الكثير من الناس يدعي أو يشتكي بأن الزمن الحالي يفتقر إلى التربية والتعليم الصحيح، بعد الحديث عن أن تطور المجتمعات، تكنولوجيا وعلميا قد أفضى إلى تغيير كبير في سلوك الناس وطبائعهم، قد يكون إلى الأحسن أو الأسوأ بحسب البيئة وعوامل أخرى. لكن ما يجمع هذه التحولات، وما يخلق هذا التطور أو التخلف، هو وجود عنصر التربية الذاتية أو الأسرية أو المجتمعية في حياة البشر، وقد أدى ظهور عدة مدارس بعلم التربية إلى اختلاف وجهات النظر حول مفهوم التربية وماهيتها الصحيحة للأجيال الحالية والقادمة. فكيف ننظر كمجتمعات عربية إسلامية إلى التربية والتعليم بوقتنا الراهن؟ قد يكون السؤال الأول هو من سيحدد طريقة نمط ما نسعى إليه كأفراد ومجتمع بالتوصل إلى رؤية شاملة للنهوض الاجتماعي والسياسي.
فمن يسبق من؟ هل التربية قبل التعليم، أم أن التعليم أولا يفضي إلى وجود تربية صحيحة؟ فالتربية تستفيد من النظريات المختلفة التي جاءت بها العلوم الإنسانية والفلسفية والاجتماعية التي تفسر مختلف الظواهر النفسية والاجتماعية والعلاقات السلوكية الإنسانية المتعددة، والناظر إلى الواقع التعليمي العربي يرى أن التعليم في العالم العربي والإسلامي قاصر على نوع معين من الأخذ بالعلوم وهو التعليم الديني، وأن هناك انتقائية وازدواجية في التعاطي مع المعارف الأخرى، ويظهر هذا الأمر جليا في تحريم الفلسفات النظرية لعلماء متنورين حداثيين، وتحريم دراسة هذه النظريات بما يفتح مدارك الشباب والناشئة حول الكون والوجود والإنسان ولعل أهمها نظرية التطور. مما أفضى إلى أن تعيش المجتمعات العربية في حالة متأخرة تعليميا، وذلك بسبب تفشي الأمية ، ونعني هنا، ليس الأمية التقليدية التي شارفت على الانتهاء، ولكن الأمية الحضارية التي أصبحت أكبر عائق في العقل العربي المسلم يمنعه من تجاوز أزمة الانغلاق والتطرف.
وفي جانب المؤسسات المضطلعة بالتربية والتعليم في الوطن العربي، حددت لنا الخطة الشاملة للثقافة العربية التي وضعتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في ثمانينيات القرن الماضي، الدور الذي ينبغي أن يضطلع به النظام الثقافي بعامة، ومن ضمنه النظام التربوي، في حياتنا المستقبلية العربية، بحيث يتضمن: زرع الثقة والأمل، وضع الأسس الفكرية والحضارية للمجتمع العربي، تنمية الأهداف الكبرى للوطن العربي ومنها الحرية والمساواة والتنمية، فأين وصلنا كشعوب عربية بتطبيق هذه المبادرة؟ وهل ما زالت المؤسسات التربوية العربية تحظى بالاحترام؟
من منطلق الحفاظ على الإسلام والهوية والخصوصية،إلى آخر تلك الديباجة المؤدية إلى الجمود والانغلاق والتعصب، تقوقع التعليم العربي في زمن الماضي خوفا من فقدان الهوية العربية الإسلامية، دون تقديم أي مشروع حضاري تعليمي يواجه تحديات الحداثة وآفاقها الإنسانية التي تقلص الفوارق وتدمج الإنسانية في بوتقة الحرية والإخاء والمساواة، ما عدا من ترقيعات إسلاموية وبراهين علمية قاصرة ومواءمات فقهية عاجزة، وخطاب إسلامي عاطفي لا يزال يعتمد على النقل والتقليد ويحارب النقد والشك والحوار.
لقد غاب النظام التعليمي العربي بكل حدة عن الواقع الحالي ومعطياته الحضارية، ووجد في التاريخ الإسلامي المعين الذي لا ينضب من التراث ليكون بديلا عن الحضارة الحداثية، ولم تفلح دعوات التقارب والوسطية في خلق مناخ تعليمي علمي عربي، بل أنتج التعليم والمناهج الدراسية نماذج التيارات الإسلامية المتطرفة التى ملأت المجتمعات العربية بالعنف والدمار والرجعية، ووضعت المواطن العربي في صراع، ليس مع ذاته من أجل البناء، ولكن مع الآخر المختلف في الرأي والفكر والعقيدة مما جعل مخرجات التعليم العربي تواجه الحياة والوجود بنظرات التحدي وثنائيات الكفر والإيمان أو الحلال والحرام.
لطالما تعتبر التنمية المعرفية هي طريق المجتمعات المتقدمة في الوصول إلى تربية وتعليم عاليين، في حين أن جامعاتنا العربية والبحث العلمي فيها في أسفل درجات التقييم للمعايير الدولية، ولم يعرف فضاؤنا العربي بروز مجتمعات المعرفة والابتكار والخلق، فالعقول المبدعة تهاجر إلى الخارج بعد أن تواجه المحرمات والعراقيل الإدارية والبيروقراطية المزمنة في بلادها، بينما تجد هذه العقول العربية، غاية الإبداع والخلق والصناعة والعطاء متى ما توافرت لها بيئة حرة وحاضنة لكي تبدع في المجالات المختلفة، وليس هناك أكثر من العلماء والمفكرين العرب الذين يعيشون في الغرب ونسمع عن اختراعاتهم العلمية والثقافية، ونحن نتحسر ونتألم لواقعنا الذي مازال يجتر إرث الماضي ليبحث وينقب فيه عن حكايا الإعجاز والتفوق الديني الوهمي.
