قدمت العلمانية في آلاف المؤلفات الشارحة والمنتظرة بوصفها تيارا فكريا ووِجهةٌ ثقافية تقدمية، وكإيديولوجيا قد تقولبت داخل أنساقٍ عِدة، وقد تمحورت أفكارها وتنظيرات أعلامها في العديد من المناهج منذ أن تجذرت في الفسلفة اليونانية القديمة خاصة لدى أبيقور ومرورها بطور الأوج والازدهار على أيدي مفكري عصر التنوير كجون لوك وديدرو وسبينوزا وفولتير، في حين أن محتوى تلك المؤلفات وهذي السرديات قد تخلى عن جموده، خاصةً في القرنين الماضيين، ليتمظهر بشكلٍ أكبر داخل المؤلفات الأدبية والفكرية والفلسفية كأحد عناصر الصورة المُكمِلة للعمل، وكلحن متضافر مع غيره من الألحان ليكمل السيمفونية، بدلاً من تفردها بصورة مجردة داخل الأكاديميات المفسرة ودوائر المعرفة المرسخة لأساسات اتجاهٍ بعينه.
وقد أدت هذه المزية -أي تخلص العلمانية من ثوبها النظري المجرد- إلى انتقالها على لسان الساسة وأفواه المفكرين وجريانها بخطابات المفوضين بنهضة أممهم خاصة في المجتمعات الشرقية والعربية الباحثين عن روشتة لنهضة أممهم وإيقاظها من سباتها العميق، ممن قد عادوا محملين بالتجارب الأوروبية المودرنزية (الحديثة) التي تتحدث عن العالم والإنسان وإعادة فهم الأديان وأهمية التسامح مع كافة الطروحات المنبثقة خارج حدود الدوجما/المعتقد، ومن هنا لم تصبح العلمانية فلسفة معقدة، أو نظرية صعبة تحتاج إلى شروحات أو تفسير عميق، وإنما تم استقبالها من الجميع على أنها القانون الطبيعي للحياة، والأساس والركيزة التي يجب أن يستند إليها الدستور والقوانين العامة للأمم.
إلى أن انقلب الوضع برمته منذ نصف قرن ويزيد في مجتمعات الشرق الأوسط، فلاحت الحاجة إلى ضرورة إبراز المفهوم والأنساق التي تستند إليها العلمانية كحتمية وضرورة ونسق يجب الاستناد إليه عندما يتطرق الأمر إلى قضايا الحُكم ومرجعيات القانون والمساحة التي يحتلها ثالوث العلم/الفن/الإبداع في الحياة العامة حين اقترابهم من المناطق المحظورة التي تفرضها السلطة ويحمي شوكتها الوعي الجمعيّ العام. فأضحت المعادلة تستعيد بريقها الرياذيّ الرمزيّ: نصٌ علمانيّ يقابله نص الإسلام السياسي (الكنيسة). فأصبحت قضية إعادة الشروحات جد منطقية حينما تورط العلم مع الدين وحيثما يعلو صوت شبهات الأصولية الدينية والإيديولوجيات المتطرفة بدعوى مجابهة تيارات الفكر المناقضة للأعراف ولما جُبِل عليه الناس والمجتمع، وذلك باسم الدين والتراث وثقافة المجموع أمام الحقيقة والعلم.
وقد تغيرت بوصلة العالم الآن، وأصبح النقاش والجدال كوكبياً متخلياً عن حدوده القارية والإقليمية، ليفرض كورونا نزعته الشمولية والاستبدادية، ويضبط سلوك الناس في العالم وفق منهجه وخطته التي يُعد أساسها كشف المستور أمام الجميع، وتعرية الحكومات والأديان والساسة وصناع القرار وأهل الحكمة والفكر والانتلجنتسيا والقوى الناعمة في المجتمعات؛ إذ وقف الجميع مذعناً؛ مقدماً فروض الولاء والطاعة، وانكشفت كافة النشاطات خاصة الاجتماعية والدينية أمام مصدر القوة/الشر الوحيد في العالم الآن. وإن تغيرت نظرة الناس وتخلى الجميع عن تشائمهم ولو للحظات، وإن عادت بوارق لانبثاق الأمل فحينها دون أن تقرأ أو تعرف أو تتابع، فبطل القصة التي تصدر الأمل و تعيد إحياء النفوس التي فقدت الثقة والحلم والطموح، هي منظمة الصحة العالمية .. معامل السويد .. أطباء فرنسا .. جامعات انجلترا .. مراكز البحث الألمانية .. شركات الدواء الأمريكية .. مراكز البحث واقتصاديات الصحة الصينية واليابانية والماليزية.
