يعتبر مفهوم المواطنة أحد أكثر المفاهيم الشائعة الاستخدام لدى المثقفين والأكاديميين وأصحاب الاختصاص، كما هي شائعة التردد على أسماع العامة من الناس، وبحجم شيوعه وانتشاره هو بنفس المقدار من الحجم الذي يحيط بتخبط هذا المفهوم والعجز عن حصر محتواه ومضامينه، خاصة وأن هذا المفهوم تندرج تحته متطلبات كثيرة خاصة أيضا مع ما تم إلصاقه به في ظل التطورات الكثيرة عليه تزامنا مع التطورات الكثيرة التي حصلت على التركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وما رافق تشكل المجتمعات والدول وتطورها.
كما تنوعت وكثرت محاولات تعريف هذا المفهوم، وأيضا محاولات إلصاقه بمفاهيم وألفاظ أخرى، وعمليات خلق مترادفات له عملت على تعقيده أكثر من المهمة المطموح لها بتبسيطه. خاصة وأن هذا المفهوم يعتبر من المفاهيم المسماة بـ”مفاهيم المنظومة” والتي يقصد بها تلك المفاهيم التي لا يمكن أن تندرج لوحدها، وإنما هي في إطار تقاطع مستمر مع غيرها من المفاهيم.
كما سعى بعضهم الآخر إلى الاستعاضة عن هذا المفهوم بمفاهيم أخرى؛ من مثل: الديمقراطية، حقوق الإنسان، الولاء وغيرها. مع الفرق الشاسع بين هذه المفاهيم، ومع التأكيد أيضا والإقرار بإمكانية تلاقيها وتقاطعها.
ويظهر هذا المفهوم كما تم التعبير عنه في موسوعة النظرية الثقافية، المفاهيم والمصطلحات الأساسية على أن مفهوم المواطنة هي عبارة عن “خصائص اجتماعية معينة” يتمتع بها المواطن، ولهذه الخصائص معناها السياسي الذي يعتد به قانونيا متمثلة بحقوقه، واجباته، وتمتعه بحريته في اتخاذ القرارات على الصعيد الشخصي الخاص به، مشكلا بتطبيقه لما سبق لمبدأ المواطنة الأساسية أو الفعلية¹.
فالمواطنة هي عبارة عن صفة “فضفاضة” يكتسبها كل إنسان يعيش على بقعة معينة من الأرض، ويخضع لسلطات محددة تمنحه مجموعة من الحقوق وتفرض بالمقابل عليه مجموعة من الواجبات، ليتم تسميته فيما بعد بـ”مواطن”. كما تحمل هذه الصفة في طياتها لغة الإجبار الصارخ الضمني في طياتها، في حين يستطيع الإنسان أن يتملص ولو قليلا من مترادفاتها وتوابعها.
كما نود الذكر أن المواطنة كمواطنة في ظل شرحها كما سبق، تختلف في شكل دولة ما عنها في أخرى، في مقدار اختلاف الأنظمة السياسية وتعددها ـ وما يشوب الأوضاع من تفاوت كبير على الصعيد السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي. وهو ما يتفق مع قول أرسطو -وهو ما سنتعرض له ولبيانه ولكن في موضع آخر- إذ صرّح بقوله “ففلان بما هو مواطن في الديمقراطية ينقطع غالبا عن أن يكونه في دولة أوليغرشية.. لا يكون المرء مواطنا بمحل الإقامة وحده، لأن محل الإقامة يملكه أيضا الأجانب المقيمون والعبيد. كذلك لا يكون المرء مواطنا بمجرد حق المداعاة لدى القضاء مدعيا أو مدعى عليه. لأن هذا الحق يمكن أن يخول بمجرد معاهدة تجارية²”. والجدير بالذكر والتنبيه أن الاختلاف يكمن فقط في الاتجاه السائد للمواطنة وهو ما يمكن تقسيمه بحسبها إلى:
1-مواطنة ناضجة (موجبة): وذلك حين يكون حجم الحقوق المعطاة للمواطنين أكبر من حجم الواجبات، وكلاهما يؤخذ بقدر كافٍ ومناسب. ويظهر هذا الشكل في الأنظمة الديمقراطية التي تعنى بالأفراد، وتمنحه مزايا معينة فضلا عن مشاركته الفعالة في صنع القرار وشغل الوظائف العامة في سبيل النهوض بالدول.
