قبل الحديث عن النسوية ، العالم من حولنا مليء بالثنائيات، ثنائيات فكرية وثنائيات مادية وثنائيات روحية؛ إما ثنائيات منسجمة متناغمة وإما ثنائيات متصارعة لدرجة قد تصل حد القتل، فلو أخذنا مثالاً كالداء والدواء، هم ثنائيان متصارعان حد الموت، فأحدهما يقتل الآخر وإن لم يقتله فهما مستمران في صراع ينتهي بانتهاء الجسد الحامل لهما، أو ثنائيات منسجمة، كالحشرة والزهرة، لولا إحداهما لانقرضت الأخرى، وهناك ثنائيات متفاعلة، تتصارع بقوة وبعنف بلا قدرة على إفناء الآخر إفناء ماديا جسديا، لأنها ستفنى أيضاً في تلك الحالة، ولكنها تحاول إفناءه روحياً ومعنوياً عن طريق محاولة الطرف الأقوى إرضاخ الطرف الأضعف، وفي الوقت نفسه يحافظ الطرف الأقوى على أن يظل هو الأقوى، ويحافظ الطرف الأضعف على وجوده ويتشبث بالحياة حتى ولو أدى ذلك لتنازله عن حقه في العيش بما يليق به ككائن حي، وأي صراع بين الكائنات العاقلة (البشر) يبدأ بتصارع أفكار متضادة أو حتى مختلفة.. وعليها يترتب الصراع طويل المدى بين الثنائيات البشرية.
صراع الإيدولوجيات، الرأسمالية والاشتراكية، الأصولية والعلمانية، العمال وأصحاب رأس المال، الحاكم والمحكومين، أتباع السلطة والمعارضين لها، الأغلبية والأقلية من ناحية الصراع الطبقي والمتحكم في أغلبية مصادر القوى، الأغلبية والأقلية من ناحية الدين السائد بالمجتمع، الأغلبية والأقلية من ناحية الفئة العمرية السائدة بالمجتمع، الأغلبية والأقلية من ناحية العرق السائد بالمجتع، أتباع دين وأتباع دين أخر، أتباع مذهب وأتباع مذهب آخر، ووسط هذا الصراع الذي يملأ العالم نجد صراع النوع، والذي بدأ بصراع النوع البشري بأكمله مع الطبيعة في بداية التكوين، وهو الذي انحصر في إما أن يستمر النوع البشري في الوجود (وهو ما حدث) وإما أن تهزمه الطبيعة ويندثر؛ وبعد أن اطمأن النوع نفسه لوجوده واستمراريته بدأ يتطور الصراع ليكون بين طرفي النوع نفسه، الذكر والأنثى.. ربما حدثت مقاومة، وربما لم تحدث بالشكل المطلوب أو الكافي، إلا أننا وصلنا في النهاية في العصر الحالي إلى أنواع مختلفة من الصراع النوعي، فهناك من يأخذه بمأخذ الثنائي المنسجم الذي يتعاون ويتكاتف للوصول إلى أفضل أنواع الحياة التي يمكن أن تتوفر..، وهناك من يريده المتفاعل المتصارع بقوة على ألا يفني أحد النوعين الآخر، وإنما يحافظ على وجود هذا الطرف الأضعف تحت السيطرة الكاملة.
وفي هذا الصراع المتفاعل المتصارع بقوة، نجد من الطرف الأضعف من اعتادت تلك الحياة وتحارب للحفاظ عليها لأسباب عديدة بعضها يرجع للتعود وبعضها للمرض الناجم عن التعود وبعضها يعود للكسل والاستسهال، وهناك من يرفضن هذا الخضوع، يرفضن التهميش، يرفضن الصراع النوعي، يتمنين لو كان انسجاما وليس صراعاً، ومن هنا ظهرت النسوية.. وبدأت بالمطالبة بالمساواة، والمساواة في الفكر النسوي من رؤيتي الخاصة لا تعني الندية والوقوف رأسا برأس مع السيطرة الذكورية بل هدفها توحيد النوع البشري وفصل الانقسام بين شقيه التابع والمتبوع من ناحية النوع.
