هل ثمة تعارض بين المبادئ العامة لحقوق الإنسان المستمدة من الشرعة الدولية كالإعلان العالمي والعهدين الدوليين، والمبادئ العامة التي دعا إليها الإسلام؟ للإجابة عن هذا السؤال بدقة علينا أولا، بالتأكيد، ومنطقيا، تحديد ما المقصود بالإسلام. وكما هو معروف، قد لا تكون هنالك أي مبالغة لو قلنا إن هنالك مئات النسخ من الإسلام التي تختلف وتتباين باختلاف المكان والزمان. لكن دعونا ننظر للموضوع من زاوية موضوعية، زاوية امرئ لا ينتسب كإيمان لأي من تلك النسخ، فضلا عن انتسابه للدين ذاته. هناك بعض التعارض بين المبادئ العامة لحقوق الإنسان المستمدة من الشرعة الدولية كالإعلان العالمي والعهدين الدوليين، والمبادئ العامة التي دعا إليها الإسلام. والمقصود بالإسلام هنا، هو الفهم الغالب والمنتشر في الأوساط الإسلامية، وسأطلق عليه في هذه المقالة بـ(الموروث الإسلامي). وكمقاربة عامة بين تلك النسخ نلخص أهم مبادئ حقوق الإنسان المتعارف عليها عالميا التي تتعارض والموروث الإسلامية:
حرمة الخروج على الحاكم
جاء في العهدين الدوليين في الجزء الأول/ المادة (1): “لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها. وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.” ولا يمكن تقرير المصير إلا بوجود إرادة حرة تتبناها فئة من الناس فقط في أي مجتمع، وأي دولة، وهذا ديدن التاريخ. إذ لا يمكن، وليس من الطبيعي، أن تجد مجتمعا على بكرة أبيه يتفق على أمر ما ويكون له رأي وصوت واحد. لذلك فمن الطبيعي أن تتصادم هذه الإرادة مع مراكز السلطة التي ستلجأ إلى تقويض تلك الإرادة بتعليل مسوغات معينة. في المجتمعات الإسلامية هناك مسوغ ومبدأ موجود في الموروث الإسلامي تتبانه دائما السلطة سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق أذرعها الدينية الإسلامية وبالأخص الفهم السلفي؛ فهناك أكثر من 100 حديث نبوي تقريبا ينسب للنبي محمد، تحرم التصادم مع السلطة والخروج عن إرادتها، ولا يسع المجال هنا لذكرها جميعها، وأشهرها: قال حذيفة بن اليمان: “قلت يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم، قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع”. مبدأ حرمة الخروج على الحاكم وإن جار وظلم، قد لا تبيح للسلطة باسم الإسلام القتل فحسب، بل تبرر وتسوغ المجازر مهما كانت بشاعتها!
عدم المساواة بين المسلم وغير المسلم
في العهدين الدوليين الجزء الثاني/ المادة (2): “تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد باحترام الحقوق المعترف بها فيه، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، دون أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب.” وفي الإعلان العالمي المادة (1): “يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء.” وحسب الموروث الإسلامي والفهم العام ليس هناك مساواة بين المسلم وغيره من البشر معتنقي الديانات والقناعات الأخرى. الموروث في الإسلام بطبيعة تكوينه لا يقوم على مبدأ المواطنة، المتعارف عليه في الدولة الحديثة، كركيزة أساسية في تنظيم العلاقات بين منتسبيه. وهذا المصطلح لا يوجد له أصل في الموروث الإسلامي ولا يوجد له نظير يساويه في الاصطلاح وعمق التكوين. والموروث الإسلامي يؤكد الفرق بين حقوق المسلم وغيره، مثل قضايا الزواج والقصاص. وفي التاريخ الإسلامي هناك تطبيقات لهذا المبدأ، وعلى سبيل المثال وليس الحصر: العهدة العمرية.
عدم المساواة بين المرأة والرجل
في العهدين الدوليين الجزء الثاني/ المادة (3): “تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بكفالة تساوي الرجال والنساء في حق التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية المنصوص عليها في هذا العهد.” وفي الإعلان العالمي المادة (2): “لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس ……، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء……” أما الموروث في الإسلام يؤكد عدم مساواة المرأة بالرجل بشكل واضح وصريح في أربعة قضايا: الشهادة والميراث والزواج وتولي المناصب، والعليا منها بشكل خاص. ويتجاوز إلى أبعد من ذلك عدما يصفها أنها ناقصة عقل ودين ويساويها بالكلب والحمار كأحد مبطلات الصلاة.
العبودية
في العهدين الدوليين الجزء الثاني/ المادة (8): “لا يجوز استرقاق أحد، ويحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورهما.” وفي الإعلان العالمي المادة (4): “لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما.” لكن حتى يومنا هذا ما زال المسلمون يتعبدون بآيات الجهاد والاستعباد التي ذكرت صراحة في القرآن. وكذلك هناك أحاديث عدة وقصص تاريخية إسلامية تؤكد وتأصل للعبودية على مستوى الجواري والعبيد.
