خلق الله الناس شعوبًا وقبائل، مختلفين لونًا ودينًا ولغةً وعقولاً وطبقاتٍ اجتماعيةً، وامتد ذلك الاختلاف ليشمل كل ما على وجه الأرض؛ “ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ۚ ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك(28) “(1).
فلم يختر أحد من الناس دينه ولا لونه ولا لغته، إلا أنه من العجيب أن يتعصب كل منتمٍ إلى دينه، وقد ولد وارثًا هذا الدين من أبويه دون إرادة منه واختيار، ثم أصبح يتعصب له، وماذا لو وُلد المسلم في أمة لم يبعث فيها نذير؛ نبي أو رسول؟ ولم تسمع تلك الأمة أصلا عن أي دين إبراهيمي أو عقيدة أخرى؟ ثم يدعي المسلم جهلا وتعصبًا أن الجنة للمسلمين فقط دون الناس أجمعين، ويدعي المسيحي أن الملكوت لن يكون من نصيب من أنكر ألوهية المسيح أو ثالوثية، وأن جهنم وبحيرة النار المتقدة بالكبريت هي مصير الكفار في الآخرة، حتى وإن كان هذا الإنسان (الكافر) صاحب علم وأمانة وخلق حسن،فهل الأزمة في النص المقدس؟ أم في جهل أتباع الدين؟ أم في تأويل النص؟ أم فيها جميعًا؟
تحرير المصطلحات
وإذا تقصينا تحرير المصطلحات في النص القرآني الذي نزل في وعاء اللغة الفصحى بلسان عربي مبين؛ لوجدنا تأويلات عجبا. القول في تأويل: “إن الدين عند الله الإسلام”(2)ومعنى ” الدين” في هذا الموضع: الطاعة والذلة، من قول الشاعر: ويوم الحزن إذ حشدت معد وكان الناس، إلا نحن دينا. يعني طائعين. وكذلك الإسلام، فهو الانقياد بالتذلل والخشوع، والفعل منه”: أسلم ” بمعنى: دخل في السلم، كما يقال: ” أقحط القوم “، إذا دخلوا في القحط، “وأربعوا” إذا دخلوا في الربيع. فكذلك ” أسلموا” إذا دخلوا في السلم، وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل قوله: ” إن الدين عند الله الإسلام: هو أن الطاعة التي هي الطاعة عنده والطاعة له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذلة، وانقيادها له بالطاعة من غير استكبار عليه، ولا انحراف عنه، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة. فلم التعسف وقد أراد الله بالدين الطاعة، وأراد بالإسلام الانقياد والخضوع؟
أما قوله: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”(3).
أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في الإسلام؛ حيث لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقسورًا. فعن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتا؛ فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا. فأنزل الله: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.
والآية هنا تحتمل التأويل على مستويين أو وجهين:
- أنه لا إكراه على العقيدة واعتناق الدين.
- لا إكراه على أداء العبادات.
إلا أن المفسرين قد أبوا إلا التعسف في التأويل، فذهبت طائفة كثيرة منهم إلى أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية. وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام، فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية، قوتل حتى يقتل. وأيد ذلك التعسف نص الحديث الصحيح: “عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل“(4). أي الذين أسلموا بسلاسل الحرب على اعتبار أنه الدين الحق!
ويعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال، ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة. فنقضوا بذلك آية محكمة، وزعموا أن الله قد تراجع عن نهيه عن الإكراه في الدين بنص حديث رواه البخاري في صحيحه! وقد اختلف في معناه: قال الحافظ ابن حجر (5): ” المراد بكون السلاسل في أعناقهم: مقيد بحالة الدنيا؛ فلا مانع من حمله على حقيقته. والتقدير: يدخلون الجنة، وكانوا قبل أن يسلموا في السلاسل. وقال ابن الجوزي: معناه: أنهم أُسروا وقيدوا، فلما عرفوا صحة الإسلام، دخلوا طوعا، فدخلوا الجنة، فكان الإكراه على الأسر والتقييد هو السبب الأول، وكأنه أَطلق على الإكراه: التسلسل. ونحن لا ندري علام اختلفوا؟
ثم نقضوا المستوى الآخر في النهي عن الإكراه على أداء العبادة، فقالوا بكفر وردة من ترك ركنًا من أركان الدين عامدًا. فقال ابن حزم: روينا عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن مسعود وجماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وعن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه رحمة الله عليهم، وعن تمام سبعة عشر رجلاً من الصحابة والتابعين أن من ترك صلاة فرض عامدا ذاكرا حتى يخرج وقتها، فإنه كافر ومرتد. ثم اختلفوا فيمن أقر بوجوبها ثم تركها تكاسلا. فذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يكفر، وأنه يحبس حتى يصلي. وذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يكفر ولكن يقتل حدًا ما لم يصلِّ.