في حين قبل عدة شهور وربما أيام، كانت بوارق الأمل تأتي من دعوات المآذن وأجراس الكنيسة وتبركات الحاخامات ووصايا المعتزلين والنُساك. وقد كان كورونا واضحاً في دعوته الكوكبية دون تحيزٍ أو تصنيف معلناً استراحة الأرض من الصراعات العقائدية والمذهبية والعنصرية، ومحاولة كل معتقد إثبات أهليته وكفائته على بقية الأديان، فقد أغلقت دور العبادة جميعها دون تفريق بين المسيحيين واليهود والمسلمين والبوذيين والبهائيين ..إلخ، ولم يدع حداً فاصلاً بين الملل والنحل، بين السنيّ والشيعيّ، أو المعتدل والمتطرف ولا الأصوليّ والمُجدد. ووضع الجميع تحت رحمة العلم والأطباء والعقاقير والأمصال وأجهزة التنفس وغرف العناية المركزة.
أما الآن ومع تفشي كورونا، فعاد الجدل بين الدين والعلم .. بين العلم والجهل المقدس .. بين الخزعبلات والتبركات والتمتمات وبين البحث العلميّ والاستقراء والاكتشاف. وهنا تأتي إحدى نوادر التاريخ التي تتكرر بالكاد حينما توضع الأديان أمام اختبارات بهذه القوة في معركة لا تستطيع قوة الإرهاب العينيّ والفكريّ ولا معارك الدماء ولا كرامات القادة أنصاف الآلهة والمتألهين أن تحسمها، والأنكى أنها لا تمتلك القدرة لأن ترجئها، فقط ما تستطيعه أن تقف أمامها -أي تلك المعركة- مكتوفة الأيدي في خطٍ واصطفاف واحد مع الجميع. ولا صوت يعلو فوق العلم ومراكز الطب وإشارات العلماء والباحثين.
في أوج انتشاره وتوحشه، يتفشى كورونا في تركيا وإيران ويقترب من الفتك بدول أخرى كالسعودية ومصر .. بلادٌ وأمم تحكمها إيديولوجيات إسلامية. تتميز تعامل حكوماتهم بالتناقض في مجابهة الجائحة. يرغبون في اصطبار المواطنين بالجوانب الروحية وبمزايا الابتلاء وبقدرة الصلوات والتبتلات في حين أن تصرفاتهم هي محض برجماتية، فالأزهريّ وذو المقام الدينيّ وآية الله العظمى وإمام الحرمين لا يفعلون إلا ما يفعله مارقو أوروبا والمتزنقدون في مشارق ومغارب الشرق الآسيويّ الملحد، ينعزلون في منازلهم مثلهم .. يطبقون إجراءات العزل الصحيّ المفروض نفسها.. لا يختلطون وذويهم .. يتتبعون أنباء العقاقير والأمصال .. ينتظرون إشارة المواجهة من مراكز الطب والمعامل الفرنسية والألمانية .. يطمعون في فيض رحمة شركات الدواء الأمريكية.
