اتمنى أن يكون هذا المقال “الفن والاقتصاد” دعوةً للبحث على نحو مختصٍ أكثر لقراءة الاقتصاد قراءةً فنيةً كما يقرأ الاقتصاد الفن قراءةً إقتصادية، على غرار البحوث التي تنشأ حالياً على يد كثيرٍ من علماء الهرمنيوطيقا في تقديم قراءةٍ تأويلية للإقتصاد و التي بالطبع فإن جهودهم ستكون رافداً كبيراً للتطرق لموضوع المقالة.
وصف القضية
هل يمكن تخيل وجود وظيفة فنانٍ او ناقدٍ في الشركات المنتجة و المسوقة؟! لم لا؟! يعتمد نجاح المنتج على رغبات المستهلكين و مدى احتياجهم له و من ثم طريقة التسويق التي ينفذ من خلالها منازلهم، هذا الأمر يعتمد على فهم مزاج الطبقة المستهدفة و رغباتهم كما هي مبادئ قانون العرض و الطلب في أقصى حدودها، و مع هذا يبقى الأمر في هذا الموضوع أوسع أفقاً من ذلك و يجعل من الفن في مفهومه البنيوي التوليدي على الأقل أكثر ارتباطاً بالاقتصاد و التدخل في بنيته. يشاهد العالم على سبيل المثال مع الأزمة الحضارية التي تعيشها الهوية الإنسانية في خضم العولمة المتسارعة و مشاكل الصراع الحضاري المحتدم عالمياً نزعةً للعَود المستمر للماضي و محاولة جلبه للحاضر باستمرار، و الموضة هي أكثر هذه الآثار دلالةً و حضوراً في تمثيل ذلك.
ألوان التسعينات و الثمانينات عادت للحضور مع أقمشتها في تغيير طفيف في اخذ المقاسات او ترتيب الازرار و تنسيقها، هذا السلوك الاجتماعي العام ذو الرواج قائمٌ على معاناة الطبقات الاجتماعية المختلفة من واقعها و الأزمات الحضارية التي يعيشها العالم على مختلف الأصعدة، و الشعور بالعودة للماضي هو ما يبعث الراحة قليلاً في الوعي الجمعي من حيث إعادته لتقييم وضعه و وصف الماضي بأنه أفضل مع أنه قد لا يكون كذلك و لكن كما يقال أنه يبقى أفضل عند البشر لأنه قد مرّ، الاستقرار الاقتصادي العالمي و الزهاء الرأسمالي في العقود الأربعة الأخيرة من القرن المنصرم بعد انهيار الإتحاد السوفياتي خلّف شعوراً بالانتشاء و الخروج عن الطور العام و الشعور بحريةٍ مطلقة خلفت تمرداً على مفاهيم كالمعتقد و الذوق العام و جعلت من العالم يتقدم سريعاً حتى في المجال التقني. قطار العولمة الذي يشق أسواق العالم و يقتحم المجتمعات المغلقة مع ما يصاحبه من تقدمٍ رأسمالي في القرن الحالي هو الأخر يواجه ردة فعلٍ تصف نوعية الصراع الحضاري في العالم الجديد كردة فعلٍ يصفها علم الإجتماع بالطبيعية التي تخرجها الهوية و العلائق التاريخية و معاناة الطبقة العاملة، و لكن هذا قد لا يبدو واضحاً في فوضى العولمة و الفن وحده هو ما سيعبر عنها و يخرجها على السطح المزدحم في العالم الجديد.
الشواهد
هذه الأحداث بمجموعها يمكن تشخيصها في الكثير من الأعمال الفنية التي تعكس رؤية العالم لدى الطبقات الاجتماعية المختلفة و خصوصاً في العالم الذي أصبح تقريباً مجتمع قريةٍ صغيرة واحد، اجترار الصراعات الدينية و التاريخية للحاضر في الفصل الجديد من التاريخ ما نسميه بصراع الحضارات القائم على الايديولوجيا و الهوية كما يوصِّفُها هينتنغتون يمكن أن نراه في الأعمال الفنية التي تنقلها في صورةٍ اكثر جلاء. انجح الأعمال الدرامية على المستوى العالمي في العقدين الاخيرين فانتازيا تاريخية جيم اوف ثرونز، و قصة عصابة بريطانية من جنودٍ بعد الحرب العالمية الثانية تلقى هي الاخرى جمهوراً مرحباً واسعا يصل بها إلى العالمية انتهاءً بلاكاسا دي بابل كردة فعلٍ تجاه العولمة الرأسمالية و الكثير غيرها من الأعمال السينمائية الموجهة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية لدول مثل تركيا و إيران و الكثير غيرها.
لا ينسى كذلك الفارق الخيالي الكبير بين الأعمال الفنية في مجال الخيال العلمي حاضراً عنها في القرن الماضي جعل منها تظهر بالمظهر السخيف في المجتمع الحديث، و هذا ربما هو الجانب الذي لم تسحبه الأزمات المعايشة للوعي الجمعي و لعل ذلك بسبب التقدم التكنولوجي الفارق خلال العقد الأخير، الأمر ليس محض صدفة و إنما هو شاهدٌ يمكن كذلك دراسته على الحقب الزمنية المختلفة إجتماعياً، فماتريكس، محاكمة يهوة، و الشيطان هي أعمال سينمائية نقلها فنانون يؤرخون للنظرة الاجتماعية لكل الطبقات و رؤيتها للعالم، فكانت تعبيراً عن الحرية الحديثة التي كسروا قيودها مع افول السوفييته و توسع الديمقراطية و ما صاحبها من ازدهار رأسمالي و حريات اقتصادية اسهمت في إحداث ازدهارٍ ثقافيٍ و فنيٍ واسع كان ربما السبب في إعادة اجترار التاريخ كردة فعلٍ لذلك، و لكن المهم هو أن الناتج الفني آنذاك كان معبراً عن حالة الطفرة في المفاهيم و التحرر و الشك و الخروج عن المألوف لكتابة فصلٍ جديدٍ في الحضارة.
