أدب المهجر/مدرسة المهجر “الأدب المهجريّ” هو الأدب الذي أنتجه الأدباء العرب الذين قاموا بالهجرة من مواطنهم إلى الأمريكتين، إذ أجبرتهم الظروف القاسية على الهجرة، وهؤلاء الأدباء هم من أطلق عليهم أدباء المهجر.
و قد انتشر أدب المهجر في الأمريكتين، وكذا في الأدب العربي، وصار اتجاهًا قائمًا بذاته، ومدرسة خاصة تُدعى بمدرسة المهجر في الأدب العربي، وقد تشكل من هذه المدرسة عِدة روابط أدبية، كان أشهرها وأكثرها استمرار، الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية، حيث كان أعلام كل اتجاه وشعراؤه هم الأشهر وسط المهجريين، حيث عرِف من أعضاء الرابطة القلمية جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبوماضي، ورشيد أيوب ونسيب عريضة. وقد عمدت الرابطة القلمية إلى سبر أغوار الحياة وتأملها خلال تأمل النفس البشرية ومراقبتها على عواهنها، ومن هنا كانت العناصر الإنسانية جلية في سمات أعمالهم وإنتاجاتهم، وهي المزية التي قد أسبغت على أدبهم وغرست في نفوسهم نتيجة معاناتهم في الغربة والتعلق بأوطانهم.
يقول إيليا أبوماضي:
أنا لا أذكرُ شيئاً عن حياتي الماضِيَةْ
أنا لا أعِرفُ شيئاً عن حياتي الآتيَةْ
لي ذاتٌ غيرَ أني لسْتُ أدرى ماهِيَهْ
فمتى تعرفُ ذاتِى كُنْه ذاتِى؟… لستُ أدرِي!!
وكانت هذه الجماعة تميل إلى التجديد، والثورة على الشعر التقليدي، فكان شعراؤها حملة مشعل التجديد في شعر المهاجر. وتأسست الرابطة القلمية في أمريكا الشمالية (نيويورك) في عام 1920.
أما العصبة الأندلسية فقد قدمت أبرز شعراء العرب أمثال، ميشيل معروف وهو أهم مؤسسيها، بالإضافة إلى شكرالله الجر، رشيد الخوري، نظير زيتون، جورج معلوف وإلياس فرحات. وقد تأثر أصحاب هذه المدرسة بفنون وأساليب الأندلس خاصة أدب المقامة، وكانت أهدافهم تتعلق بالحفاظ على اللغة العربية، والدفاع عن التراث الشعري، وقد برزت النزعة الصوفية الزهدية في أعمالهم. تأسست عام 1933 في أمريكا الجنوبية (البرازيل)، وتناثر أعضاؤها في دول أخرى مثل الأرجنتين والمكسيك وفنزويلا. وهناك روابط أخرى مثل، رابطة منيرفا والتي أسسها الشاعر المصري المهجري د. أحمد زكي أبوشادي عام 1948 في نيويورك، وكان رئيسها، وانتهت بوفاته، وليس لها أثر كبير في الشعر المهجري. وكذلك الرابطة الأدبية التي أنشئت في الأرجنتين عام 1949 على يد الشاعر جورج صيدح، واختفت بعد عامين إثر عودة صيدح إلى الوطن.
ومن هنا نرى أن أدب المهجر قام عليه الشعراء والأدباء المهاجرين -من منتصف القرن التاسع عشر واستمرت هجرتهم خلال النصف الأول من القرن العشرين- من بلاد الشام إلى أمريكا الشمالية والجنوبية، وانتجوا أدبًا يجمع بين ملامح الشرق، وسمات الغرب.
وأهم ما يميز مدارس المهجر، وأدب المهجر عموما هي عدة سمات على المستويين الموضوعي والفني:
فعلى المستوى الموضوعي، نجد المهاجرين مشتاقين إلى أوطانهم.. تواقون للزيارة ولاستعادة أمجاد الطفولة والماضي، يرغبون في حمل الشعلة التي يتصدون بها مسيرات الدفاع عن قضايا الوطن؛ فرغم المسافة إلا أن تجاربهم وجدانية وشاهدة على قصائد قد فاضت بمشاعر جياشة تتغنى بجمال بلد المنشأ “الوطن الأم” مع إحساسات مختلطة بمرارة الغربة وعلقم المنفى والابتعاد، والمزية هذه كانت سمة قوية ومشتركة بين كافة مدارس المهجر.