وفي مسند أحمد بإسناد جيد عن النبي أنه ذكر الصلاة يومًا بين أصحابه فقال: “من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف”.فإن حشره مع هؤلاء (العتاة) يدل على أنه كافر كفرًا أكبر؛ لأن حشره مع رؤوس الكفرة يدل على أنه قد صار مثلهم. ولا ندري كيف يُحكم على إنسان لم يصلّ بالقتل في الدنيا، وبالحشر في الآخرة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف؟ ثم لا نقول إن ذلك ليس من الإكراه في الدين!
التخيير الإلهي بين الإيمان والكفر، وهل هو كذلك؟
“وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا”.
“يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا، واتبعوا أهواءهم، الحقّ أيها الناس من عند ربكم، وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء منكم للرشاد، فيؤمن، ويضلّ من يشاء عن الهدى فيكفر، ليس إلي من ذلك شيء، ولست بطارد لهواكم من كان للحقّ متبعا، وبالله وبما أنـزل علي مؤمنا، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا، فإنكم إن كفرتم فقد أعد لكم ربكم على كفركم به نارًا أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته، فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته” (6).
ولا ندري أيضا كيف يكون الإنسان مخيرا بين الإيمان والكفر، وقد تم تهديده بالنار يوم القيامة، وبماء كالمهل يشوي الوجوه؟ أليس في ذلك تعارض مع قوله: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”؟ وفي تأويلها قال ابن عباس: “من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء الله له الكفر كفر، وهو قوله: وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين وليس هذا بإطلاق من الله الكفر لمن شاء، والإيمان لمن أراد، وإنما هو تهديد ووعيد. وقد بين أن ذلك كذلك قوله: “إنا أعتدنا للظالمين نارا” والآيات بعدها.
وللإمعان في التهديد والوعيد قالوا: “أحاط بهم سرادقها” أي أحاط سرادق النار التي أعدها الله للكافرين بربهم، وذلك فيما قيل: حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط، وهي الحجرة التي تطيف بالفسطاط. وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” سرادق النار أربعة جدر، كثف كل واحد مثل مسيرة أربعين سنة”. وعنه أيضا قال: ” ماء كالمهل”، قال: ” كعكر الزيت، فإذا قربه إليه سقط فروة وجهه فيه”. وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة في النار من شدة ما بهم من العطش، فيطلبون الماء يغاثوا بماء المهل.
ومع كل ذلك اختلفوا في المهل، فقال بعضهم: هو كل شيء أذيب وانماع. وقال آخرون: هو القيح والدم الأسود. وقيل: القيح والدم. وقيل: ماء جهنم أسود، وهي سوداء، وشجرها أسود، وأهلها سود. وقيل: هو ماء غليظ مثل دردي الزيت. أما عن شي الوجوه يقول جل ثناؤه: يشوي ذلك الماء الذي يغاثون به وجوههم. فإذا قرب منه، شوى وجهه، ووقعت فَرْوة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه. يحكون ذلك وكأنهم يلتذون بمشاهد تعذيب الإنسان في النار، وكأن الله لم يجعل لهم من الرحمة نصيبًا! وعن سعيد بن جبير، قال هارون: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها، فاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارًا مرّ بهم يعرفهم، لعرف جلود وجوههم فيها، ثم يصبّ عليهم العطش، فيستغيثون، فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حرّه، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حرّه لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
فلم يكن من هؤلاء إلا أن ضيقوا واسعا لخالق وسعت رحمته كل شيء، وصنعوا من أنفسهم حاجزا بين والله وخلقه محتكرين الحقيقية، بل الحق، ومن سواهم على باطل. ولم يعلموا أن مبعث الأخلاق قبس من روح الله، وضعه في الانسان قبل الأديان؛ فالإنسانية كانت قبل الدين، وما كانت الأديان إلا مكملة أو متممة لها، ومن حسنت أخلاقه قادته إلى الدين، وليس شرطا أن يقود الدين الناس إلى حسن الأخلاق، فكم من متدين سيء الأخلاق! وكما جاء في نصوص الأحاديث – إن صحت – “دخلت امرأة النار في هرة، ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلا”. وأخرى غفر الله لها “بينما كلب يطيف بركية، كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها، فسقته فغفر لها به”. فهل صدق أبو العلاء حين قال: إن الشرائع ألقت بيننا. وأودعتنا أفانين العداوات.
المصادر
1- سورة فاطر، الآيتان (27)، (28).
2- تفسير الطبري، سورة البقرة الآية (19).
3-نفس المصدر، سورة البقرة الآية (256).
4-رواه البخاري في صحيحه (3010)، باب الأسارى في السلاسل.
5- فتح الباري.
6- تفسير الطبري، سورة الكهف الآية (29).