مثل العديد من أزمات السياسة في المنطقة العربية يعيش اليسار أزمة مختلفة أولا بصفته عنصرًا من الكل المتأزم، وثانيا بصفته باحثًا عن هوية مفقودة ومختلطة، فاليسار منذ نشأته وهو يرفع شعارات المساواة، خصوصا الاجتماعية والاقتصادية، لكن حين يبحث عن نموذج تطبيقي لتلك المساواة لا يجد أمامه سوى نموذجين: الأول شيوعي اشتراكي، وتجارب معظمها فاشلة في الصين وروسيا. والثاني إسلامي، وتجاربه كلها فاشلة في دول تطبيق الشريعة التي زعمت ملكيتها لنموذج مختلط فيه الروح الإشتراكية وأهداف المساواة، ونتيجة ذلك أن عاش اليسار في شعارات وأوهام أكثر من حقائق مجربة، إنما للإنصاف هذا لا ينطبق على الكل، فالإطلاق مذموم، وبظني أن النزعة اليسارية في التغيير من أجل حقوق الضعفاء والمساواة لا زالت تهيمن على كثير من التجريبيين والواقعيين وملاك البرامج السياسية الطموحة والمتفاعلة مع الشارع بصدق.
وضربت مثالًا لذلك في أن حكومة “دينج شياو بينج” اليسارية في الصين برغم أنها انفتحت على السوق الحرة وانقلبت بشكل شبه تام على سياسات ماو الشيوعية لكنها في الوقت ذاته امتلكت الحس الواقعي والتجريبي في المساواة فكانت النتيجة الآن تخفيض نسبة الفقر في الصين لنسبة 3% من عدد السكان بعد أن كانت في العام 1978 في بداية حكم شياو بينج 97% إضافة للنهضة الزراعية والصناعية والاقتصادية المبهرة التي تعيشها الصين حاليا حتى صعدت للاقتصاد رقم 1 على العالم في معدل الإنتاج بمجموع قيمي 29 تريليون دولار. إذن فأزمة اليسار ليست بنيوية في الفكر اليساري نفسه ولكن في تفاعل اليساريين وأدواتهم وأساليبهم في الفهم، وهو أمر قد يدفع اليساري للتحالف مع الإسلامي والإخواني إذا كان متأثرا بالفقه الديني وثقافة التنظيمات الإسلامية، أو يدفعه للتحالف مع النيوليبرالي إذا كان متأثرا بصخب تجارب ماضيه وفشلها على وعيه الباطن، مما يدل على أن أزمة اليساري قد تكون في محورها كتلة فراغ هائلة في النفس وجدت في ظل فراغ عقلي وعلمي حقيقي بعد حضور الشعارات والخطب كبديل يهيمن على الحس الواقعي الذي ميّز اليسار دائما كفلسفة حياة.
نعم فاليسار متميز بالحس الواقعي وحدسهم في استشراف المستقبل، ذلك لأنهم على موقف نقيض متشدد في عدة أمور كعلاقة الدين والدولة، والفوارق بين الطبقات، وأمور كالبيئة والحيوان، حتى أن شخصية اليساري أصبحت محفوظة بحيث لو ترى الشخص مهتما بحقوق الكائنات الحية من حولنا فهو عن رؤية فلسفية مضمرة نتجت عن تراكم عقلي وجدلي سابق في تقديس مبدأ المساواة، والذي يخفي في مضمونه مبادئ أخرى كالرحمة والإيثار والتضحية وغيرها، لذا فالملاحظ في تاريخ الثورات أن أغلب مشعليها يساريين تميزوا بتلك التضحية وثقافة الإيثار، حتى أنني أزعم بأن مبادئ حق الإنسان والحيوان ظهرت عن مبادئ وقيم يسارية، لكن ما أحدث هذا اللبس بين اليسار وحق الإنسان هي تطبيقات شعاراتية أيدلوجية فقيرة طوال القرن 20 نزعت من المواطن حقه في التعبير، وترسخ الاستبداد أكثر حتى بات علامة على نُظُم اليسار العالمي.
