في عام 2010 أرسل زعيم القاعدة “أسامة بن لادن” تهديدات لجمهورية فرنسا تتضمن قتل مجموعات وتفجير منشآت رداً على مشاركة فرنسا في حرب أفغانستان والوجود الفرنسي في غرب أفريقيا، سبق ذلك حادثة احتجاز رهائن فرنسيين في النيجر للضغط على الرئيس “نيكولا ساركوزي” لتنفيذ مطالب التنظيم من ناحية، ومن ناحية أخرى إرهاب الناتو والاتحاد الأوروبي عن دعم الولايات المتحدة في حربها ضد التنظيم.
الآن في 2020 تتجدد حوادث الإرهاب في فرنسا ولكن بصيغة جديدة ومطالب جديدة، فالهدف هذه المرة معروف ومحدد وهم صحفيون ومُعلّمون فرنسيون سقطوا صرعى على يد الإرهاب منذ عام 2015 بحجة الرسوم المسيئة للرسول محمد، وبالتوازي مع تصريحات الرئيس الفرنسي الحالي “ماكرون” ضد الإسلام السياسي أو الإسلاموية بتعبير اللغة الفرنسية ضد الجماعات الجهادية، وهو ما جرى تفسيره خطأ عن طريق ترجمة خاطئة للمجتمع الإسلامي على أنه عداء لأصل دينهم، أو بمفهوم المتشددين “حرب صليبية جديدة”
منذ 2010 وحتى الآن لم تتوقف فرنسا عن طموحاتها بحصار المسلمين الراديكاليين مع ظهور متوسط لليمين الديني المسيحي في مظاهرات العام نفسه -2010– ضد ما أسموه “أسلمة فرنسا” بالخصوص في حي “لاغوت دور” في باريس والمشهور بأفريقيا الفرنسية لكثرة المسلمين الأفارقة فيه، الأمر الذي دفع هؤلاء المسلمين لفرض أعرافهم وتقاليدهم الإسلامية الخاصة في الحي كتحريم بيع الكحول ولحم الخنزير، مع شعارات وتحريض للجماهير في الشوارع ضد الخطر القادم من قلب الدين الإسلامي وأفريقيا تحديدا.
إذن ما صرّح به ماكرون منذ أيام عن خطط لمقاومة الراديكاليين المسلمين في فرنسا ليس جديدا، بل مشروع سياسي من تيارات متعددة يصبح بتبني ماكرون له حاصلا على دعم أقصى اليمين واليسار، وهو ما يُنبئ عن تحالف أو انتفاضة فرنسية قريبة ضد المسلمين إذا لم يجرِ ضبط الأحداث لمصلحة الأقلية المسلمة التي قد تتعرض لاعتداءات على غرار ما حدث في نيوزيلندا في مارس 2019، لاسيما أنه وفي تاريخ فرنسا الحديث لم يجتمع اليمين واليسار بهذا الشكل ضد فئة أو معتقد تحديدا، مما سيكون له أثر كبير في قوانين الهجرة والجنسية من ناحية، وعلاقات فرنسا مع العالم المسلم من ناحية أخرى.
وإن كانت علاقة الفرنسيين مع الدول المسلمة في تقديري لن تتضرر نظرا لتبني الجمهورية في باريس قواعد ومبادئ علمانية راسخة لا تطبق فقط في القطر الفرنسي داخل أوروبا ولكن في ممتلكات فرنسا ما وراء البحار، وخصوصا جزيرة “مايوت” المسلمة التي تقع بجوار أرخبيل “جزر القمر” تلك الجزيرة التي يبلغ عدد سكانها 200 ألف نسمة رفضت الاستقلال عن فرنسا في السبعينات مع جزر القمر، وفضلت أن تكون جزءًا من الجمهورية الفرنسية وتتقيد بكل قوانينها العلمانية، وهو ما أغضب حكام جزر القمر المسلمين الذين يرون الجزيرة ميراثًا لهم وشعبًا مسلمًا واحدًا يجري “فرنجته” وصبغه بتعاليم ولغة فرنسية وربما حسب ما يتخوفون من غزو التبشير المسيحي للجزيرة بهدف تحويلها عن الإسلام كما يدعي رجال الدين.
وضع جزيرة “مايوت” الاقتصادي أفضل بكثير من أوضاع جزر القمر، وقد دفع ذلك الكثير من سكان القمر للهجرة إلى مايوت لقاء العمل والسياحة والدخل الوفير، ولولا الدعم الفرنسي لمايوت ما حصلت على هذه الميزة في حين تظل جزر القمر أفقر من المتوقع خصوصا وأنها يفترض أن تحظى بدعم عربي خليجي للحفاظ على لغتها العربية ودينها الإسلامي، وأن تظل جزءًا من جامعة الدول العربية بموقعها السياسي الفريد على الساحل الشرقي لأفريقيا.