وأبرز ما ينجلي حين نقوم بتفكيك أيٍ من أعمال المهاجر، هو الحضور القوي والطاغي للـ”طبيعة” والامتزاج بها، وبث روح الحياة في مظاهرها، فكانت تقلبات ومناظر الطبيعة هي الصور المعبرة بحق عما يجول بخواطرهم ويعلتج في نفوسهم وعقولهم من مشاعر الخوف والحب والراحة والقلق والسعادة، ومثال ذلك ما تغنى به جبران خليل جبران في قصيدته المواكب بحياة الغابة وما فيها من صفاء وراحة.
والمهاجرون ليسوا صداميين، أو من نوع الأدباء والشعراء ممن يرفعون أصابعهم تجاه الشخوص/القضايا. فهم أبعد الشعراء عن أسلوب الخطابة أو توجيه الكلمة والعبارة بشكل مباشر، بل كان جل عملهم هو الإشارة بهمس والتعبير برقة عن المعنى، على أن وظائف اللغة تضطلع ذاتها بنقل المعنى الذي لا يحتاج إلى تعقيد أو تحميله أكثر مما يحتمل، الذي جعل معانيهم وعباراتهم تتسلل إلى نفوس البشر والقراء كما يتسرب الماء إلى جذوع الشجر.
وكما أسلفنا سابقا -خاصة عند الرابطة القلمية- فإن حضور النفس البشرية وتشريح النوازع الإنسانية كان مكافئًا ديستوفيسكيًّا في أدب العرب لدى المهاجر؛ فقاموا بتصوير شخصية الفرد بدقة وتحليلها بشكل يفضي إلى أسباب الحالة التي تصل إليها النفس من شجن وشعور بمرارة الغربة والحنين إلى الوطن، مع الكشف عن أسرارها ورغبتها كثيرا في الوصول إلى المثل العليا الخالدة، وظهرت النزعة الإنسانية الشاملة في إنتاجاتهم الأدبية؛ حيث يلاحظ قارئُ أدبِ المهجر الحب المطلق لكل إنسان على وجه الأرض، مع انتقاد الظلم الذي يجعل الناس ترزح تحت ظل القيد؛ راغبةً في التحرر والاستقلال، على أن هذه القيود هي التي تقف حائلاً – في رأيهم- أمام مساعي بناء وخلق مجتمع إنساني يسوده العدل والمودة والرحمة.
أما على المستوى الفني والشكلي، فالمهجريون غير متكلفين.. متمردون بطبيعتهم على الغربة، إلى أن تمتد موجات هذه التمرد إلى اللغة ومجابهة استعمال الغريب منها أو غير الملائم للعصر، فأيسر قراءات الشعر وأقربها إلى نفوس غير المتبحرين في اللغة هي قصائد وأعمال المهجر، حيث السلاسة والبساطة ورقة اللفظ مع دقته في الوقت ذاته، وقد تميزوا بذكاء يمنعهم من الاندثار وركاكة اللفظ وسطحية المعنى في الاعتماد على الصورة البلاغية البديعة وأطر التصويرات الجمالية. فالصور الفنية في القصيدة المهجرية تعمل على تشخيص المعنى المقصود؛ فتستطيع الصورة التعبير عن موقف الشعر وعاطفته؛ فجاءت معظم قصائدهم لوحات فنية مليئة بالحياة والحركة.
وقد تميزت أعمالهم استكمالا للشكل الفني، بالدعوة إلى الوحدة الموضوعية في القصيدة وكانت هذه أبرز سمات التأثر بمدارس الغرب خاصة المدارس الأمريكية، حيث مضمون القصيدة وأفكارها ترتبط بشكل كبير ومنبسط مع الفكرة الرئيسية للعمل المُعَبَّر عنه في عنوان القصة/القصيدة. وكذلك انتقلت سمات الموشحات الأندلسية حيث بروز المطولات في شعرهم مع التمرد على الأوزان العروضية الشائعة مع الاعتماد على القصة كوسيلة للتعبير؛ فنجد شخصيات المهجريين تتحاور وتتصارع لتعبر عما يجول في مكنوناتها وسرائرها.