حتى من يسمون باليسار الإسلامي وقعوا في المعضلة نفسها، فهم من ناحية المساواة وحق الإنسان الاجتماعي عملوا بقاعدتين قرآنيتين، الأولى: “أن يحضّوا على طعام المسكين والفقير والتعظيم من سبل الإنفاق على المحتاجين” والثانية: “عدم الإسراف والتبذير في سبل الإنفاق العام” وهو اتجاه أساسه قاعدة اليسار الرئيسة في المساواة والإيثار مختلفة نوعا ما عن قيم السوق الحرة التي من ناحية لا تؤمن بحدود الإنفاق وتعطي الحرية كاملة في ذلك، ومن ناحية أخرى لا تعترف بالقدرات والإمكانيات النسبية للبشر في طرق عيشهم أو قدرتهم على كسب المال وفتحت الباب واسعا أمام غير الأسوياء أخلاقيا ونفسيا للتربح والتزلف أكثر لذوي النفوذ في تخليص مسائلهم، وهي أمور منتشرة في المجتمع النيوليبرالي الذي لا يهتم بطرق الكسب ما دامت متفقة مع القانون، علما بأن القانون لم يعالج طرق الكسب الأخلاقية جميعها، وزعمي أنه عالج نسبة بسيطة منها وتظل الأغلبية في طرق الكسب لأمور فوق القانون هي طرق الرأسماليين غالبا في التربح وزيادة الفارق بينهم وبين الطبقات الدنيا.
هنا الحق اليساري المبتدع في نفس الإسلامي تأثر بهذا التربح خصوصا طوال الحرب الباردة فامتزج لديه الرفض ما بين الاقتصاد والسياسة والمجتمع والدين لاسيما أنه ربط آليا بين الاستعمار الأجنبي وهذا التربح فانتقل آليا هذا الربط على كل خصومه الفكريين من العلمانيين بالذات الذين رآهم عملاء لهؤلاء المتربحين، فالإسلام الذي نادى بالمساواة هو نفسه الاشتراكية التي نادت بالمساواة في عقل اليساري الإسلامي، هو الرأسمالية الذي يدعم حق الملكية وعدم تغول الحكومة في ثروات الأفراد، بمعنى أن الدين في عقل اليساري الإسلامي يعالج في جزئية الاقتصاد حق المساواة الاجتماعي وتجريد أعضاء الحكومة من نفوذ التجارة والمال، ولا زال هذا النموذج المطبق في إيران بحيث تجد عناصر الحكومة محرومين من التجارة طوال فترة بقائهم بالحكم حتى لا يتركوا فرصة لخصومهم أن يتهموهم بالفساد والتربح.
إنما اليساري الإسلامي فشأنه كاليسار العلماني لا زالت لديه مشكلة السياسة والشعار، فالمساواة بالأصل هدف أخلاقي ومعيار عقلي إنساني يحكم الجميع حتى الرأسمالي أو تيار اليمين بالمجمل، لكن اليمين يرى أن طرق المساواة لا تأتي بالضرورة بقرارات مباشرة أو برامج وخطط مباشرة ولكن المساواة تأتي من حرية المجتمع في التصرف في أملاكه وتوظيف إبداعه الشخصي، لذا ارتبطت الرأسمالية غالبا بالتيار الليبرالي المنادي بالحريات، ولن نناقش موضوع النتائج وهل نجح العالم الرأسمالي في المساواة حقا أم وقع في ما وقع فيه اليسار العالمي من الغرق في الشعارات والأمنيات.
