استقبل العالم عامه العشرين من الألفية الثالثة بجائحة فيروس كرونا المستجد كوفيد 19 COVID-19 CORONAVIRUS PANDEMIC وسط تحذيرات منظمة الصحة العالمية والمؤسسات المعنية بالصحة العامة والأمراض والأوبئة من اتساع دائرة انتشار المرض وتخوفات الحكومات من مدى قدرتها على السيطرة وجاهزية مؤسساتها وطواقمها الطبية. انتشار الأوبئة ليس بالجديد علينا، مئات الملايين من أسلافنا كانوا ضحايا الأوبئة، هذه ليست نظرة سوداوية للحياة بقدر ما هي حقيقة حياتنا نحن البشر، بل الحياة نفسها. جرثومة الحياة التى أصابت هذا الكوكب منذ ملايين السنين وإلى أن وصل الإنسان العاقل من قرابة (٣٠٠) آلاف سنة حسب اكتشافات باحثي معهد ماكس بلانك بجبل إيجود بالمغرب وصراعه مع الأوبئة قصة لا تنتهي. نتذكر طاعون القرون الوسطى الملقب بالموت الأسود الذي تسبب في مقتل ما يقرب من (٢٠٠) مليون إنسان. ربما يكون سيناريو الطاعون “الموت الاسود” بعيد تاريخيا عن ذاكرتنا وكان واجبًا علينا أن نذكر وباء أقرب. نعم الإنفلوانزا (H1N1) التي عرفت باسم الإنفلوانزا الإسبانية والتي قتلت ما يقارب (١٠٠) مليون إنسان معظمهم من الشباب. لكل وباء ظروفه التي انتقل بها حسب تطورات المجتمعات وما يلحق بها من عوامل، انتقل طاعون القرون الوسطى عبر خطوط التجارة الممتدة من الصين شرقًا إلى وسط أوروبا وغربها واستمر قرابة أربع سنوات، أما الإنفلوانزا الإسبانية التى حملها الجنود العائدون من الحرب العالمية الأولى، التقوا في خنادق الحرب وداخل الثكنات العسكرية وعادوا إلى أوطانهم بويلات الحرب ووباء قاتل. أما وبائنا الحالي (COVID 19) الذي انتشر في وقت قياسي، ويرجع ذلك لعوامل عدة منها ما يتعلق بطبيعة الفيروس نفسه المسبب للمرض بالانتشار وخصائص عالمنا الجديد، عالم يشهد سيولة الحركة والتواصل بين جميع شعوب الكوكب. حقًّا ما أشبه اليوم بالبارحة مع اختلافات تفصيلية.
هل سيولة التنقل والحدود المسامية بين الدول وتطور تكنولوجيا التجارة العالمية هي التي سارعت في انتشار الوباء؟
الحديث عن هذا الشق يطول وله مقال آخر. التباعد الاجتماعي والعزل المنزلي لتقليل انتشار العدوى وتخفيف الضغط على الأنظمة الصحية بدأت الجهات المعنية بدعوات التباعد الاجتماعي. لا للمصافحة بالأيدي، لا للقبلات، تجنب التواجد في الأماكن المزدحمة، حافظ على مسافة آمنة بينك وبين الآخرين. أغلقت المدارس والنواديي والملاهى ودور العبادة وفرضت حكومات حظر التجوال تباعًا ووضعت مدن وأحياء وقرى تحت الحجر الصحي، اغلقت الدول حدودها وأُلغيت الرحلات الجوية. نعلم أن العزلة الاجتماعية والوحدة والاكتئاب مشكلات سائدة في مجتمعاتنا والآن نحن مطالبون بالمزيد من العزل والتباعد. وتشجيعًا لذلك كان الحل في التواصل الاجتماعي الرقمي، فبادرت الجامعات والمؤسسات التعليمية بزيادة فاعلية التعليم الإلكتروني “عن بعد” كذلك الحفلات الترفيهية والندوات، جلسات الأصدقاء، اجتماعات العمل، لقاءات السياسيين والقادة، شاهدنا حفلات الأوبرا والمسارح بدون جمهور تقليدي، كذلك أول قمة عن بعد لقادة دول العشرين. بدأ الحديث الجاد عن أثر العملات النقدية في نقل العدوى ومبادرات استبدالها ببطاقات الدفع الإلكتروني. تصفح المتاجر الإلكترونية والإغراءات المقدمة لأصحاب بطاقات الدفع الإلكتروني كبديل للمتاجر ومراكز التسوق. برز العالم الرقمي كبديل حقيقى وواقع بعدما كان يسمى “افتراضي”.
