تعاني المجتمعات العربية اليوم من تخلف حضاري كبير عن باقي الأمم والشعوب أعضاء المجتمع الدولي، بقينا تقريبا المنطقة الوحيدة في العالم التي لم تلحق بركب الديمقراطية والحداثة. حتى المجتمعات الإفريقية، التي عانت حروبا أهلية طاحنة في النصف الأخير من القرن الفائت والتي تعرضت للتجريف وسرقة مواردها الاقتصادية والبشرية طوال قرون، تقطع حاليا أشواطا كبرى نحو الحداثة والديمقراطية والتقدم العلمي والتكنولوجي. بينما نغرق نحن في حروب أهلية وانقسامات لا تنتهي، بالنظر إلى حالنا، والذي لم يختلف كثيرا عن حالنا قبل قرن كامل نجد أن أسباب التخلف لا زالت سارية وأن موطن الداء هو هو لم يتغير، وهو سبب تأخرنا نفسه وتخلفنا عن ركب الحداثة والتقدم والمواطنة، هذا الداء هو الاستبداد.
بالرجوع لأكثر من قرن من الزمان بالتحديد للعام 1902 نجد أن كاتبا عربيا من حلب أفرد مؤلفا كاملا ليضع يده على موطن الداء محللا له، مفككا أسبابه وأشكاله وجوانبه محاولا الإشارة للحل المثالي لتغيير واقع المجتمعات الشرقية للأفضل، وهو الشورى الدستورية، وفي بداية كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد يرى عبدالرحمن الكواكبي أن مفكري الأمة من الشرقيين، ويقصد بالشرقيين، العالم العربي والإسلامي في الدولة العثمانية وبلاد فارس وسائر بلاد المسلمين، يرى أن مفكري الأمة اجتهدوا أيما اجتهاد بحثا عن داء الشرق ودوائه، لكن قليل منهم من وفقوا لتحديد سبب الداء وعلة العلل.
فبينما يرى البعض إلى أن علة تأخر وانحطاط الأمة هو التهاون في الدين ثم يقف حائرا عن سبب تهاون الناس في الدين وبين قائل إن سببه اختلاف الآراء بداعي الجهل ثم لا يلبث أن يجد الاختلاف بين علماء الأمة بينما يذهب هو،الكواكبي،بعد كثير عناء إلى علة العلل وهي الاستبداد.
ما الاستبداد؟
يرى الكواكبي أن “الاستبداد لغةً هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة. يقصد بالاستبداد عند إطلاقه، الاستبداد السياسي و تعريفه هو: “تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف”. “وأما تعريفه بالوصف فهو أن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين”.
ومن أشكال الحكومات المستبدة، حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي يتولى الحكم بالغلبة أو الوراثة،تشمل أيضا الحاكم الفرد المقيد المنتخب متى كان غير مسئول،وتشمل حكومة الجمع ولو منتخبا لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد وإنما قد يعدله الاختلاف نوعا، وقد يكون عند الاتفاق أضر من استبداد الفرد. ويشمل أيضا الحكومة الدستورية المفرقة فيها بالكلية قوة التشريع عن قوة التنفيذ وعن القوة المراقبة، لأن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسئولية فيكون المنفذون مسئولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسئولين لدى الأمة، تلك الأمة التي تعرف أنها صاحبة الشأن كله وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب.”
والقارئ المدقق لكتابات الكواكبي يلاحظ إلمامه الكبير بأغلب معارف وتجارب عصره السياسية والاجتماعية فمثلا كما في الفقرة السابقة يستعرض أشكال الحكومات المختلفة بين حكومات الملكية المطلقة والأوليجاركية وحتى عوار الحكومات شبه الدستورية، كما نلحظ في أجزاء متفرقة من الكتاب اطلاعه على المذاهب الاقتصادية المختلفة في أوروبا من اشتراكية يميل إليها غالبا ورأسماليه يتفق مع بعض جوانبها وحتى الحركات الأناركية، حتى المذاهب الطبيعية كالنشوء والارتقاء الحديثة نسبيا في عهده نلاحظ إلمامه بها إلماما جيدا وتوظيف بعض أفكارها عن الترقي في بحث علاقة الاستبداد والترقي.
يرى الكواكبي أن أسوأ أنواع الاستبداد هو حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش القائد للجيش الحائز على سلطة دينية. وهو حال المشرق عموما والدولة العثمانية خصوصا، والتي عانى من ويلاتها وتعسفها في حلب مما اضطره للجوء إلى الهجرة واتخاذ مصر التي كانت شبه مستقلة عن الدولة العثمانية تحت حكم العلويين موطنا له. فالسلطة المطلقة تدفع المستبد غير الخاضع لأي مساءلة أو مراقبة كما هو حال الحكم الاسلامي منذ عثمان بن عفان وحتى وقته، تدفع المستبد إلى العمل على التأكد من جهالة المجتمع واتخاذ الجنود المنظمة سدنة لها ومعينا على استعباد الناس. فالجندية دون رابط أو مراقب للحاكم محاسبا له تدفع الحاكم لاستخدام تلك القوة المفرطة في استعباد الناس أو استعباد الأمم والشعوب الأخرى. ويرى الكواكبي أن أفضل شكل من أشكال الحكومات قد وصل له الإنجليز والذين أخذوا عنهم من الأمريكان، نظرا لوجود رقابة صارمة وشديدة على الحكومة والتاج الذي بات فكرة اعتبارية أكثر من كونه ملكا مطاعا مهابا. إضافة للفكرة الأساس أن تعلق الفرد بقومه ليس بأكثر من رابطة شريك في شركة اختيارية. غير مجبور على السمع والطاعة، بل عضوا فاعلا في جماعة قرر الانتماء إليها.