وخلاصة تلك الجزئية السابقة أن اليسار العالمي بمن فيهم يسار الإسلاميين لا زالت لديه أزمة في السياسة وهي كيفية التوفيق بين مبادئه في المساواة وبين رغبات وتحديات المجتمع الذي يديره، ففي نهاية الأمر الحكام هم بشر يصيبون ويخطئون وحتما لو نجح الحكام في صناعة مجتمع عادل بنسبة كبيرة فأمامه تحديات أخرى أكثر أهمية وهي دوام وبقاء ذلك المجتمع وترسيخ مبادئه مع الزمن، وهذه جزئية تخضع للخبرات والقدرات النسبية التي لا يمكن فيها البقاء على الحال نفسها طبقا لقاعدة الصيرورة، وكذلك تواجهه سقطات وقصور الحاكم نفسه من رغبات ممنوعة وشهوات مكبوتة وقصور عقلي وأخطاء يقع فيها أي مسؤول، مما يعني أن نجاح اليسار في التغيير ثم الحكم يلزمه أولا الاعتراف بأن مبدأ المساواة عزيز لكنه ممكن طالما توفرت فيه الشروط مؤقتا، وهذا سيقلل من حجم الشعار واليوتوبيا مما يخفض بالتبعية مسائل كالأمنيات والوعود التي يكثر اليسار من استعمالها في أمور الحشد وتنويم العامة مغناطيسيا.
كذلك فاليساري لا ينتبه لخصوص علاقته الفردية بمسؤوليته الجماعية، فالشخص من هؤلاء تجده يكثر من الشعار والوعود على مستوى الجماعة، لكنه على المستوى الفردي لا يطبق شيئا من ذلك، كمن ينادي بحقوق المرأة لكنه يظلم زوجته ويطردها مع أبنائه، هذا تفسخ اجتماعي بالأصل يهدم صورة المجتمع الماركسي المتماسك وهي جزئية أزعم أن فلاسفة الماركسية أولوا لها جهدا كبيرا ليس فقط من حيث التنظير الفلسفي ولكن من حيث التقويم الأدبي في تقديم ثورة نموذجية لمجتمع فاضل، والدليل على ذلك أن نسبة كبيرة ربما تكون أغلبية الأدباء المميزين هم من اليسار الذين يملكون رؤية اجتماعية وأخلاقية فريدة في المساواة ولديهم القدرة على بلورة نظرياتهم وشعاراتهم في تمثيل واقعي يشرح ما يدور بخلدهم، وهذا سر من أسرار قدرة اليسار على تبسيط المفاهيم العلمية وقربهم من الشارع دائما حتى باتوا حلقة رئيسية في أي تغيير مجتمعي وسياسي في الغالب.
نقطة أخرى في اليسار الإسلامي الذي يعاني كبقية زملائه في الاتجاه لكنه يعاني أكثر منهم في طبيعة رؤيته لمصدر دخل الدولة، فالإسلامي الذي يرى أن موارد الدولة المشروعة تكون في الخراج والجزية والعشور والغنائم والسبايا لا يمكنه الزعم أنه بذلك يكون قد حقق المساواة، بل هو يقرر ضمنيا لامساواة منها طبقية أخرى بشكل ديني تعطي فيها الأفضلية المالية والاجتماعية والسياسية للمسلم، وطبقية جنسية تعطى فيها الأفضلية الكاملة للذكر على حساب الأنثى لسبق قناعته باستهلاك أجساد السبايا في الجنس كملك يمين، هذا غير الطبقية السياسة التي تنشأ آليا بقدرات ورغبات الحاكم النسبية الذي سيحيل فشله غالبا إلى أعدائه وخصومه خشية انتقام الجماهير مما يورط الدولة في صراع سياسي يؤدي حتما للدكتاتورية في الرأي.
ولهذا التناقض الصريح في مبادئ يسار الإسلاميين ظهر منهم مفكرون ينظرون لهذا التناقض الذي وصل لحد تصادمي لا يمكنهم فيه السكوت، فكل ما سبق من تناقض وازدواجية لم تتوقف عند نفس الإسلامي فقط ولكن انتقلت خارجه لتظهر صورة الإسلاميين بالمجمل كمجانين فاقدين للعقل والخبرة، وهي صورة بدت كأنها تُلحّ في نفس اليسار للتخلص منها وإثبات أنها مزيفة، وهذا تفسير كيف أن أكثر زعماء الإسلاميين الذين انتقدوا الحركة الإسلامية من الداخل أنهم من اليسار، وأن من يسمون أنفسهم يسار الإسلاميين، كثفوا من لقاءاتهم مع خصوم التنظيمات الدينية طوال الحرب الباردة وما بعدها لهدفين، الأول: أن يثبتوا أنفسهم كوكلاء حصريين يمثلون الشريعة، والثاني: أن يقدموا أنفسهم كحلقة وصل بين اليمين الديني وكافة تيارات العلمانيين الأخرى بهدف التقريب، وهذا يفسر من ناحية أخرى كيف أن يسار الإسلاميين تحديدا هو الذي نحا طريقا آخر مختلفا ناحية المذاهب والأديان بشعارات التقريب الديني.