حرية الاعتقاد
في الإعلان العالمي المادة (18): “لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة.” بيد أن الموروث الإسلامي يتعارض مع هذا المبدأ رغم أن هناك آية صريحة في القرآن تدعو لحرية الاعتقاد، تستخدم لتأكيد مبدأ حرية الاعتقاد في الإسلام. لكن تبقى هناك ثلاثة إشكاليات أصيلة:
أولا: حسب السيرة المحمدية في الموروث الإسلامي، محمد وصحابته قتلوا المرتد عن الإسلام بحجة أن هذا الخروج هو خروج عن إطار الدولة الإسلامية وليس الدين فحسب، والذي سيشكل خطرًا على مصالح وتكوين الدولة، وحسب المصطلح الحديث سيؤثر على الأمن القومي للبلاد. وبسبب غياب ضابط واضح ومحدد، تستطيع السلطة وأجنحتها الدينية تطبيق هذا المبدأ على كل من شاءوا حتى لو كانت لأهداف سياسية.
ثانيا: المجاهرة بالردة ومحاولة نشر المعتقد غير الإسلامي في بلاد الإسلام يعتبر جريمة في العرف الإسلامي كذلك، وتبرر قتل من يعبر عن ذلك.
ثالثا: لأن الموروث الإسلامي لا يساوي أصلا بين المسلم وغيره بشكل عام؛ فلو نجا المغير دينه من سيف علة الردة والمجاهرة والتبشير فلن يكون مساويا للمسلم في الحقوق أصلا.
رغم أن بعض هذه المبادئ الإسلامية التي تتعارض والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين، غابت عن التطبيق في معظم الدولة الإسلامية ولم نعد نراها. بيد أنها مازالت موجودة في المقدس والموروث الإسلامي وتدرس كذلك على مستويات متفاوتة في الدول الإسلامية. وما زال هذا الفهم موجودا في مخيال وباطن عقل الفرد المسلم ولو تظاهر بخلاف ذلك. وهذه أحد العوامل التي أدت إلى ظهور الفرق والتنظيمات المتطرفة.
وفي الحقيقة، نحن كمسلمين دينيا وثقافيا، يجب أن نعترف أن ما نراه من تقدم في مجال حقوق الإنسان في الدول الإسلامية ما جاء إلا نتيجة لتقدم مستوى حقوق الإنسان في العالم بشكل عام. وهذه ليست دعوة لنبذ الإسلام؛ لأنه واقع لا يمكن الهروب عنه، قدر ما هي دعوة للفهم والتفهم وتجديد ومصالحة هذا الدين مع الواقع وحقوق الإنسان بشكل جدي وشجاع عن طريق النقد التاريخي الفيلولوجي لتفكيك القدسية وإيقاف العمل بما هو غير متناسب مع روح العصر، وليس فقط بشكل مائع وجبان كما يفعل بعض من ينعتون أنفسهم بالمجددين عندما يحاولون تمييع المقدس مع واقع التطور الحضاري والعلمي.
المقاربة الأخرى ستكون حول الواقع، ولأنه من الصعب أن نفصل في واقع كل الدول الخليجية في هذه المساحة الضيقة، سلطنة عمان ستكون مثالنا في هذه المقاربة، مع التأكيد أنه لا يوجد تفاوت كبير نسبيا بين الدول الخليجية في واقع حقوق الإنسان.
الواقع الاجتماعي
ما نظرة المجتمع إلى حقوق الإنسان.. إيجابية أم سلبية؟ لن أتحدث عن الاستثناءات قدر ما سأتحدث عن العقل الجمعي في المجتمع العماني حول مفهوم ومبدأ وواقع حقوق الإنسان اصطلاحا وتنظيما. من وجهة نظري أراها سلبية وإلى درجة متطرفة في أحيان معينة. أولا من حيث المفهوم والمبدأ: بسبب غياب هذا المفهوم عن المناهج الدراسية، وإذا ذُكر، فإنه يُذكر على استحياء، إضافة إلى ضعف المجتمع المدني بشكل عام وغياب المؤسسات الحقوقية، كحق الوجود أصلا، قبل غياب دورها المنوط في نشر الوعي الحقوقي وممارسة دورها الدفاعي عن الحقوق الإنسانية، أدّى إلى تغييب هذا المبدأ وأهميته لدى العقل الجمعي العماني. هذا الغياب الواضح في الوعي الحقوقي ساعد في تغييب الثقافة والمعرفة القانونية الدنيا التي يحتاجها كل مواطن في معرفة حقوقه وواجباته بشكل دقيق وواضح دون غبن أو تقصير. كذلك سهل للسلطة تشويه سمعة المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات الدولية المهتمة والمدافعة عن حقوق الإنسان حول العالم بتهم أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها ساذجة مثل الخيانة، ورعاية أجندات خارجية، لغرض استغفال العقل الجمعي الضعيف حقوقيا وقانونيا أصلا بشعارات خاوية.
