العالم الجديد وعصور ما بعد الحداثة قد فرضت على الجميع، أفرادًا وتياراتٍ وأنظمةً، البحثَ عن الأدوات المناسبة والناجعة للتعامل مع معطيات وإنتاجات هذا العصر، وكذا نمطًا جديدًا ومرنًا من التفكير يترجم إلى خطابات ونصوص تتعامل مع الواقع كما هو دون مزايدات أو محاولات لإنعاش سرديات سابقة مبتسرة تعادي المستقبليات وحبيسة الماضي، تلك التي تمتاز دوما بتوجيه أصابع الاهتمام أكثر من الاشتباك مع الواقع، والبكاء على المآثر على أن تفرض مأثوراتها وتأثيرها، والنقد الذاتيّ البنّاء دون خطابات الصلف والعنجهية التي تحل فيها الحناجر محل العقول، والمعارك الجانبية ومناوشات الصحف وسجالات تُستعرض فيها المحسنات اللفظية ومهارات الخطابة أكثر من الرؤى بعيدة النظر ومقاربات وفرضيات تفكك وتشكل الواقع الجديد. ومن تلك الوجهة تُثار قضية الاشتراكية واليسار عموما، واليسار العربي خصوصًا كأنموذج حيّ وخاص عند الحديث عن دور فلسفة الاشتراكية وهي المسوغ السياسي والاجتماعي لمجتمع اليسار. وعلى الرغم من أن اليسار يمتلك تاريخًا قديمًا وعريقًا في بعض الأحيان وسط غيره من الإيديولوجيات والاتجاهات التي تملكت زمام الحكم.
إلا أنه حين تتم موازنته مع غيره من الاتجاهات الليبرالية اليمينية في الحالة العربية وهي الشاهد في مقالنا ومحل الموقف والمقارنة، نجد أن تلك الجماعات والتيارات -اليسارية- قد توجت كافة مساعيها بالفشل التنظيميّ والميدانيّ والإيديولوجيّ والسياسيَ، وفشلت حتى في تشكيل paradigm/النسق الذي كان لابد وأن يجد له مبررا في اشتباكه مع الواقع خاصة العربيّ. والشِق الأكبر والأبرز لحركة اليسار العربي تمخضت عن التيار القومي العربي في الشرق الأوسط، وقد امتاز بالسلطة والهيمنة على كافة الحركات القومية والتحررية المناهضة للاستعمار الذي مكنهم من ذلك وتسخير أفكارهم لخدمة راياتهم السياسية احتلال الإمبريالات العالمية لبعض هذه الدول التي تزعم فيها اليسار العربي. إلا أنه في أعقاب هزيمة حرب 1967، أصيبت الجماهير العربية بالانكسار واليأس من النتائج التي لم تكن على الهوى ولم تكن متسقة مع خطابات وأكاديميات منظري الاشتراكية/اليسار إبان هذا العهد الزمني بهزيمة ساحقة من إسرائيل، وقد رأى جمهور العرب بأم عينه هزيمة ثلاثة جيوش من أقوى جيوشه، واحتلال سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان.
وهُنا برزت “الماركسية” كبديل عن “التيار القومي العربي البعثي الاشتراكي”، ورأى الماركسيون القومية ليست على مقاساتهم ولا هي مناسبة للواقع المعاش الذي شهد الانكسارات؛ خاصة أنه بعد ذلك تفرعت هذي الماركسية وصبغت بنكهات بعثية واعتُبِر هؤلاء -الأخيرين- من المارقين عنها، وهناك من حاول المزج بين القومية والشعبوية، وهؤلاء انشقوا عن أحزابهم وبدا أعلامهم متشرذمين قبل أن تنضج حركتهم إقليميا على الأقل. وقد برزت شعارات كثيرة ضد الرأسمالية بعد ان اتخذ اليسار العربي من الاحتجاجات العمالية نواة للحشد وتأسيس القوة والتمترس التنظيمي على أرض الواقع، وكانت مطالب المساواة في المعيشة وتحسين الأجور هي إحدى أهم القضايا التي التف حولها اليسار، ولا يزال يفعل، إلا أنه من الناحية السياسية هي حركات لا أنياب لها ولا قوة كانت تبشر بمطامح للحكم؛ إذ كانت أفكار التيار القومي المناهض للإمبريالية لازالت سائدة، ومن هنا قد عادت النكهة الراديكالية لتصبح الصوت الأوحد الذي أقنع العمال والطبقة العاملة بأن الوقت لم يحن للانعتاق من الصراع الطبقي إلا بضمانة التحرر من المستعمر، وقد أعيدت العلاقة إلى ماضيها التي تربط الجماهير بحكامها القوميين وشكلت نغمة تحرير الوطن والصراع مع المحتل الأساس والمضمون لنضال اليسار.