2- مواطنة قاصرة (سالبة): ويظهر هذا الشكل في الأنظمة الدكتاتورية السلطوية التي تقوم على حرمان الأفراد من حقوقهم، والاقتصار على حقوق بسيطة جدا بدرجة معينة، فضلا عن كبر حجم الواجبات الملقاة على عاتقهم. وفي هذا الشكل من أشكال المواطنة يصل الفرد معها إلى حالة من الموت السريري بما ينعكس على الدولة ككل بشكل تدريجي.
ويظهر هذا التعريف بشكل جلي وواضح عند متابعة التطور التاريخي لهذا المفهوم، وخاصة بعد الثورة الفرنسية، حينما تم التخلص من “ألوهية” الحاكم وقداسته باتجاه بناء جمهوريات الحاكم فيها فرد منزوع القداسة وتنحصر مهمته في خدمة شعبه كما يعاقب إذا أخطأ، وبالتالي فإن الجامع المشترك بين كل الأفراد هو الوطن والنهوض به، وتجاوز كل الفروقات من عرق، دين ، لغة، نوع أو لون.
كما تتجاوز كل الأيدولوجيات والمذاهب السائدة، ففي حين تعلن حالات الولاء والاندماج لأيدولوجيا معينة بذاتها أو دين معين أو مذهب محدد، فإن الدائرة الأكبر تتسع، أو الحلقة أو القيد الأكبر يتسع ليحوي القيود السابقة في إطار طاعة أبوية تستمد شرعيتها فقط من وجود “وطن”، والذي يمكن أن نحدده هنا على أنه فقط حين يمنح مجموعة من الحقوق ويصدر ويلزمهم بمجموعة من الواجبات.
وتكمن المشكلة الأكبر أن لفظة مواطنة قد أسبغ عليها فقط وتقيدت إلى الأبد -تقريبا- بكل من مفهومي “الحقوق والواجبات “. على أننا لا نستطيع أن نحررها من هذه القيود ونفلتها، كما أننا أيضا نستصعب إلى الآن في أن ندخل مفهوما ثالثا إليها، فبالفعل فإن مفهوم المواطنة هي حقوق وواجبات فقط. ولعل أكثر ما نلاحظ ذلك في التصنيف الذي وضعه ديريك هيتر في كتابه الموسوم تاريخ موجز للمواطنية حين ربط الانماط السياسية والاجتماعية السائدة بطبيعة تعلقاتها، فقد ربط³:
النظام الإقطاعي: الأرض هي أساس العلاقة بين كلا الطرفين.
النظام الملكي: الولاء للشخص الحاكم.
النظام الاستبدادي: الشخص هو مركز النظام تحت سيطرة (مبررات) عقدية أو أيدولوجية.
القومي (الأمة): يخضع لحكم الأرض تحت اعتبارات مثالية.
المواطنية: تحت اعتبارات الحقوق والواجبات.
باختصار، المواطنة هي عبارة عن صفة فقط يتم إلصاقها على كل من يعيش على بقعة الأرض المسماة “وطن”، والخاضع للسلطة المسماة “دولة”، عن طريق أخذ حقوقه والقيام بواجباته. وهذه الصفة قد تلصق بها حالة المواطن الصالح أو المواطن غير الصالح والتي لا تجد في حجم تصنيفها معيارا ثابتا، وإنما الأهواء والرغبات هي ما يحدد ذلك استنادا أيضا إلى الاختلاف حول مفهوم كل من الحقوق والواجبات وما يندرج تحتها. كما هو الحال في حالات التصنيف عن طريق الدين، فهذا مؤمن وهذا كافر، وهذا مؤمن صالح أو مؤمن غير صالح، ومعيار التصنيف ما يزال نسبيا قاصرا.
