قضايا و حقوق مجتمع الميم والاختلاف الجنسي والرغبات الجنسية والتحولات الجنسية والاضطرابات الجنسية والمغايرة الجنسية، جميعها قضايا تمثل أزمات كبيرة وعميقة في المجتمعات العربية والإسلامية، لخطورة مناقشتها أو بحثها أو ممارستها أو حتى أن يكون الإنسان طبيعيا أو حرا في التصرف معها. في الكويت تحدث أحد العابرين جنسيا، على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، في مقطع صغير وهو يبكي بحرقة وألم وتعاسة عما تعرض له من اغتصاب وتحرش ومعاملة مهينة عندما كان في سجن الرجال على خلفية قضايا التشبه بالنساء. وتعاقب حكومة الكويت المثليين والعابرين جنسيا بالسجن، باعتبارهم شكليا أقرب إلى النساء، وفق المادة 198 من قانون العقوبات التي تجرم التشبه بالنساء. وقد ارتفعت أصوات الناشطين والناشطات بعد هذه الحادثة للمطالبة بإلغاء تلك المادة المجحفة بحق الإنسان وحريته الجنسية. إلا أن الحكومة الكويتية، كما في مثيلاتها في الوطن العربي، لا تخضع لمثل تلك الأصوات الحقوقية لحسابات مجتمعية وسياسية لم يتم التخلص منها أو تجاوزها.
هذا الحدث، وهذه القصص المتكررة، على طول وعرض المجتمعات العربية، حول التصرفات اللاأخلاقية والاعتداءات الجنسية والتنمر الاجتماعي تجاه المثليين والعابرين جنسيا وغيرهم، إنما تمثل أحد أبشع أنواع السلوكيات الاضطهادية التي ينتهجها البعض، وخصوصا رجال الأمن، في زيادة الألم النفسي، وفي احتقار هذا الإنسان، مهما كان مثليا أو عابرا للجنس أو غيره. فالهوية الجنسية اليوم، لم تعد كما كانت في السابق، تمارس في الظلام وخلف الأضواء وفي الغرف المغلقة خوفا من المجتمع وسلطة التقاليد. بل اليوم، أصبحت الدول والمنظمات وهيئات حقوق الإنسان ذات قوة ودعم وتأييد للإنسان، مهما كانت شخصيته الجنسية، بل وتقدم العديد من الدول الغربية حق اللجوء الإنساني لمن يتعرض للتهديدات على خلفية هويته الجنسية.
وشهدت مؤخرا عدة دول غربية اعترافات بزواج المثليين، وفي تمكينهم وتحصينهم قانونيا من الملاحقات والتنمر وعدم توظيفهم. وهذه الأفعال، لم تأتِ من أجل حماية الأقليات الفئوية في المجتمع فقط، وإنما هي تصرفات أخلاقية واجتماعية يدعمها الدستور العلماني الذي يحترم الخصوصيات الفردية والهوية الجنسية، بعد أن ثبت بشكل علمي قاطع أن المثلية وغيرها، ليست أمراضًا نفسية، ولا عللًا خلقية، وإنما هي شكل صحي من أشكال التوجه الجنسي عند البشر.
ورغم أن هناك العديد من الأبحاث والكتب والدراسات التي ناقشت هذه القضايا من منظور طبي وعلمي ونفسي، إلا أن الهدف من هذا المقال، ليس نسخ ولصق مثل هذه النتائج النهائية، فهي موجودة لمن يرغب في الاطلاع عليها في مواقع البحث المعروفة. وإنما هدفي من هذا المقال، هو إلقاء الضوء على الحلول الواقعية، وعلى أسباب هذا الاضطهاد، وعلى شحن العقل العربي المسلم بقيم المحبة والتعايش وقبول الآخر.
في مجتمعاتنا، نولد ونحن نحمل ثقافة آبائنا وأجدادنا، وليس هذا فقط، وإنما أخلاقهم وسلوكياتهم ومعتقداتهم وكل طرق حياتهم. نحن لا تسكننا الفردية ولا الاستقلالية ولا التجاوزية الحرة، إنما ما يسكننا، هو التقليد والنقل والاستنساخ والتكرار. فمن نراه اليوم مثليا أو عابرا للجنس أو ترانسجندر ..إلخ، كان يطلق عليه لقب جنس ثالث أو (خـ..ـث) في الماضي، بدون أي تصنيفات فرعية واضحة، تمثل اليوم شكل الإنسان وهويته الجنسية وكيانه المادي، لضعف الثقافة والمعرفة وقلة الاطلاع وعدم مواكبة التطورات.
كانت الغالبية تحتقرهم وتعتبرهم مرضى ومجانين وذوي سلوكيات منحلة وساقطة ومن أهل جهنم وغيرها من المفردات المهينة، وكان عقابهم الحبس والضرب وحلق الشعر، وبعضهم يذهبون به إلى الطب النفسي. كانت النظرة تجاههم نابعة من جهل ومن تطرف ومن رؤية دينية وتقاليد قبلية وعادات مجتمعية. رؤية تجعلهم في مرتبة الحيوانات، رغم أن الحيوانات أيضا مثلية الجنس، كما ذكر تقرير أعده بروس بيجميل في عام 1989، قال فيه “إنه جرى رصد قرابة 1500 فصيلة حيوانية تتدرج من الرئيسيات وحتى الديدان، منها 500 فصيلة موثقة توثيقا تفصيليا بأنها تمارس سلوكا جنسيا مثليا”.