وإن كانت دوافع الهجرة والغربة لدى أدباء المهجر في معظمها سياسية وقد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً لاضطهاد الدولة العثمانية للمفكرين والأدباء ومن أبحروا خارج السرب ودعوا إلى حرية أوطانهم والتمسك بالهوياتية التي تميز كل أمة خارج إملاءات العثمانلي وحكم الأتراك، فما بين البحث عن لقمة العيش، وتأمين حياة اجتماعية أفضل، وما بين الهروب من التنكيل والملاحقة والتضييق الأمني، اضطر كثير من المبدعين، منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم، إلى هجرة أوطانهم، وانتشروا في العالم، خاصة بلدان الغرب الأكثر انفتاحًا وحرية، ليصنعوا حالة إبداعية فريدة في المشهد العربي، بل والعالمي، لا سيما فيما صنعه المهجريّ، لكن الملاحظ أيضاً أن مبدعين من الشبان اتجهوا أيضاً إلى الهجرة بالتزامن مع تلاشي التجربة المهجرية بوفاة أعلامها في القارتين اللتين شهدتا بزوغ شمس تجربة المهاجر، أو برجوع آخرين إلى أوطانهم مثل ميخائيل نعيمة إلى لبنان.
ولكن هل يعني توقف تجربة أدب المهجر اندثار “أدب المنفى” أو التجربة الأدبية خارج حدود الوطن أم أنه قد استمر في التطور متخذا مسميات أخرى وخصائص مختلفة معبرة بشكل أكبر عن واقع ما بعد الحداثة وأدب الأمريكيتين المُهجَّن بالثقافة العربية الشامية على الخصوص؟!
عاش الكثير من المبدعين العرب حياة صعبة، يضطرون فيها للعمل في المطاعم والمحلات التجارية ومحطات البنزين لكسب المعيشة وتوفير ضروريات الحياة، وهذا مشابه إلى حد بعيد بوضع الأدباء المهجريين في أوائل القرن العشرين. إلا أنه قد بزغت نجاحات المغتربين في كافة المجالات حيث عملوا في كل حرفة وأبدعوا في كل علم تمامًا كحال المهجريين الذين حازوا على جوائز كثيرة في مجالات الأدب والاقتصاد والعلم والحقول الأكاديمية، ومن هنا جاءت الكتابة “كفكرة” بمفهومها العام غير المؤطر بأيٍ من الاتجاهات/الموتيفات الأدبية، أكثر من كونها المعبر الرئيسي عن الذات، فتتجه الكتابة إلى قوالب الأدب بصورة مباشرة، أي المقصود إلى فنون القص وأدب السيرة الذاتية والمقالة والتسجيل التاريخي والتأريخ وأدب المذكرات، دون تظافرها مع غيرها من الأقلام والإبداعات لتتقولب داخل اتجاهات المدرسة/التيار فتتحدث حينما يتحدث الآخرون.. وتتخذ مواقف بقية أفراد المدرسة، وتضطلع بالالتفاف حول الرمز والغرض.. إلخ، وغيرها من التزامات التيار.
وهنا تأتي عناصر الذاكرة/المخيال الفردي أو الجماعي/التجربة الشخصية لتصبح هي مكانيزمات فيما بعد أدب المهجر الذي يمكن تسميته باتجاه أدب الاغتراب، سواء كان خارج حدود الوطن فيما يشبه تجربة المهجر أو داخل حدوده فيما يُعبر عنه بأسماء عدة كالأدب اللامنتمي أو أدب البحث عن الهوية. وهذه الآداب التي تجاوزت المفهومات الضيقة لأدب المهجر -الذي تبنى القضايا الوطنية بمفهومها العام والرغبة في التحرر من المستعمر وإرجاع الهوية الأصلية والأصيلة للوطن أو بمفهوماتها الذاتية المتركزة على الحنين والشجن للوطن- قد تناثرت حول مبادئ عدة، ضمنها من يشعر بضآلة حجم الوطن/الحدود رافعين شعار الشاعر الألماني شيلر “العالم هو وطني”، أو من تبنوا مفاهيم فلسفية ورأوا أنهم ضائعون داخل مفهومات المجتمع، وعبرت عن هذا المعنى الأخير المبدعة أروى صالح في كتابها “المبتسرون”، حينما قالت: “ولكننا كُنا أصغر من أن نُرى”.