وسبب آخر في بداية الفشل/التأسيس للنظرية الماركسية العربية الحالمة، وهو أحد أهم أسباب أزمات اليسار الراهنة، التبعية الفكرية العمياء لمعسكر السوفييت، وهنا نجد أن التيار اليساري الماركسي لدى العرب لم يتشكل كنتاج لحتميات تاريخية أو كإحدى إرهاصات السيرورة الزمنية أو كنتاج لاشتباك اجتماعيّ وقد تطورت عنه تحولات ثقافية تفرض نفسها على أن يتكتل الماركسيون حينها وتتاح لمعاصريهم وأخلافهم كذلك الخبرات والتراكمات الفكرية والنضالية، إلا أن كل هذا كان ضربًا من الخيال، فقد كانت الثورة الرومانسية الحالمة والنضالات الطبقية التي تحولت لنضالات وطنية ضرورية ما هي إلا لترويج تجارب الأحزاب الشيوعية العالمية، وعمل بروباجندا لأبطال الماركسية في الصين وروسيا وفيتنام وكمبوديا وبوليفيا. وإذا قمنا بإغفال التطورات السلحفاتية السياسية والتنظيمية لليسار في الأعوام الثلاثين السابقة للقرن الواحد وعشرين -حيث لا يسع المجال لذكرها أو المرور عليها- نلاحظ امتداد نغمات وقسمات الاشتراكية إلى يومنا والتي تتمظهر حول المسميات المعهودة: البعث الاشتراكي والاتحاد الاشتراكي والاشتراكيين الوحدويين والاشتراكيين القوميين والاشتراكيين العرب ..إلخ.
في حين أن من ورثوا عنهم مفاهيم الاشتراكية -التي كانت نتاجًا لصراعات وأزمات مجتمعية- قد اتجهوا إلى المدخل السوسيولوجي/الاجتماعي ومن هنا كانت اشتراكيتهم ثورية وضربت أساسات عدة في المجتمع وكانت لها قيمتها ونتائجها على المستوى السياسي والنضالي والتنظيمي والعلمي -فرنسا وإسبانيا على سبيل المثال- في حين أن العرب قد تمسكوا بالمنحنى الاشتراكي الذي لا يملكون رفاهية الانعتاق منه إذ إنه لا إسهام منهم في تأسيسه أو التلون به بما يناسب ظروف ونتاجات صراعاتهم. إن الأزمة الرئيسية الأخرى لتيار اليسار العربي إلى وقتنا هذا عدم الالتفات لما انتقده الغرب وأوروبا لما اكتنف الحركة الماركسية العالمية من جمود وتقولب إلى أن أصبحت كالدوجما التي ترفض غيرها من التيارات وتتهم ما دونها من الفلسفات التي تأتي تقول ما لا يأتي به ماركس أو أكاديميو اليسار، فتحولت إلى يسارية لاهوتية تنكر ما سبقها وتقوم بتعجيز من سيأتي مستقبلًا ويزعم أنه سيحل مكانها. وأصبحت النظرية الثورية الحالمة عماد العقيدة اليسارية، والصراع الطبقي هو ناموس الكون، وماركس هو الإله الأوحد، وأية تفسيرات ليبرالية أو وجودية أو برجماتية لا يقع في إصحاحات اليسار.