سخرية البردوني هي لسان حال طبقة و مجتمع من الحرمان يتوارى خلفها سخطه على الواقع السياسي و المعيشي في أقنعةٍ رمزية تحاكي تفاصيل الحياة البسيطة، بينما مجتمعه و طبقته الإجتماعية لا تعي حرمانها و ألمها في خدرٍ ديني و وهمٍ موجه من قبل السلطة، و البردوني وحده ينبري ليكون لسان شعبٍ ينتمي غالبيته لطبقةٍ اقتصاديةٍ واحدة هي العمال و الفلاحين، تاريخ لندن و معاناتها مع القمامة و التكدس المدني مع انعدام بنية تحتية صحية التي بقيت لصيقاً بالمدينة كلما مرّ القارئ على أعمال تشارلز ديكنز و هو يعرض وصفاً على ذلك بقصدٍ او دون قصد، كما هي الصورة المرتسمة عن الحياة بوصفها قاسية في ذهنية الفنان الاديب ديكنز و أقرانه و حجم الألم الذي تشتمل عليه أعماله كأوليفر و النهايات المؤلمة كما في أوقاتٍ عصيبة او الامال الكبرى لولا سخط الجمهور و رغبته في النهايات الحالمة اكثر من تلك الواقعية. أشكال الألم و المعاناة، الرفاه و الازدهار و الحب و الحرب المختلفة في كل عصر نجدها بارزة في سماتٍ أساسية تميز الحركة الأدبية و المنتوج الفني لكل عصر ضمن بيئة جغرافية سياسية ما.
مربط الفرس
وجهة الحديث الآن تقود لتكرار التساؤل السابق “هل يمكن ان نشاهد منصب أديب او فنان ناقد كوظيفةٍ لا غنى عنها لنجاح الشركات المنتجة و المسوقة؟!. بالطبع إن الإنتاج الفني لا يعتبر فقط توثيقاً تاريخياً او رؤيةً للعالم بل تعبيراً عن ما يغلب على الذوق العام و توجهه و بتعبيرٍ أخر رغبة المستهلكين و احتياجاتهم و لا يقف عند هذا الحد فقط بل يمكن أن يبني او يبنى عليه توقعات لهذه الرغبات و الاحتياجات التي يستطيع فيها المنتج حينها تلبيتها و تحقيق الفائدة المرجوة من نشاطه الاقتصادي و التحقق من أمانه. الألة الإعلانية و الإعلامية المبدعة في يد القوى الرأس مالية استطاعت حتى تحريك رغبات جمهور المستهلكين كمنعكسٍ شرطي اقترن مع احتياجاتهم الأساسية و التي هي منعكس غير شرطي جعل من تلك السابقة بمثابة حاجةٍ ضرورية حركت الوعي العام بأكمله، و لكن هذا لا يمكن تحققه إذا كانت القوة الإعلانية و الإعلامية غير قادرة على محاكاة الذوق العام للطبقة الاجتماعية المستهدفة و رؤيتها للعالم و الذي لا يمكن رؤيته في أبهى تجلياته كما يستوحى من البنيوية التوليدية إلا في العمل الفني لتلك الطبقة.
الإنتاج الفني المعبر عن الطبقة الإقتصادية هو أيضاً مؤثرٌ مباشر في وعيها و يستطيع إعادة صياغة الوعي طبقاً لأهداف الفنان و لك أن تتخيل كيف أن لهذا التأثير تبعات اقتصادية، فالعمل الفني الموجه و المؤثر على وعي الطبقة يستطيع أن يغير مفاهيم الأفراد و طريقة تفكيرهم بحيث إنه مثالاً يقدر على تغيير نوع السلعة و إبعادها من قائمة السلع الأساسية أو إضافتها إليها بحيث يتحكم في مبيعاتها عبر تغيير تفضيلات المستهلكين و التأثير على اختياراتهم. ما أود طرحه في إثبات قدرة الفن هذه على تغيير التفضيلات و التحكم في اختيارات افراد الطبقة الإقتصادية هو أنه بأثره الجمالي و اللذة الفتية التي يمنحها لمتذوقيه يمتلك القدرة على ذلك، فهو الدين الأصيل قبل كينونة دين اللاهوتية و القوى و لنا أن نعرف قدرة الدين على تعطيل التفرد في التفكير و الإختيار و هذا من النادر في ظل وجوده و ما له من أثر في التحكم بخياراتنا، و لهذا فالفن هو الدين القديم الذي مازال يعمل عمله فينا و ليس من أحدٍ كافرٍ به.الموضوع هنا لا يعني فقط هذا المثال و الاستدلال أن الفن نقطةٌ عارضةٌ تعرض على الإقتصاد في ظروف معينة، فمقام الحديث هنا ليس إلا محض لمحةٍ من صورةٍ تجانسية للحقلين الفن و الاقتصاد و كيف نلج الحقل الأخير في صورةٍ أكثر قرباً و بساطةً للفهم العام.