وهنا كما يقول د. أشرف الصباغ الروائي والمترجم الأكاديمي: “من الصعب الآن وضع توصيفات لما كان يسمى في السابق بـ«أدب المهجر»، لأن التطور وخاصة في مرحلة ما بعد الحداثة، هدم أو أزال الكثير من المعايير القديمة التي كانت تحكم «أدب المهجر» أو الإبداع خارج الوطن، يصعب علينا تصنيف الأدب بين «أدب الداخل» و«أدب الخارج» أو «أدب المهجر»”. بالتالي تجاوز “أدب الاغتراب” قيود الجغرافيا، فهناك أدب اغتراب في الداخل كما الخارج، ولم تعُد هناك سعة لاحتمال آداب مثل “المهجر” أو “أدب المنفى”، وبقيت الحاجة لدراسات نقدية وتحليلية بشكل موسع للأدب الذي يُكتب داخل الوطن وخارجه بمعايير تشتمل على عناصر الاغتراب وصورة اللامنتمي أو غير المتأقلم.
وأخذت تتطور فكرة المهاجر أو المغترب عن وطنه نتيجة التعود على الرحلة والترحال؛ إذ أصبح الأمر روتينيًّا مع تحولات المجتمع فيما يخص التغيرات التي طرأت على قيم العمل والأسرة. وتحول المبدع الآن هو صانع القرار فيما يخص قرارات الرحلة والانتقال سواء كان من أجل العمل أو من أجل إرضاء فضول الذات المتوقة لرؤية عوالم جديدة وأناس آخرين غير مألوفين عما جُبِل على رؤيتهم من بني جلدته في مجتمعه.
وفي هذا الميدان المتجاوز للرحلة المهجرية وحنين الوطن، كتب الروائي أسامة علام في أحد المجلات قائلاً: “وعن كل المدن التى عاشت في جسدي كتبت، وكأن عمري فصول كتاب سُمّي بأسماء المدن التي سكنتها، صادقت الكثير من البشر الطيبين والأشرار، لكن أصدقائي الدائمين كانوا الثلاثة الذين لا أعرفني بدونهم، جسدي الذي أنهكته في الترحال، المقاهي التي لا أعرف المدن بدونها، وجهاز الكمبيوتر الذي أكتب عليه أسئلتي، كمرتحل يعيش رواية ضخمة، لا يتوقف عن الاندهاش ولا الحركة التي لن تنتهي إلا بموته، دخلت مئات البيوت ونمت على مئات الأسرة، وفي كل منامة حلم ومع كل حلم قصة، حتى أصبحت أسماء الشوارع تختلط في ذهني كالمدن والحكايات.”
وهنا نلاحظ أهم عناصر أدب الاغتراب خارج حدود الوطن، ألا وهو امتزاج الحكاية بالمكان الذي يمكث فيه المبدع، والتعبير ليس عن حنين للوطن أحدثته غربة المنفى، بقدر الغربة عن الحياة عموما، وعدم الراحة في المكان أيا كان، أو محاولة البحث عن الذات التي تتقلب مع الأماكن ومحاولة فك شفرات الذاكرة. وتتحول هنا الكتابة إلى وسيط/نقطة تماس بين الدوافع الخفية لدى الفرد وبين “النداء العام” أو نداء الواجب، محققا الوفاق التام مع الوجود كرغبة محرقة عند أناس يشعرون بالضبط بعدم الوفاق مع أنفسهم ومع العالم كأنهم خلاصة لإحساس أشقائهم البشر بالنقص الكامن دومًا في الكائن الإنساني، وتلك العذابات والإحساس بالغربة عن النفس والآخرين مما سجلته أروى صالح في مقدمة كتابها الرائع “المبتسرون” والذي أعده مرجعًا هامًّا في فن القص والحكاية عن الاغتراب.
