” لقد أصبح الخطر جزءا من حياتي منذ أن رفعت القلم وكتبت. لا يوجد ما هو أخطر من الحقيقة في عالم مملوء بالكذب”.
ليس من الضرورة كل ما يقوله أو يكتبه الإنسان قد ينعكس على تصرفاته اليومية ومواقفه المفصلية الحاسمة. بيد أن هذه العبارة تعكس بشكل جلي الواقع الذي عاشته الثائرة النسوية الأكاديمية والطبيبة والروائية د. نوال السعداوي. تلك العبارة تلخص ببلاغة حياة السعداوي في نضالها الثوري ضد السلطة السياسية والأبوية في المجتمع العربي والمصري بشكل خاص.
مؤخرا، السعداوي خصتنا في “مواطن” بحوار خاص. وبعد هذا الحوار، صادف أن “مجلة التايمس” اختارت السعداوي ضمن قائمة 100 شخصية نسائية الأكثر تأثيرا حول العالم في القرن الماضي. وعلى الرغم أني استخدمت صيغة الجماعة في تأكيد الفرحة بخبر اختيار السعداوي من قبل مجلة التايمس الشهيرة، إلا أنه بدون أدنى شك، قياسا بمعاركها السابقة، كان هذا الخبر مثل الصاعقة نزلت على رؤوس أعداء السعداوي والنشاط النسوي بشكل عام؛ فالسعداوي لها أعداء كثر يمثلون أقصى مراحل تخلف الذكورية الدوغمائية التي انعكست في أشكال كثيرة أهمها السلطة السياسية والدينية والاجتماعية. وأعتقد من أهم أسباب كثرة أعداء نوال السعداوي ، وكثرة محبيها أيضا في آن واحد، هو أصالة نضالها وطريق المعالجة التي اختارتها لحلحلة مشكلة الذكورية في المجتمع.
لعل، أوفي الحقيقة، هذه المقالة القصيرة، لن تضيف شيئا لرصيد السعداوي قدر ما أنها ستضيف لنا في “مواطن” ولي ككاتب لهذه المقالة؛ بيد أني آمل أن يصل لها لأؤكد لها كغيري من الآلاف على أقل تقدير: يا أيتها الثائرة الكبيرة إن نضالك لن يذهب سدى وأن تراثك الثوري، كتابةً ومواقفا، سيبقى بعدك قرونا.
السعداوي اختارت أصعب الطرق عندما قررت أن تقتلع المشكلة من أصولها، لا أن تعالج بسطحية المشكلة الظاهرة فقط. ولهذا نلحظ شمولية الخطاب عند السعداوي المتلمس لجميع جذور المشكلة؛ ففي جميع كتاباتها تربط بين تحرير المرأة والإنسان بشكل عام من ناحية وتحرير الوطن من ناحية أخرى في نَواحٍ ثقافية واجتماعية وسياسية. وهذا ما أكدته فعلا السلطة في مصر عام 1981 عندما حكمت عليها بالسجن بتهمة جرائم ضد الدولة بعد صراحتها وجرأتها في طرح آرائها النسوية، وسبق هذا الحكم وتلاه الكثير من التضييق عليها في نشاطها ورزق عيشها، مع منع كتبها وعدم السماح لها بالكتابة في الصحف المصرية.
ولم يكن مستغربا أن تنزل نوال السعداوي ساحة الاعتصام في ميدان التحرير وتشارك الثوار ثورتهم رغم تقدم عمرها وتراجع صحتها وهي الثائرة التي واجهت بكل شجاعة جبروت عبدالناصر، وتأسلم السادات، وفساد مبارك. ولم يكن مستغربا أن تنزل السعداوي ميدان التحرير وهي التي لطالما دافعت عن حرية التعبير وكرامة الإنسان وأكدت العلاقة الوثيقة بين السلطة الأبوية الذكورية والسياسية والدينية؛ فتحرير المرأة يأتي بتحرير الإنسان.. بتحرير المواطن من الموروث الديني، والاستبداد السياسي، والعوز المادي.
إلا أن هناك من يرى أن سيرة نوال السعداوي النضالية تشوهت باصطفافها بجانب الرئيس السيسي الذي وصل لسدة الحكم على ظهر دبابة، خائضا بها واديا من الدماء المصرية. والآن هناك آلاف من الأصوات المعارضة تغيبهم السجون البوليسية في ظروف قاسية. هذه كلها حقائق لا ينكرها إلا شخص مكابر عن رؤية الحقيقة وقولها بشجاعة. من حق أي شخص أن ينتقد السعداوي حول موقفها من السيسي مهما كانت طبيعته، بيد أني حاولت أن أجد تصريحا واحدا لها يؤيد السيسي بشكل فج، وفيه نوع من التطبيل المبالغ فيه، كما عهدناه من أنصار المستبد في عالمنا العربي، ولم أجد. لا أريد أن أقف في موقف المدافع عن السعداوي؛ فتاريخها يشفع لها كبواتها -إن وجدت- خاصة ونحن نعلم تقدمها في العمر وتدهور صحتها، كلها عوامل تمنع أي إنسان من متابعة الواقع السياسي عن كثب. كل ما وجدته هي مقارنة بين فترة حكم السيسي الآن، وفترة حكم من سبقه من الرؤساء؛ فمن وجهة نظرها فترة حكم السيسي أفضل.
لعل أيضا هناك أسباب تنطلق من الذات وتؤثر في نظرتها على الخارج وحكمها على الأشياء، من أهمها موقفها المعادي للإسلام السياسي وجماعة الإخوان بالتحديد، هذا على الصعيد الأيديولوجي. أما على الصعيد الشخصي فهي تقارن بين الماضي والحاضر ومستوى الحرية التي تعيشها ككاتبة؛ فكتبها لم تعد ممنوعة كما هو سابقا، واسمها لم يعد ممنوعا من الكتابة في الصحافة المصرية كما هو سابقا أيضا. ورغم كل ما ذكرت، من يعتقد أن السعداوي مخطئة في هذا النوع من الاصطفاف مهما كانت طبيعته، فهذا حقه دون أدنى شك. بيد أنه من الصعب جدا أن تلغي تاريخها بسبب هذا الموقف فقط خاصة عندما تستمتع لها وهي تتحدث عن موقفها معللة وشارحة؛ فليس اصطفافا غبيا أوسطحيا هذا لو اعتبرناه اصطفافا أصلا.
ولعل خير ما أختم به هذه المقالة القصيرة هو ثلاث اقتباسات للسعداوي يلخصن مشروع السعداوي بالكامل:
“الإنسان إنسان بعقله وليس بجسده، ولهذا يجب أن يرتبط مفهوم الشرف بعقل الإنسان سواء ذكرا أو أنثى؛ فالعقل الصادق هو الإنسان الشريف، والعقل المفكر المنتج هو الإنسان الشريف”.
“أنا لا أفصل بين تحرير المرأة وتحرير الوطن”.
“يفقد الإنسان كرامته حين يعجز عن الإنفاق على نفسه”.
*مقدمة ملف “قضايا المرأة العربية“