وانطلاقا من التعريف الأولي للمواطن الذي يقضي بأن المواطن هو الخاضع لسلطات دولة معينة (دولته) فإن صفة المواطنة تعني الخضوع لسلطات تلكم الدولة بأخذ الحقوق التي كفلتها له الدولة، وأداء الواجبات المفروضة عليه أيضا.
وعلى هذا يجري الأمر على أن يكون مفهوم المواطنة أو المواطنية هي عبارة عن حال الأفراد الذين يعيشون على بقعة معينة من الأرض، ويخضعون لسلطات تلكم البقعة التي اكتسبت صفة شرعنة القوانين ضمن ما خلقته من مؤسسات لتسمى بالدولة، والذين بموجب خضوعهم لهذه القوانين التي اعترفت بحقوقهم وشرعنتها علنا، وفرضت عليهم مجموعة من الواجبات التي هي في حقيقتها لحفظ الحقوق السابقة الذكر.
آنذاك يتعدى الفرد مرحلة كونه فردا ليصبح مواطنا، وتنسف بقعة الأرض تاريخ كونها بقعة أرض لتصبح “وطن”، والعلاقة التبادلية بين بقعة الأرض (الوطن فيما بعد ممثلة بالسلطة الناطق الرسمي باسمه والموكلة بحفظه وحفظ من جعله وطنا) وبين الفرد (أيضا المواطن فيما بعد) لتصاغ هذه العلاقة بما تمت تسميته بـ”المواطنة”. حتى تكون في نهاية الأمر عبارة عن علاقة حقوق بين كل من الأفراد مع بعضهم بعضًا، ومع السلطات في الدولة.
وعلى ذلكم، فإن الخلل في الأفراد لا يلغي عنهم صفة المواطنين (فشهادة المواطنة أسمى من شهادة الميلاد إذ إنها تبقى مع المواطن حتى حين يلقى ربه)، وإنما يتجه الحال لوصفهم بـ”مواطن غير صالح” ، كما لا يلغي حصول أي خلل أيضا انعدام صفة الوطن عن بقعة الأرض تلك، فكل بقعة أرض هي وطن، ولكن النتيجة هي في حجم اللوم الواقع على السلطة لكونها اللسان الناطق “بديهيا وبمحض اختيارها” باسم الوطن.
يشاء إلى ذلك فكرة أخيرة تقضي بأن هذه العلاقة التي تربط بين كلا العنصرين الرئيسين، تحمل كل منهما حملا زائدا بإقرارها علنا بوجود مجموعة من الحقوق للأفراد، ومجموعة من الواجبات أيضا وعليهم الإتيان بها، وهو في ذلك كما عبر أرسطو أيضا في أن المواطنة لا يمكن أن تعمل بكفائية عالية إلا في مجتمع متراص فقط. كما تقضي أيضا على الوطن ممثلا بالسلطة بوجوب حفظ هذه الحقوق المحمولة للمواطن، وجلب الواجبات المحمولة عليه. وفي ذلك حفظ وبقاء لكليهما، واستمرار وجود، إذ تكمن الأهمية الكبرى كما ذكرنا سابقا في قدرتها على إخضاع كل الفروقات بين الأفراد (دين، نوع، لون، عرق، لغة) وصهرها في بوتقة واحدة تحت شعار المواطنة. وعليه فإن كل الأفراد داخل هذه البوتقة متساوون في الحقوق والواجبات.
وتظهر الصورة جليا للمواطنة في أخذ كل مواطن لحقه الكامل دون نقصان أو تغول منه على حقوق غيره، وقيامه بواجباته دون تخاذل أو محاولة اللعب والدوران، ولا يظهر كل ذلك إلا في النظم الديمقراطية فقط. وعلى ذلك إن استمر الخلل لصالح أي من الطرفين، فباختصار فإن الدولة في ضياع مشمولة بكلا طرفيها.