ويعود تطور أدب الاغتراب وظهور ملامحه بشكل واضح إلى ما طرحته الفلسفة الوجودية، بخاصة كتابات “سارتر”؛ أسئلة كثيرة تتصل بوجود الإنسان الحسي والمعنوي في الحياة، فالإنسان المعاصر إذا انتهى من مشاغله اليومية، يستبد به القلق والرغبة في أن يجد آلاف الإجابات لعشرات الألوف من الأسئلة بأسئلة عند بدايته ونهايته، فكل شيء حوله هو العدم، ووجوده ذاته سيفضي به إلى الموت في النهاية، كما أن استبدال أسئلة الميتافيزيقا، بالانكباب على النفس البشرية وتحليلها لن يؤدي في النهاية إلا إلى مزيد من التخبط، لأن النفس البشرية لن تجيب عن أسئلة الماهية كإجابتها عن الأشياء المادية وما يقع في أطوار الرؤية واليقين.
ولما كان العقل الفلسفي، وتنظيرات الفلسفة قد عجزوا عن تقديم الشروحات المرضية والتفسيرات الواضحة لوجود الإنسان، وكذلك دخول الإنسان عصر التكنولوجيا وزيادة حصار الإنسان بالعديد من الماديات التي لم تستطع أن تقدم له السعادة أو على الأقل لم تستطع ملء فراغات وفضاءات الأسئلة التي تنتجها الذات يوميا حول ماهية الوجود، فازداد الملل والضجر والسأم من العيش، خاصة لمن عرفوا شهوة القراءة والكتابة والاتكاء على الإنتاجات الفكرية والأدبية كمحاولة للتغلب على هذا الاغتراب الذي يعتور النفس.
فأصبح أدب الاغتراب العربي في سبعينيات وثمانينات وتسعينيات القرن العشرين، هو المكافئ لما أنتجه الغرب في حقول “الوجودية” و”العبث/اللامعقول” وأدب السيريالية في خمسينيات وستينيات القرن، وخاصة حينما سقط الساسة وتعرت السياسة والتردي الفكري والاجتماعي العربي وتسليع الإنسان وزيادة تهميشه باسم المجموع بعد بزوغ نجم القيم الحرياتية/الليبرالية التي أرقت الإنسان وقامت بإلقائه في المحيط على أساس أنه حر ولابد أن يقتنص حريته ويحارب الآخرين الذي عمق مشاعر الاغتراب وجعل الإنسان في صراع إما مع نفسه وإما مع الآخرين.
فالمبدع العربي خَلف المهاجر “المغترب حديثا” شهد هزيمة جيله والقيم التي حارب السابقين من أجلها، وتعمقت الفجوة بين سعي المبدع أو المواطن العربي من أجل البحث عن الانتماء وبين ظلال الهوية التي تغزو مخيلته، فاغترب عن العالم، وعن الكون، وعلاقته أصبحت متأزمة مع المجتمع، وذلك كله وسط تخبط المجموع وأبناء الوطن، الذي جعل حل الأزمة في محاولة الاغتراب والعيش في عالم موازٍ تحاول ملء فراغاته آفاق الإنتاج الأدبي والفكري والإبداع.
فالأديب والمبدع المغترب حينما تمسك بتلابيب الكتابة ظنّ أنه سيؤدي رسالة المفكر التي لخصها توفيق الحكيم في كتابه الرائد “يقظة الفكر” وعلّق بأنه -أي المبدع- يحمل الناس على التفكير معه، يفكرون بأنفسهم لأنفسهم، أي لا يحملهم هو على التفكير وعلى تبني الأفكار والآراء. في حين أن المبدع ضائع بين القيم والفلسفات والتيارات التي لا تجيب عن الأسئلة، فصار المفكر في حاجة إلى مفكر أعلى على غرار إنسان السوبرمان الذي يرتقي درجة الإنسان العاديّ وفق الرؤية النيتشاوية، ورأى الأديب أن عمله وإنتاجه تحول من مجرد رؤيتة لحل مشكلات الناس والمجتمع إلى توليفة من الشكاوى وأداة لفضح المجتمع الذي يمقته وقد تاه داخله لا فرق بينه وبين الدهماء والعامة اللهم إلا درجة الوعي بتفاقم والوضع ومشكلة الضياع والاغتراب والانفصام والانفصال عن الكل والمجموع.