إلا أن الغريب، وفي عالم اليوم، وانفتاح اليوم، وتواصله المعرفي والتكنولوجي والإعلامي، لا يزال هذا المجتمع، مجتمع الميم ، يعاني من وجود نفس العقليات. أجساد تلبس أفخم لباس وتتعلم في أرقى الجامعات وتسافر وتأكل وتستمتع بكل ما حولها، إلا أنها تحمل عقولا مريضة، عقولا منغلقة على ثقافة الأجداد، لا يرغبون برؤية من يختلف عنهم وهو يعيش شخصيته الحقيقية وينتصر على سجونه الجنسية، ليصبح ويتحول ويمارس ما يرغب فيه بكل حرية لأنه إنسان فقط. مثل هذه العقول، هي العقول المرعبة والخطيرة، العقول التي لا تحمل سلاحا في الحقيقة، ولكنها تحمل أفكارا هدامة وتصرفات بشعة يمكن اعتبارها أخطر أنواع الأسلحة في العصر الحديث.
ما نحن بحاجه إليه لوضع الحلول يتجاوز بكثير القوانين الرادعة، والمواد القانونية الداعمة لوجود مجتمع الميم وحرياتهم الجنسية. نحن بحاجة إلى ثورة أخلاقية وفكرية وجنسية، وإعادة النظر في كثير من المفاهيم والقيم والمناهج والخطابات الدينية والرسمية. نحن بحاجة إلى رؤية الأمور وفق المنطق والعقل والعلم والواقع. أن نجعل من كل إنسان قيمة في ذاته، قيمة في جوهره، قيمة في ما يعطيه من سلوكيات إيجابية وأخلاقيات عملية لا علاقة لها بشكله أو بهويته. تلك القيم والمبادئ المتعلقة باحترام الإنسان فقط، رغم أنها حداثية الفكرة وأخلاقية المعاملة، إلا أنها لم تستوطن ثقافتنا، ولم تسكن مناهجنا، ولم تمثل لنا أسلوبا عصريا في التعامل مع الآخر المختلف، لأننا مازلنا نعيش داخل سجن العادات والتقاليد والعقل الجمعي. ذلك السجن الذي يجعلنا نخشى من الاعتراف بحقيقتنا وداخلنا الجنسي. ذلك السجن الذي يجعلنا نرغب بتنميط ذواتنا وفق الأكثرية والأغلبية وما يقوله الناس. ذلك السجن الذي يطالبنا كل يوم بالمزيد من الانغلاق والهروب والخوف والتردد.
فإذا أردنا ألا تتكرر مثل هذه الحوادث المفجعة، ومثل تلك الانتهاكات الصارخة بحق مجتمع الميم او الإنسان المثلي أو العابر جنسيا، فعلينا أن نتمسك بمواثيق حقوق الإنسان، أن نتمسك بما وصلت إليه الحداثة الفكرية والممارسة الديمقراطية في شأن الحريات الفردية والجنسية. أن نثق تماما بأن الإنسان الذي يخطئ هو الإنسان الذي يمارس عملا ضارا، عملا يهدد السلم ويدعو إلى الإيذاء والكراهية والحروب والقتل. وما عدا ذلك، فهو عمل يندرج تحت مسمى الحريات الشخصية التي تمثل الإنسان ذاته ولا تمثل المجتمع بكل فئاته.علينا أن نتمسك بالمواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية. فمثل تلك القيم والمبادئ والأخلاقيات، هي التي جعلت الأمم من غيرنا تتجاوز عثراتها وتصحح أخطاءها وتستمر في العمل والإنتاج والإبداع. فكل ما يمارسه الإنسان في حياته العملية، سواء كان رجلًا أو امرأة أو عابرًا أو مثليًّا، هو إضافة للبشرية، إضافة تخدم المجتمع وتسهم في تطور البلد.
إن الاختلاف قيمة عظيمة ومستوى عال ومتقدم من احترام حقوق الإنسان، ومن تقدير الفرد لذاته. نعم قد يكون هناك رفض وعدم موافقة لوجود مجتمع الميم ، وهذا أمر طبيعي وحتى صحي، ولكن المهم والأهم أن يكون التعامل المجتمعي لمثل هذه القضايا ينطلق من منطلق احترام الإنسان، وليس من منطلق الإساءة إليه أو نفيه أو ممارسة العنف ضده، فمثل هذه التصرفات الوحشية لم تعد مقبولة أخلاقيا وقانونيا وحضاريا، بل تمثل الجانب البدائي للسلوك الإنساني، وقد انتهت منه اليوم المجتمعات المتقدمة، وحري بنا أن نكون، ليس مثلهم تماما، ولكن أن نفهم القضايا الجنسية بمنظور جديد، منظور يقطع مع العقاب إلى منظور حقوقي وديمقراطي في تقبل الآخر وفهم وجوده وأحقية أن يكون مواطنا صالحا في المجتمع الواحد مهما كانت هويته الجنسية.