كذلك تبقى مشكلة اليسار الأزلية أنهم مهما نشطوا في عدم تحميل الأثرياء مسؤولية الظلم لكن في نفس ووعي اليساري لا زالوا يكرهون الأثرياء وينظرون لهم بتعميم مبالغ فيه أحيانا على أنهم أشرار، وفي ذلك إهدار صريح لقواعد العلم والخبرة والمهارة والإبداع الذين يشكلون نسبة كبيرة في طرق الحصول على الثروة، علاوة على حق الملكية الموروثة التي قد توهب لعناصر أقل من حيث الإبداع والقدرة فيجري تجريد هؤلاء من ثرواتهم على أساس صوري يرون فيه هذا الكائن يهدر الأموال، ومسألة هدر الأموال هذه تشغل بال اليساري لكونها إهدار ثروات بشرية كونية لا مجرد أملاك خاصة، وبرأيي أن هذا التحكم النفسي من اليساري على أموال غيره هو مصدر قاعدة “الاحتكار” الذي يهيمن على الفقه الاقتصادي لليسار بشكل عام.
يبدو أننا أمام معضلة نفسية أكثر مما هي فكرية، فالتاريخ لا يؤثر فقط في الأفكار ولكن في الوعي والضمير والصورة المُتخيّلَة عن الآخر ودوافع ذلك الكامنة التي تتحكم في صورة الآخرين بالمجمل، مما يعني أن الإنسان بعمومه لا ينظر للآخر بشخصه وموضوعه ولكن لمجرد المخالفة، لذلك كان تقبل الآخر من أحد مشكلات الإنسان الكبرى التي تتعاظَم كلما أوجد الإنسان دوافعها كالشعارات والرغبات والأيدلوجيات، وبما أن اليساري مهتم أكثر بالمساواة المحتملة وعزيزة التحقق فسيظل يراها كشعار لأغراض الحشد والأيدلوجيا ..بالضبط كما انتبه خصوم اليسار لتلك الإشكالية وقالوا إن المساواة في الاقتصاد ليست مشكلة في حد ذاتها بل هي طبيعة طبقية مصدرها الإنسان نفسه وأن القانون هو الكفيل بوقف خروجها عن المعتاد أو حدها الطبيعي.
أختم بذكريات حدثت في التسعينات عن موقف اليسار المصري من الانتخابات، فحزب التجمع رفض مشاركة رجال الأعمال في انتخابات البرلمان طبقا لما قلته بأن مبدأ اليسار يرفض أن يعمل عناصر الحكومة والتشريع بالتجارة خشية من استخدام نفوذهم ضد مصالح الأغلبية، لكن الحزب الناصري لم يعارض ترشحهم باعتبار أن رجال أعمال مصر هم رأس المال الوطني اللازم للتنمية، وهي مفارقة بين اليمين واليسار دخلت حتى في اليسار نفسه مما يعني أن مسمياتنا حول أجنحة الحكم المختلفة قد تكون وهمية أحيانا لاسيما أن هؤلاء المختلفين يمثلون وجهات نظر متباينة من الآخر لنسبية أفكارهم ولأن مصالحهم أيضا ليست واحدة فلربما الذي حمل التجمع على الرفض والناصريين على القبول هي مصالح شخصية ونحن نحسبها قناعات فكرية وفلسفية.. وإلى ذلك تدور بعض خلافاتنا حول المفاهيم بينما الأصل هو في دوافع ومصدر تلك المفاهيم الغامضة التي كانت وستظل هي المعضلة الكبرى في فهم الواقع كما هو وليس كما نريد أو ورثناه عن الأجداد.