وفي علاقة الاستبداد بالدين، يرى الكواكبي أن كثيرًا من المفكرين الغربيين يرون أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني أو على الأقل هما أخوان من التغلب وحب الرياسة، والكثير من الأديان القديمة والممارسات الدينية والكهانة تسعى لتوطيد الاستبداد السياسي للتشابه بين القوة الدينية وقوة السلطان السياسي فيلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحق وبين المستبد المطاع بالقهر، لكن الإسلام، وهو يقصد الإسلام في نشأته مع النبي محمد وتابعيه أبي بكر وعمر لم يرسخ لتلك السلطة ولا هذا الاستبداد وإنما الدولة الاسلامية الأولى هي دولة إرستقراطية القيادة تأخذ بمذهب شورى القيادة. حيث يشارك الجميع في اتخاذ القرار في الأمور العامة. وقد فند دعاوى البعض إلى طاعة المستبدين من فقهاء السلطان مبينا أي دور يمارسونه دعما للمستبد. كما يرى أن إصلاح الدين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السياسي.
وبينما يستقوى الاستبداد الديني والاستبداد السياسي بعضهما ببعض يعتقد الكواكبي أن العلم هو العدو الأكبر للمستبد الذي يعرف أنه لولا الجهل ما استطاع السيطرة على الجموع ولا اجتذب منهم الجند يستخدمهم كسوط عذاب للعامة والمستضعفين، يقول الكواكبي: ولا يخفى على المستبد مهما كان غبيا أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء، فلو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في غشاء الليل، ولكنه هو الإنسان يصيد عالمه جاهله.
ويبقى أهم ما قاله في هذا الجزء من تصنيفه للعلوم التي يخشاها ولا يخشاها المستبد وأسبابها
فالمستبد، يقول الكواكبي، لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوّم اللسان وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان. ولا يخشى المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد المختصة ما بين الإنسان وربه، لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنما يتلهى بها المتهوسون للعمل حتى إذا ضاع فيها عمرهم، وامتلأتها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور ما أخذ، فصاروا لا يرون علما غير علمهم، فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شر السكران إذا خمر.
بينما يخشى المستبد أشد الخشية من “علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ، وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ وفي قوله: وما كنا لنهلك القرى وأهلها مصلحون ، وإن كان علماء الاستبداد يفسرون مادة الصلاح والإصلاح بكثرة التعبد كما حركوا معنى مادة الفساد والإفساد من تخريب نظام الله إلى التشويش على المستبدين.”
أما المجد وهو إحراز المرء مقام حب واحترام في القلوب، وعكسه التمجد فيرى الكواكبي ضرورة حيازة المجد عن طريق البذل والعطاء للناس والجماعة لا عن الوراثة أو خدمة السلطان، يستعرض بعد ذلك الكواكبي في أجزاء الكتاب التالية وهي الاستبداد والمال، الاستبداد والأخلاق، الاستبداد والترقي الاستبداد والتربية أثر الاستبداد في كل ضرب و منحى من مناحي الحياة ومناحي الاجتماع بمعرفة موسوعية بمختلف أفرع معارف عصره في الشرق والغرب. ليصل إلى دواء أصل الداء وهو
كيف نتخلص من الاستبداد؟
مستعينا بالتاريخ الطبيعي وعلى هدى الاستقراء يشرح الكواكبي تطور المجتمعات الإنسانية من البدائية للمدنية، طارحا بعد ذلك خمسة وعشرين مبحثا؛ على سبيل المثال: ما الأمة؟ ما الحكومة؟ التساوي في الحقوق، الحقوق الشخصية، الوظائف الحكومية وغيرها من المباحث التي يعتقد الكواكبي أن كلا منها تحتاج لبحث مطول من الدراسة وتدقيق عميق إن كنا نسعى لتقدم أو خلاص من تأخرنا وانحطاطنا.
ويختتم الكتاب معقبا علي المبحث الأخير وهو مبحث السعي في رفع الاستبداد، ويقول
1- الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية؛ لأنها قد تقاوم المستبد بسوق مستبد آخر، فتستبدل مرضاً بمرض.
2- الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج، من خلال ترقية الإدراك والإحساس للأمة، وهذا لا يتأتّى إلا بالتعليم والتحميس، والاستبداد لا ينبغي أن يُقاوم بالعنف؛ كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصداً.
3- يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد، فمعرفة الغاية شرط طبيعي للإقدام على كل عمل، ولابد من تعيين الخطة والمطلب موافقاً للأغلبية أو للكل، ولابد من إشهارها بين الكافة والسعي في إقناعهم.
خاتمة
يعد كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد كتابا مؤسسا في الكتابات السياسية والاجتماعية العربية، بالتأكيد هناك الكثير من المآخذ على الكتاب، منها على سبيل المثال لا الحصر، انحيازه للدين الإسلامي على باقي الأديان السماوية وغير السماوية، وإن كان قد تعرض للنقد الشديد لفقه الاستبداد العربي الإسلامي، لكنه يعد كتابا رائدا رغم ذلك. هناك أيضا بعض جوانب الضعف في الطرح أهمها، عدم الأخذ في الاعتبار أن الحكم العثماني للمنطقة العربية كان حكما استعماريا، يسرق خيرات الشعوب العربية لتصب في مركز السلطة في اسطنبول، ليس فقط حكما استبداديا. رغم كل ذلك، إن كنا نحلم بتعويض ما فاتنا فإن علينا أن ننظر في ماضينا ليس فقط بعين النقد والرفض لكن أيضا بعين الاستحسان والانتقاء. هذا الكتاب واحد من الكتابات العربية التي يجب أن توضع في عين الاعتبار.