لقد تبنت الأمم المتحدة إعلان الألفية الثالثة بشأن التنمية في سبتمبر/أيلول 2000، وتضمن ثمانية أهداف أساسية تصبو إليها البشرية، من أجل عيش أفضل، ومن ضمنها تحقيق تعميم التعليم الابتدائي، فأين وصلت الدول العربية في تضمين التعليم الابتدائي لكل أطفال العرب، بل أين وصلت الأنظمة العربية في جعل التعليم الابتدائي النواة الأساسية لكي ينشأ الطفل وهو ذو عقلية تحررية فكرية، متقبلا للسؤال والنقد والشك، ورافضا للقمع والتلقين والحفظ. هنا في الواقع لن نجد إلا أجيالا ممسوخة الهوية، وضائعة في التقليد والتبعية والجمود، هنا في مجتمعاتنا، نجد الجيل الجديد يلبس أفخم الماركات ويقود أغلى السيارات ويسافر في الصيف إلى دول الغرب الكافر، لكنه يفكر مثل الصحابة في العصر الإسلامي، يؤمن بالغزو ونشر الإسلام بالسيف وقهر المرأة وفرض الوصاية عليها، يؤمن بقتل المرأة إذا مارست الجنس دون زواج، يؤمن بقتل وقمع المختلف عنه في الدين والمذهب. هذه التناقضات والأزمات النفسية، لم تصنعها الحداثة ولا العلمانية ولا نظرية التطور، وإنما التعليم العربي بكل ما فيه من مناهج وخطاب عقيم غير قادر على مواجهة الواقع بعقل نقدي حديث.
بعد ثورات الربيع العربي، وفي كثير من الدول العربية، استبشرت الشعوب العربية، وربما أنا أكثرهم، بأن الثورة على الأنظمة القمعية سيلحقها ثورة تعليمية ثقافية كبرى تقتلع النماذج التعليمية السابقة وتضع الإنسان العربي على سكة التعليم العلمي الموازي للتقدم والتفوق، وتستجلب نماذج الحداثة والتنوير وتستلهم من الثورة الفرنسية الغايات الكبرى والأهداف العظيمة لبناء الإنسان ومبادئه وتطلعاته إلى دول أكثر حرية، وإلى شعوب ومجتمعات أكثر تمدنا وعلمانية، ولكن دائما، وكما يقال تجرى الرياح بما لا تشتهي السفن، فلم تزل دول الثورات العربية تعاني من انسدادات تاريخية وصراعات دينية مذهبية عطلت التحول والانتقال الديمقراطي، إلى دول ومجتمعات مدنية تعتمد على الإنسان في البناء والتغيير والمستقبل، فلم تتمكن الحكومات حتى اليوم من تغيير النمط العربي السائد قديما إلى نمط متغير حداثي، فالبنية العقلية العربية ما تزال ترى في الآخر عدوًّا، وما زالت ترى في التنوير والعلمانية محددات للكفر والزندقة، وهو ما ينبئ بمستقبل أكثر ظلاما وأكثر تخلفا طالما بقيت الثقافة التراثية الرجعية تتحكم في الأنظمة العربية، وطالما لم يتم فصل الدين عن الدولة كحل نهائي ووحيد لمواجهة الصراعات الطائفية والعرقية.
حتى وبعد أن خفت هدير الثورات العربية برز على سطح النقاشات الثورية العربية بعد أحداث الربيع العربي، موضوع الإصلاح السياسي لهياكل الدول العربية، ومن ضمن تساؤلاتنا الحائرة، ومن ضمن الواقع العربي التعيس، اختفت تلك التساؤلات العميقة: كيف نضمن دخول أهمية التربية والتعليم الحديثين ضمن هذا الإصلاح السياسي؟ ومن يقوم به؟ وهل علمنة المجتمع تسبق تحديث التعليم؟ خصوصا إذا علمنا أن الشعوب العربية لا تريد أن تناقش نظام عاداتها وتقاليدها وثقافتها الدينية، وتضع آلاف الخطوط الحمراء والسوداء لمنع المناقشة والحوار والنقد في مسائل العادات والتقاليد والاسلام.
إن الخروج من مأزق التربية والتعليم في العالم العربي ضمن عالم سريع الخطى نحو المتغيرات، يتطلب من الشعوب العربية والإسلامية وقبلها الأنظمة السياسية، القيام بممارسة نقد الذات، وتفكيك الثقافة الموروثة، والاعتراف بالأخطاء حتى نستطيع أن نصحح المستقبل، فالأجيال القادمة تنتظر منا ما هو مستقبلهم، وما قد نؤسسه اليوم من قيم ومبادئ إنسانية عالية سوف نرى ثمارها لاحقا فيما يحمله الإنسان العربي من مبادئ ثورية وعقلانية علمية يعمل بها من أجل مجتمعه ووطنه بعيدا عن كل ما يسيء إلى وطنه ونفسه والآخر. إن زمن التعلق بالماضي وحكايا المعجزات قد انتهى، وأصبح بديله المنطق والعلم، فما يحققه الإنسان اليوم هو الحضارة، فيجب علينا أن نبني عقول الشباب بكل ما هو عقلاني، وأن نعلمهم حب الاكتشاف والبحث عن كل ما هو ممكن حدوثه، متسلحين بالإيمان الصحيح، والأساليب العلمية الحديثة، عندها فقط نكون قد أورثنا أجيالنا القادمة ما يفخرون بحمله معهم.