومات الحياة الكريمة وتجعل أعلى هموم المواطن هي توفير لقمة عيشه، والذي قد لا يستبعد أيضاً أن يكون سلوكاً متعمداً لشغل الفرد بأموره الخاصة عن المطالبة بحقوقه السياسية والمدنية وطلب الرفاه الذي كما يُنظِّرُ أكبر مسؤولي دول المنطقة الإسلامية أن الرفاهية في العيش أمرٌ كفريٌ يساعد في قلب الشعب على الحاكمية الشرعية (الإلهية).
و زبدة القول إن انعدام مقومات المواطنة من حقوق وحريات وعيشٍ كريم وغياب وعي السلطة وإرادتها لذلك هو السبب الذي مزق دول المنطقة وسيعمل على تمزيقها أكثر وتشتيت شعوبها بين ولاءات وانتماءاتٍ خارجية وداخلية تزيد من آلام شعوب المنطقة وتهدر إرثاً تاريخياً حضارياً كان الأقدم في تاريخ تمدن البشر.
الجنس والمواطنة
تحت الوصاية الذكورية تعيش المرأة في الشعوب العربية والإسلامية عبوديةً على مستويين من حيث تملكها للذكر الوصي الذي يحدد خياراتها في الحياة بصورة مباشرة والمستوى الآخر هو القبوع تحت وصاية الذكر الذي تملكه السلطة بصورةٍ ضمنيةٍ هو الآخر إلى جانبها.
تفرض المجتمعات العربية والمسلمة قيوداً على المرأة وتمنعها أن تمارس أبسط حقوقها وخياراتها في تقرير مصيرها في الحياة كالذكر مسلوب الحقوق من قبل السلطة هو الآخر، وهذا في الدرجة الأولى برعاية السلطة ومنعها حقوقها المدنية وحريتها الشخصية وتشريعها لوصاية الذكر عليها، ناهيك عن حرمانها انتقال الجنسية والهوية الحضارية والمدنية لأبنائها في معظم بلدان المنطقة على سبيل الاستشهاد.
بالدرجة الثانية يكرّس الدين والمجتمع السلطة والوصاية الذكورية على المرأة بشكلٍ يسلبها حق التمتع بحياةٍ شخصيةٍ مستقلة تبني فيها ذاتها المستقلة عن وعي وقرار أي فردٍ آخر قبل حرمانها من حقوق المواطنة والانتماء للبلد الذي تعيش فيه، في صورةٍ أصبحت أسوأ لعنةٍ على الإنسان هي أن يولد فتاةً في مجتمعٍ عربيٍ أو ديني، وأن تولد ذكراً معاقاً لخيرٌ من أن تولد كأنثى.
الدول العربية هي أقل الدول التي تشغل فيها المرأة مناصب إدارية أو حكومية مقارنةً بما يشغله الذكر إلى جانب الأفضلية الذكورية لشغر الوظيفة العامة أمام النادر من مظاهر عمل المرأة ووجودها في سوق العمل، وقائمة رجال الأعمال هي الأخرى شحيحة الإناث ومن النادر ظهور أسماءٍ نسويةٍ صغيرةٍ فيها، أما الحياة السياسية فالأحزاب السياسية العربية يساريةً كانت أو يمينية فهي الأخرى تغيب عن مراكز قرارها العناصر النسوية أمام حجم المشاركة الذكورية.
أما بالنسبة للحياة الشخصية والقرار الشخصي فهو غير موجود في قاموس نساء معظم المجتمعات العربية التي يعتبر غشاء بكارتها صمام أمانٍ وعاملاً مهماً للبقاء علاوةً على تشريع حماية العنف الذكوري تجاه المرأة في جرائم الشرف والذوق العام، وعلى المستوى الخدمي والعيش الكريم المرأة هي أكثر مكونات المجتمع معاناةً وخصوصا في المجتمعات الريفية من حيث تحملها أعباء الخدمة والرعاية العائلية وممارسة أعمال توفير المياه وتربية الماشية ورعايتها وغيرها من مهام الريف، ما يجعلها أكثر الأفراد في المجتمع حرماناً من حقوق ومزايا المواطنة.
دول وشعوب المنطقة العربية والإسلامية غنيةٌ عن التعريف بمشكلة اضطهاد المرأة وحرمانها أبسط مظاهر المواطنة فيها أو حتى حق الحياة، فقد أثبتت هذه المشكلة أن هذه السمة هي الأبرز والأكثر شهرةً عالمياً كقرينٍ ذهنيٍ مرتبط مع مفرداتها تستحضرها كلما ذُكِر المسلمون أو العرب، ولهذا أحجمت واكتفيت عن أن أستشهد بصورٍ تفصيليةٍ عن المشكلة.
و في الأخير يجدر التنويه إلى أن المرأة العربية التي تبرز في أحد الميادين الذكورِيةِ التسلط، كالتعليم وسوق العمل والوظيفة والسياسة، إن استطاعت النجاة فهي تحكم على نفسها بالعيش تحت نظرات الازدراء والانتقاص الاجتماعي في أقذر صور العنصرية الجنسية بينما هي تكافح لنيل أبسط حقٍ لها في معنى أن تكون إنسانةً قبل أن تكون مواطنة، وهذا كله تحت رعاية وتحريض السلطة والموروث الديني والاجتماعي.