هل كان حقًا التواصل الرقمي الذي أتى تباعًا مع الثورة الرقمية واقعًا افتراضيًا؟ أم أخطأنا تسميته وكان يجب أن نسميه “واقعًا تجريبيًا”؟
(نقصد هنا واقعًا تجريبيًا أنه كان قيد التجربة لإحلاله محل واقعنا القديم) العزلة والحجر والتباعد الاجتماعي وأثرها النفسي بعدما أعلنت منظمة الصحة العالمية وباء (COVID19) جائحة عالمية، انتشر الخوف من الوباء بسرعة تقارب أو تفوق سرعة انتشار المرض نفسة، دعا الجميع إلى التباعد الاجتماعي، وفُرِض الحجر الصحي على الكثير. تعد هذه الإجراءات هي الأولى من نوعها في القرن الحادي والعشرين حتى الآن. تكررت في السابق لكن ليست بهذا الانتشار الواسع في أرجاء العالم، نحن بصدد واقع جديد. جهة واحدة دولية (WHO) هي التي تعلن عن وضع الوباء ومدى انتشاره وبروتوكولات التشخيص والعلاج وذلك بالتنسيق مع حكومات الدول. شعوب العالم تتشارك الخوف وأوقات الحجر عبر شبكات التواصل الرقمية، من الممكن أن نصفه بأول “تريند عالمي”. نشاهد سكان مدن إيطالية في شرفات منازلهم يتشاركون مواهبهم من غناء ورقص وعزف. كذلك بمصر، خرج الكثير منهم في وقت واحد بعضم بتكبيرات وأدعية دينية وأوقات أخرى بالأغاني وبعضهم نظم مسيرات في الشوارع بهتافات دينية في أوقات فرضت فيها الحكومة حظر التجوال للحد من انتشار العدوى. الخوف دافع الجميع. قد يطول أو يقصر هذا الوباء، نختلف أو نتفق حول مدى خطورته لكن لن يَفْنِى البشر، سيرحل الوباء وربما نرحل معه نحن أو بعض أحبائنا ومن المؤكد أنه يأخذ معه الكثير من اشقائنا في الإنسانية، سيرحل خطر الوباء باكتساب مناعة بالإصابة أو بالأمصال التي يتسابق الكثير في إنتاجها يإجراءات الحجر الصحي ودعوات التباعد الاجتماعي.
لكن هل ستعود حياتنا إلى ما كانت عليه قبل وباء (COVID 19)؟
ترحل الأوبئة وتترك آثارها الصحية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك النفسية. منذ بداية الجائحة ظهرت سلوكيات عدة على السطح، هلع العديد لتخزين المواد العذائية والمنظفات ومستلزمات التعقيم وورق التواليت. ما الذي يفسر ارتفاع المخزونات، الهستيريا التي أصابتهم، كذلك ظهرت سلوكيات أخرى بجلاء مثل كراهية الأجانب ورواج العديد من نظريات المؤامرة؟ في حديث لموقع “ديسكفر” مع عالم النفس الإكلينيكي ستيفن تايلور حول التداعيات النفسية التي تسببها الأوبئة. يعتبر تايلور خبيرًا في التفاعلات النفسية التي تسببها الأوبئة. في كتابه الجديد، علم نفس الأوبئة: الاستعداد للفاشية العالمية القادمة للأمراض المعدية، يستكشف تايلور كيف يستجيب الناس للأوبئة وكيف تنتشر هذه السلوكيات. كي نكون في مأمن من خطر قادم نتصرف كباقى الجموع، ربما كان هذا الدافع لتخرين المواد الغذائية. أما الخوف من الأجانب، فقد شاهدنا الرئيس الأمريكي في بدايات تفشي الوباء وهو يصفه بأنه “الفيروس الصيني” وفي العديد من المجتمعات أيضا لوحظ حالات التمييز ضد الصينين. وقد زايد البعض وضم إليهم ذوي الملامح الشرق آسيوية. التنمر على الأكلات الشعبية الصينية. لم تسلم الطواقم الطبية من موجة التمييز هذه، طالب سكان عقار بالإسكندربة رحيل طبيبة، سجلت من قبل العديد من حالات التمييز ضد الطواقم الطبية التى تعاملت مع مرضى “سارس” في الولايات المتحدة. رواج نظريات المؤامرة والخرافات وتصديق الكثير لها الراجع إلى حاجة الناس اليقين. التشكك وعدم اليقين غالبًا ما يكون مُقلِقًا وغير مرضى للإنسان خاصة في أوقات الأزمات، نظريات المؤامرة توفر الكثير من اليقين للإنسان الذي بدوره يحقق له بعض الطمأنينة كذلك الخرافة، الطمأنينة من المصير المجهول الذي ينتظره، لذلك راجت نظريات المؤامرة وتكهنات نهاية العالم. من الواضح أن الوباء أظهر أسوأ ما فينا وتجربتنا معه لن تنتهي بتحجيمه فقط، آثاره الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تنتظرنا ستكون أكبر بكثير، قد تشمل طريقة إدارة كوكبنا وآليات السوق العالمية وأولويات الحكومات وما إلى ذلك، أما نحن، وسط هذه التغيرات الكبرى والعزل والحجر الصحي والتباعد الاجتماعي والمزيد من التواصل الرقمي، إنْ نجونا من الوباء وتبعاته، فسنولد في واقع جديد .