ومع ذلك تتفشى تصريحات الجهل المقدس مع تفشي كورونا، ليكشف أحدهم عن تعاون أعداء من الإنس والجن ضد بلاده، وآخر صرح بأن الدعاء هو الوحيد القادر على هزيمة كورونا، ليخيل إلينا أنهم يحاربون نوعاً آخر من الفيروس، وسواد العالم يجابه كوفيد-19 وعدوهم هم هو الكوفيديا الإلهية التي تعد إحدى صور الابتلاء الذي أدى إلى إثارة الجدل خاصة لدى الشباب وكثير من المعارضين لدى هذه السلطات الذين ملوا كرامات الأولياء والمقامات والأضرحة وصكوك الحماية المستمدة من المساجد والكنائس والمعابد. إلى حين تصعبت الأمور وكان لابُد من إغلاق محال الحماية المزعومة؛ فأغلقت المساجد والمراقد الدينية وتجمعات الكنائس، ولم يتصور كثير من هؤلاء أن الأمر يمكن أن يطول أكبر وجهات تجمع المسلمين على وجه الأرض “الحرمين”. فقد كانت هذه الأماكن هي التي تعطي الحماية الروحية والجسدية لمريديها ضد الأمراض والعدوى والابتلاءات الصحية إلى أنها أصبحت أكثر الأماكن عرضة لتفشي المرض داخلها وهو الذي تسبب في ردة فكرية وأزمة شديدة لدى كثير من المعتنقين حتى ولو لم يمتلكوا شجاعة البوح بهذا الشعور بالتناقض وعدم الجدوى، وإغلاق هذه الوجهات أتى هذه المرة برعاية المستمدين لمبررات وجودهم لسياسيّ والثقافيّ منها وهو الذي لم يحدث من قبل.
ومن هنا بدأت تتضح الصورة بشكلٍ منطقيّ لا يراه إلا الراغب في إعماء ذاته عن حقيقة لا يتحمل قبولها، في أن الدين والعلم مجالات مختلفة، لا يمكن أن يتورط أحدهما مع الآخر، ولا يمكن أن يتعايش كلاهما على مسافة واحدة حين تقرير وتصريف شؤون المجتمع والقضايا العامة. وأن الحفاظ على الصحة العامة والجسد رهن للأطباء وللعلم وللعقاقير والعلاجات وليس بالتبركات والتمتمات والصلوات. والتهذيب الروحيّ شأن يخص الفرد وليس مظهرًا من مظاهر حياة المجتمع الذي لا يجب أن تتورط فيه الدولة ولا أن تفرضه ولا حتى تقوم بتنظيمه لأن هناك قوانين عليا يجب أن يتم الاحتكام إليها وهي حريات التفكير والاعتقاد والرأي والاحتكام لثقافة العلم وحقائق الطب والاقتصاد والسوسيولوجيا والأنثربولوجي، والدعوة الوحيدة الإنسانية هي دعوة التنوير ووأد أية محاولات لتثبيت المطلق في النسبي وهي الجذور الأساسية لأفكار واتجاهات العلمانية. فألغى فيروس كورونا مظاهر التدين الجماعي الزائف لتصبح الخبرة الدينية محض تجربة، والنشاطات الاجتماعية والدينية قد بدت هشاشتها أمام العدوى.
ومع إغلاق أي دار للعبادة .. ومع كل دعوة من رمز ديني من الأخذ بأسباب العلم والطب، تم طرح السؤال بقوة عن العلاقة بين الدين والسلطة .. والدين والسياسة .. والمطلق والنسبي. ومع إغلاق المساجد والكنائس والمعابد تغلق صفحات من التاريخ سطرت قرونًا من صراعات العلم والدين الذي أصبح الراسب الأول والخاسر الأكبر من معركة كورونا التي تؤول كلمتها العُليا والأولى إلى الأطباء والعلماء والباحثين وليس رجال الدين الذي يبدو أن كثيراً منهم قد خسر وظيفته وأصبحت عماماتهم وتفسيراتهم ومؤلفاتهم المقدسة نوعًا من الكيتش (حلم الخلاص) الزائف، وقناعًا يمكن أن يجر التخلف والتردي وراءه وربما الموت أيضًا. وقد ضعفت الثقة بين الناس والشباب وبين أدعياء الحقيقة المقدسة وأصحاب الحول السحرية المتقنعة وراء الأساطير والغيبيات والترهات.