النسوية مسار تصحيحي لتاريخ العالم الذي يغلب عليه الطابع الذكوري وهي بغرض التمييز للتميز والسيادة بل هي بغرض التمييز للوصول للمساواة وعدم الخضوع للتهميش الذي يطال النساء جميعهن بداخل كل الفئات المهمشة الأخرى، وليس معنى أن أحد الفئات المهمشة قد اتخذت موقفا دفاعيا ضد التهميش أنها تنفي عن الآخر أنه مهمش أيضا، فوجود حركات نسوية في مصر على سبيل المثال لا يعني أنها ضد حركات الأقباط أو المهميشن نتيجة لاختلافهم عن الديانة أو المذاهب السائدة بالدولة كالشيعة والبهائية أو حتى اليهود واللادينيين، وليست ضد حركات النوبيين أو السيناوية أو البدو عموما، وليست ضد حركات العمال أو الحركات النقابية المعنية بالحصول على حقوقهم المهضومة والدفاع عن حقهم كفئات مهمشة ترغب في المساواة. النسوية خرجت كحركة دفاعية عن فئة محددة اختار المنتمون لهذه الفئة والمنتمون معهم أن يقفوا للدفاع عن حقهم في الوجود والمساواة وخصوصاً إن كانت تلك الفئة المهمشة هي أيضاً نصف جميع الفئات المهمشة الأخرى.. فالمرأة هي أحدى طرفي النوع، وهي نصف المهمشين من الأقليات الدينية كاليهودية والبهائية واللادينية، ونصف المهمشين من المختلفين دينياً كالأقباط، ونصف الطبقة العاملة، ونصف المهمشين لإختلافهم العرقي.. إلخ.
وعندما تصل امرأة للسلطة أوالحكم نجد كثيرين ممن يصرخون: هاهي المرأة تحكم، هاهي المرأة تتساوى، هاهي المرأة مكرمة، إلا أنه لا يمكننا قياس وجود امرأة في هذا الموقع (مصادفة في أغلب الأحيان نتيجة للوراثة في الحالة الملكية أو غيرها من الظروف) على أن المرأة سادت ووصلت للمساواة، فعندما نذكر الملكة الفلانية أو الملكة العلانية أو رئيسة وزراء كذا ورئيسة دولة كذا، فإننا هنا لا ننظر للقاعدة بل ننظر لما خالف القاعدة العامة والطبيعية من وجهة نظر بعضهم.. وهي السيادة لأحد طرفي النوع على الآخر، والدليل على ذلك هل في عهد أية ملكة من تلك الملكات أو الرئيسات أو الوزيرات كانت المرأة مجندة بنسبة نصف جند جيش تلك الدولة؟ هل المرأة والرجل يعملان سوياً داخل المنزل بالأعمال المنزلية ورعاية شؤون الأطفال؟ هل يتساوى أجر المرأة والرجل عن نفس الأعمال والمهن مهما تدنت أو مهما علت؟
ما تريده النسوية المقتنعة أنا بها وأؤيدها هو أنه عندما ننظر لتاريخ دولة ما، أي دولة، نجد رؤساءها على مر التاريخ تتقارب نسبة الإناث فيهم من الذكور، ونجد نسبة مبدعيها وكتابها وعلمائها في شتى المجالات تتقارب أيضاً من أن تكون نسبة متساوية، أن تكون نسبة القيادات المهنية والعسكرية والنقابية تتساوى في كل تلك المجالات بلا انحياز أنثوي وظيفي في مجال وانحياز ذكوري وظيفي بمجال آخر (تمثل المرأة فى نقابة مهنة التمريض نسبة 88.1%؛ وتمثل المرأة بنقابة المهن الهندسية نسبة 18%) أي لا نجد مهنا تحتكرها النساء ويوصم الرجل العامل بهذا المجال بأنه “مخنث”، ولا نجد مهنا يحتكرها الرجال وتوصم المرأة التي تعمل بها بأنها مسترجلة. ما تريده النسوية، أو بمعنى أدق ما تريده الإنسانية، أن ينطلق الإنسان للسعي خلف طموحه وخلف رغباته الإنسانية من تعلم وعمل واحتراف وإبداع في كل المجالات بلا قيد من أحد تحت أي مسمى، نوعي جندري، ديني أصولي، عاطفي تملكي.