ثانيا من حيث الواقع والتنظيم: القانون العماني يجرم ممارسة العمل المنظم بدون ترخيص ومن ضمنها وبشكل أكبر المجالات الحقوقية والسياسية. مرسوم قانون الجمعيات الأهلية رقم 14/2001، المعدل 23/2007، لم يذكر المجال الحقوقي من ضمن المجالات التي يرخصها وينظمها القانون، فقط، أعطى بشكل فضفاض مجلس الوزراء صلاحية منح وسحب ترخيص أي مجال آخر لم ينص عليه القانون. ومنذ صدور القانون حتى يومنا هذا لم يعطَ أي ترخيص في المجال الحقوقي رغم محاولة بعض الناشطين. هذا الواقع مكّن السلطة بشكل سهل وميسر في عمل تجاوزات قانونية وحقوقية دون التوجس من وجود رادع وفاضح لانتهاكاتها.
النظام وموضوعات حقوق الإنسان
النظام في عمان غير مهتم بموضوعات حقوق الإنسان حتى على مستوى الأفكار؛ إذ لا توجد نية صادقة لتأسيس عمل حقوقي رصين وأصيل وكل ما يهمها الدعاية الخارجية أكثر من اهتمامها بحقوق المواطن العماني. ويمكن تلخيص ذلك في نقطتين: 1- كما أسلفت، القانون العماني يجرم ممارسة العمل الحقوقي بشكل منظم بدون ترخيص، ومنذ صدور قانون الجمعيات حتى يومنا هذا لم يرخص لأي نشاط حقوقي. 2- أنشئت مؤسسة حقوقية حكومية للدعاية الخارجية عن طريق أعضاء معينين من قبل السلطة غير معنيين بالنشاط الحقوقي كما يقال لا من قريب ولا من بعيد، وبرئيس من خلفية عسكرية في دورة التعيين الأولى والثانية، ثم برئيس كان وما زال أحد أدوات مقص الرقيب في دورة التعيينات الثالثة والرابعة (الأخيرة). أثبتت اللجنة عبر السنوات التي مضت فشلها وضعفها في عدة قضايا، لأن العمل الحقوقي يكتسب قوته من دعامتين هما مستوى قوة وحرية الإعلام، ومدى صلاحيات ممثلي الشعب، وكلا الدعامتين منكسرتان أصلا.
الناشطون الحقوقيون
أما على مستوى الأفراد المشتغلين والناشطين في مجالات حقوق الإنسان، فقد حاربهم النظام عن طريق تشويه السمعة واغتيال شخصياتهم، والملاحقات القانونية، والتضييق الاجتماعي، والمنع من حضور ورش العمل الخارجية، ومنعهم من القيام بأي حراك داخلي حتى لو كان ثقافيا هدفه رفع مستوى الوعي؛ فضلا عن أحكام السجن، والموت في السجن كما حدث مع حسن البشام.
المنظمات الحقوقية
وعلى مستوى المنظمات والجمعيات الداخلية والخارجية، فبسبب النظام لا توجد أي منظمات أو جمعيات حقوقية في عمان للحديث حولها إلا الحكومية طبعا وغير معترف بها من أغلب الناشطين العمانيين من حيث المصداقية وهذا ما أوضحه بيان المقرر الخاص المعني بحق حرية التجمع السلمي، في زيارته لعمان سنة 2014، بعد لقائه بعدة ناشطين عمانيين. وعلى مستوى المنظمات الخارجية يمكن توصيف المشهد على ثلاث مستويات:
أولا: العقل الجمعي العماني؛ يرى في المنظمات الحقوقية أنها أذرع لأجندات مشبوهة هدفها زعزعة أمن البلد إلى آخره من توصيفات خاوية، لا تمت للواقع بصلة أو على أقل تقدير بنسبة كبيرة. ثانيا: استجابة السلطة لتقارير وبيانات هذه المنظمات؛ يكاد يكون صفرًا لأن عمل هذه المنظمات كما نعلم قائم على الضغوطات الأخلاقية فحسب ولا توجد لها وسائل ضغط أخرى تقريبا. وبما أن عمان فقيرة على مستوى المجتمع المدني والحقوقي بشكل خاص مع غياب حرية الرأي والإعلام والصلاحيات البرلمانية، لا يوجد من يحول هذه الضغوط الأخلاقية إلى واقع يجبر السلطة للاستجابة أو حتى الرد على تلك التقارير والبيانات. ثالثا: تعامل الناشطين في مجال حقوق الإنسان مع المنظمات؛ يعتبر مشبوها ويعرض المدافع للكثير من المخاطر والضغوطات تصل إلى مستوى السجن والمنع من السفر وسحب الوثائق الشخصية.
تأصيل مبادئ حقوق الإنسان المستمدة من الشرعة الدولية كالإعلان العالمي والعهدين الدوليين في أي دولة، ليس رفاهية بل هو مطلب أصيل، كذلك ليست منحة من أحد بل هي ملك للبشر بصفتهم بشرا يجب أن يحصلوا عليها متكاملة دون تجزئة لأنها غير قابلة للتجزئة، لذلك لا يمكن تأسيس دولة المواطنة الحديثة في ظل تجاهل أحد أهم أركانها الأساسية.