إن ما يهدف إليه الفرنسيون كما هو مخطط وأعلنه ماكرون ليس القضاء على الإسلام فهذا ضد مبادئ العلمانية والثورة الفرنسية، وصار راسخا في ثقافة الحضارة المعاصرة التي انتعشت واستفادت من ثورة الفرنسيين قبل 200 عام، إنما يهدفون للقضاء أو لحصار الفكر الجهادي الإسلامي المتشدد والذي قد يلتحف أحيانا في عباءة رجال الدين ويصبح له مشروعية قانونية في المساجد ومؤسسات الدين التي لا يرفض القانون العلماني إنشاءها بل يرعاها وفقا لمبادئ حقوق الإنسان العلمانية في حرية المعتقد، وهذه الجزئية تكاد تكون غائبة كليا عن مجتمعات المسلمين التي كانت وتظل أسيرة لدعايا من الشيوخ والإسلاميين ضد كل من ينتقد أو يواجه أساسات الفكر الجهادي الذي هو ركن أصيل في المذهب السني الإسلامي بالخصوص.
حتى خطاب ماكرون الذي هاجم فيه الإسلام السياسي أو لفظ الإسلاموية المقصود به فكر الجماعات الراديكالي تمت ترجمته عربيا على أنه هجوم على الإسلام كدين، وهذه من عيوب الترجمة والجهل بالثقافات، علما بأن معالم الأديان العليا في المعابد تظل شاهدة على توجه الدول، ففرنسا سواء في الجمهورية أو مستعمراتها في الخارج لا تمنع المساجد وتساوي بينها وبين الكنائس وفقا لقانون علماني لا يحجر على التدين الشخصي والشعائر، إنما يحجر على توظيف هذا التدين وتلك الشعائر في عمل سياسي.
إنما المشكلة بين فرنسا والثقافة الإسلامية المعاصرة قد تكون أعقد مما نتخيل، كون العُرف الإسلامي المتأزم مع قيم الجمهورية العلمانية لا يتلخص فقط من قضايا الجهاد والشريعة، ولكن في العادات والتقاليد المستندة على الحلال والحرام، ففي مدينة “روبية” الفرنسية على الحدود مع بلجكيا تقطن جالية إسلامية كبيرة دفع بعض أصحاب المطاعم الكبرى في حصر لحومهم في المتاجر بما يعرف ب “اللحم الحلال” وحسب وجهة نظر العلمانيين أن قيم الدولة تمنع هذا البيع لكونه احتكارًا وأسلمة المدينة ثقافيا، والبديل العلماني هو بيع كافة أنواع اللحوم وترك حرية الشراء للزبائن وفقا لقناعاتهم وميولهم.
مما يعني أن المواجهة بين فرنسا وبعض المسلمين لم تعد فقط تعمل في إطارها الراديكالي الديني أو القومي، ولكنها دخلت في صميم الثقافة نفسها، لاسيما أن الفرنسي يرى علمانيته شمولية غير محصورة في جانبها السياسي بل تشمل الثقافة أيضا، ولديهم حساسية مفرطة ضد أي ثقافة ناشئة متغولة للأديان.
وبرأيي أن للمسلمين فرصة كبيرة في التواصل مع إدارة ماكرون وإقناعها بتخفيف الحملة الدعائية الكبيرة التي تجري حاليا ضد الإسلام السياسي، ويوظف فيها أحيانا متشددون ضد الإسلام نفسه كدين، وبمدّ الخط على استقامته على هذا النحو يعني أنه وربما نرى في المستقبل من يحكم فرنسا هو أكثر خطورة من ماكرون على المسلمين، فالرجل لا زال لم يرفع سلاحا ولم يحشد جيشا ولا شعبا.
وكل هذه التجمعات تجري خارج نطاق الحكومة عن مؤسسات العمل المدني والأحزاب في اليمين واليسار، لكن تدخل الحكومة وقيادتها لحملة قومية ضد المسلمين ربما نرى محاكم تفتيش وهجرة جماعية لمسلمي فرنسا، وفي تقديري أن الإنسان الذي بدأ ثورته بذبح الملوك في القرن 18 ولم يسلم منه حتى الثوار كالقائد الثوري “روبسبير” الذي أعدمته الثورة الفرنسية نفسها لمجازره لن يتردد في فعل ما يريد أيا كان هو.
الإنسان الفرنسي عنيف جدا وشخصيته حادة وانتقامه بشع، فلو ظهرت تلك الجوانب للمسلمين فسيمر مسلمو فرنسا وأوروبا بالعموم بأزمة ديمغرافية في حال لو اشتعلت المواجهة بين المسلمين والجمهورية الفرنسية كما هو مخطط من بعض المتطرفين الذين يحشدون قواهم الآن ضد فرنسا بدعوى الحرب الصليبية واستدعاء كل مفردات الحرب الدينية في التاريخ، علاوة على استدعاء جرائم فرنسا نفسها في الجزائر والمستعمرات لحشد الجمهور إلى مواجهة في ظني أنها ستكون غير متكافئة نظرا لأن دول المسلمين نفسها تعاني من الجماعات الراديكالية الإسلامية التي تعاني منها فرنسا الآن وتولي لها جانب مقاومة لا زال في بداياته وملامحه لم تظهر بشكل جيد.