وهنا لا نجد أية مشاريع فكرية حقيقية للتنمية ولقضايا الأوطان العربية من قبل جماعات وأحزاب اليسار. ولا نجد إلا خطابات ديماجوجية تهدف إلى الوصول لكرسي الحكم أكثر من قدرتها على إحداث التغيير أو تقديم روشتات لما يعتري الواقع من تراجعات وانكسارات؛ إذ ليست هي المعركة الرئيسية. ولا أحد ينكر أن لليسار العالمي والعربي أيضا ومضات في تاريخ النضال من أجل معركة العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية في مجتمعات عدة قد ضمنت بحكومات شمولية، إلا أنه نجد أن تلك الومضات وهذه الأدوار منسية حينما يتبادر إلى الذهن موقف اليسار عموما طيلة تاريخه من قضايا “الحرية”؟! وما هي مواصفات “الديمقراطية” التي يتخذونها أحد سبل النضال؟! هل هي الديمقراطية التمثيلية التي تجمع كافة الطوائف السياسية من المعتدلين واليمين الليبرالي وإسلام الوسط والقوميين والاشتراكيين؟! أم هي ديمقراطية موجهة منغلقة على نفسها من الأطياف القومية والاشتراكية؟ حيث نجد أن الشمولية التحكمية Authoritarianism تعد أحد أهم المآخذ على تيارات اليسار العربية عند إجاباتنا على هذه التساؤلات، فيرى كثير من اليساريين العرب في انتقاداتهم لليبراليين والليبرالية أن حريتهم التي تمتزج بالتعددية الديمقراطية، ما هي إلا ذريعة لنيل الحكم، على أنهم لا يتصوروا أن هناك ديمقراطية عامة تمثيلية خارج إطار تحكم الدولة والرئيس الثائر ملهم الشعب وهيمنة المكون الواحد الحزبي، وسيطرة الفكرة الواحدة “الانعتاق من سيطرة المستعمر – الانعتاق من إذلال العمال – الانعتاق من الفوارق الطبقية”.
وهنا نطرح السؤال للجمهور -وقد أجابه التاريخ والباحثون- عن الفرق بين النظم الثيوقراطية الحاكمة وبين حكم الاشتراكيين العرب واليسار؟! حتى أننا نجد ثمة تناقضا في أجندات ومقررات اليسار المؤمن بمبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية، فتجدهم أشد المدافعين عن أنظمة استمدت شرعيتها من القتل والدماء والحكم السلطوي الفاسد “بشار الأسد في سوريا – جوزيف ستالين في روسيا ..إلخ”. ويروق لي دوما استعمال تعبيرات المنظر الفرنسي الناقد لليسار بفلسفتيه الشيوعية والاشتراكيةـ حينما يقول إن الفكرة الشيوعية عموما هي يوتوبيا تقع في محل الاتهام الدائم، إذ إنها تصر على نجاحها بصلف وقدرتها على إحداث التغييرات إلا أنه كان أولى بها أن تترك مكانها لثقافة “حقوق الإنسان” التي تجمع بين عبادة الحرية “بما تحتويه من حريات المبادرة والتملك والاغتناء كضمانة مادية للأنواع الأخرى من الحريات”، ومن جهة ثانية من تمثلها كضحية لثنائتي الخير والشر. وتعجبني أيضا عبارته التي توصف تلك الحالة حينما يقول: “إن أجهزة الدعاية هذه لا محل لها من الإعراب اليوم التي تعيد إنتاج العديد من الألاعيب البلاغية في الحرب مثلا ضد الإرهاب”، لذا فأي محاولات أو تنظيرات تأتي لاستدعاء تاريخ وأوراق ومقاربات اليسار لتفسير قضايا وطنية ومجتمعية وتكنولوجية ملحة وراهنة، هي محاولة لاستنساخ إنسان من آخر متوفى إكلينيكيًا.