يذكرني الوضع هذا الخاص بالمبدع المغترب، بإحدى قصص القاص الروسي العظيم أنطون تشيخوف في قصته الطويلة “قصة ملل”؛ فدكتور الجامعة نيكالاي ستيبانفيتش -الذي كان يعيش مع أسرته- كانت جُل نقاشاته فقط مع كاتيا تلميذته التي كانت تعيش معه والأسرة أيضًا، د. نيكالاي أستاذ جامعي، يشارك دوما تلميذته التساؤلات حول قضايا الوجود والإبداع والفن ولا يرى إلا غموضًا في الأهداف العامة للحياة، ومللًا للآخرين حوله، ومعضلة في التعرف على علاقته بالآخر/المجتمع، ففكر في شطب حياته السابقة حينما رأى ما رآه شاعر ويلز ديلان توماس حينما قال: “أحدهم يصيبني بالملل، إنه أنا”، وكذا حينما رأى تجلي التصوري السارتريّ للآخر “الجحيم هم الآخرون”، وفي النهاية عاش نيكالاي ستيبانفيتش مهزوما وسيموت مهزومًا رغم ما وصل إليه من مجد وشهرة حسب ما عبر.
وقصة ملل يصعب قراءتها بمنأى عن واقع المغترب العربي المعاصر المهزوم منذ سبعينيات القرن الماضي، فهو يحصد آلاف الإعجابات اليومية ويفوز بالجوائز والنياشين والتقديرات وتوزع أعماله بالآلاف إلا أنه مهزوم في داخله يقتسم اغتراب الآخرين ولمن يكتب لهم ولمن لم يقرؤوا أعماله كذلك.
وهناك عوامل أخرى (غير الذاتية) التي تعزز من إنتاجات أدب الاغتراب، ألا وهي قضايا حرية الفكر والرأي والتعبير وبروز صورة المجتمع المُكَفِر، والأصوات العالية المدعومة بشكل مؤسسيّ والتي تعمل على الحفاظ على الركود الفكريّ واحتكار الآراء والأفكار التي يمكن طرحها على المجموع والعامة، وهنا يرى المبدع أفكاره ليست على مقاسات الجميع، ويمكن لأفكاره ومؤلفاته وأن تحرمه مساحات الرضا ونطاقات الوفاق فيختارون أمن التوافق على علقم قضبان السجون ونقم رجل الشارع ووخز ألسنة الصحافة وسهامات النقد من الانتلجنتسيا “النخبوية” التي تدعمها الدولة.
وهنا يصير المبدع غريبا ويغرق في اغترابه ويحاول أن يفك الطلاسم والحوائط التي تمنعه من الوصول والتواصل مع أبناء مجتمعه بالرمز أحيانا أو بالإسقاط تارة أو بهجر القالب الذي يبدع فيه إلى قالب آخر تحتمله الدولة بنخبتها برضاء الغالبية أو أن يكون أمارة كمهجريِ قديم قد ترك الوطن وهجره طوعًا حتى يستطيع أن يعبر ويقول، ويلجأ إلى دور النشر الخارجية. إلا أن نقر بأن وسائل التواصل والتطور التقني قد منحتا المبدع فرصة أكبر للتواصل ولأن يملي على الناس ما يريد من أفكار إلا أن توفر الوسيلة لا يعني هجره لمساحة الاغتراب طالما أنه قد قوبل بالرفض وباتهامات التكفير والمروق والزندقة فتصبح إبداعاته سهامًا يوجهها المفكر والكاتب بنفسه إلى صدره.