نحن أمام حالة صدامية في الحقيقة بين دولة تريد فرض أسلوبها العلماني اللاديني والذي كان سببا في نهضتها وتحضر شعبها، وبين أسلوب الشيوخ والإسلاميين الذي كان سببا في توسع الغزوات والإمبراطورية الإسلامية منذ القرن 7 م، لاسيما أن فكرة الانتقام التي يرفعها قاتلو الصحفيين الفرنسيين وضد كل من يرسم النبي محمد بصورة مسيئة هي جزء من فكرة الجهاد العليا التي تهيمن على فلسفة الجماعات وقطاع كبير من المسلمين الذي لا زال يرى أن حضارة المسلمين الأولى لم تتحقق سوى بالحرب والغزو، وبالتالي عليه أن يحارب وينكل بالأعداء لتعود الأمجاد الأولى، وقد سبق نفي هذه القاعدة المعرفية بإثبات أن حضارة المسلمين تحققت في العصر العباسي الثاني الذي شاعت فيه الحرية الدينية وتساوت دول الشيعة والسنة في النفوذ والانتشار، وأصبح لكل دولة مفكروها فأصبح البديل اللامركزي للخليفة العباسي هو الضامن على ظهور تلك العقول دون قيود دينية.
خلافا لو كان الخليفة العباسي مسيطرا على أكثر من 20 مليون كم2 وبقرار فردي إلهي فلن يتحقق ذلك النهوض الذي سيجري تفسير أي عمل إبداعي نقدي للشائع على أنها معارضة سياسية للحاكم، وهذه من آفات النُظُم الفردية دائما وهي احتكار الحقيقة ثم تفسير أي نشاط وانتقادات مغايرة على أنها خيانة وردة وخدمة لأعداء الدولة والخليفة والدين.
إن المواجهة بين فرنسا والمتطرفين المسلمين محسومة مسبقا، فعلاوة على أن موقف أغلب الدول المسلمة نفسه يتطابق جوهريا مع موقف فرنسا -خصوصا بعد ظهور داعش- فالفرنسيون يملكون أدوات الصراع والضغط الكافي باقتصاد جيد ونفوذ ثقافي وسياسي ممتد خارج الحدود وحلفاء أوروبيين متحمسين لحسم هذه القضية التي أصبحت مقدسة في نفس كل أوروبي من خلفية غير مسلمة بالخصوص، علما بأن هناك مسلمين يؤيدون العلمانية الفرنسية ويتسلحون في ذلك بقيم معرفية وأخلاقية وتاريخ لحضارة بلدهم أصبح مهددا بفعل الوافدين أو بالأحرى الثقافة الوافدة التي حلّت عليهم بأثر الانفتاح وإيمان الدولة بحقوق الإنسان.
في المقابل، فإن المتطرف المسلم ومن خلفه رجال الدين والثقافة الشعبية المسلمة ينظرون لفرنسا والغرب عموما بنظرية المؤامرة، وأن ادعاءات الحرية وحقوق الإنسان الفرنسية هي مزاعم كاذبة، ففرنسا وبغض النظر عن تاريخها الإجرامي معهم لكنها تؤيد وتدعم حكومات مستبدة ..وهذا مدخل مهم جدا لبناء حاضنة شعبية للجماعات التي ترى أنه لا يفل الحديد إلا الحديد، فالفاشية الإسلامية في نظرهم هي الحل لمقاومة الفاشية الفرنسية أو المسيحية أو الأوروبية حسب تعريفهم، بالمقابل يتبنى المنهج نفسه مؤيدو ماكرون وخططه لمقاومة الإسلاميين. فالبعض منهم يرى أن الفاشية والإقصاء هو الحل الوحيد الآن لوقف التمدد الديني للجماعات في فرنسا، وإنهاء سيطرتهم على المساجد والجمعيات الخيرية التي صارت هي الأخرى تعمل في نطاق تبشيري خلافا للمهمة الأصلية التي وجدت لها.
وأختم بتأكيدي على حقيقة مهمة ذكرتها في المقال، أن ماكرون على الأرجح هو أقل خطرا على المسلمين من بدائل فرنسية تعمل في الخلفية وتستعد لاغتنام الفرصة الآن لكي تُجهِز على الثقافة الإسلامية وما يتبعها من حضور إسلامي في الشارع الفرنسي، فاليمين المتطرف والقومي داخل فرنسا يعمل ويستفيد الآن مما يحدث، ويصارع قوى برلمانية وحزبية تحد من نفوذه الذي سيكون أول تهديد لقيم الجمهورية الفرنسية منذ 100 عام تقريبا واستقرار الحكم في تلك الدولة التي لم يتوقف الصراع فيها ومعها منذ 200 عام كقوى كبرى، والفرنسيون بالعموم لا يؤمنون بعلمانية سياسية فحسب بل بنموذج ثقافي شامل ضد رجال الدين والتمييز الطائفي، ولو وضعت فرنسا بين خيارين أحدهما جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شوارع باريس فلن تتردد في الخيار الثاني مهما كان كارثيا.