ومرة أخرى المسلمون والإسلام يعيشون صدامًا حضاريًّا، الوضع الذي لا يكاد أن يختفي إلا وظهر إلى السطح مرة أخرى، هذه المرة مع فرنسا وبالتحديد مع علمانية فرنسا. وهنا أقولها مباشرة دون أي مراوغة، دون أي تجميل، دون أي مواربة: بعيدا عن الغرض السياسي الذي انطلق منه الرئيس الفرنسي ماكرون في تصريحاته الاستعلائية التي سبقت مقابلته في قناة الجزيرة، الإسلام والمسلمون يعيشون أزمة.. نعم نعم نعم ومليون نعم والسبب التراث الديني الإسلامي.
بدون أدنى شك خطاب ونبرة ماكرون التي سبقت المقابلة، مرفوضان لسبب بسيط أن حرية التعبير الناصعة التي يزعمها ويدعمها وينطلق منها في خطابه غير موجودة في أرض الواقع وهناك أحداث كثيرة تثبت ذلك. بجانب ذلك، فإن بيان خارجية فرنسا حول المقاطعة كان به من الاستعلاء الكثير، يخيل لك وأنت تقرأه كأننا ما زلنا في زمن الاستعمار الفرنسي! بيد أن الأمر في الحقيقة أكبر من ذلك بكثير، الأمر يتعلق بالمسلمين ذاتهم أكثر مما يتعلق بالغرب.
الأمر الأول أن تجار خطاب الكراهية والعنف والدم من دعاة المسلمين والإسلام السياسي بالذات يتغذون ويتكاثرون في مثل هكذا أجواء، وهذا بالتأكيد يكون له عواقب كثيرة، وكيف ننسى خطاب الصحوة وأثره! الأمر الثاني يتعلق بالتراث الإسلامي ذاته. من أين يستقي الآخر الذي يريد أن يسيء إلى النبي الصور النمطية عن محمد؟ من التراث الإسلامي! وذاته التراث الذي ما زال يسيطر على العقل الجمعي الإسلامي الذي يعيش تناقضات لا نهاية لها، تناقضات لا فكاك منها إلا بمراجعة التراث وغربلته بشجاعة. وللأسف هذا لن يحدث ويؤثر إلا لو أتى من مؤسسات فقهية لها رصيدها الشعبي الوازن، أو دفع من دولة لديها من المؤهلات ما يؤهلها لمثل هكذا خطوة. وهذه هي الخطوة الجادة والأهم لنصرة النبي محمد. يجب أن يتبرأ المسلمون من التراث الدموي وتفسيراته المحرضة على كره الآخر وقتله حتى لو كانت آية قرآنية.. لا بديل آخر.
أن هذه العملية يجب أن تأتي من موقف شجاع تبدأ بالاعتراف بالمشكلة وعمقها وخطرها، ثم يتلوها إعادة قراءة للموروث بداية مع القرآن بما يتناسب وروح العصر. نعم حتى القرآن، حتى لو استدعى ذلك توقيف آية معينة بحجة عدم وملاءمتها للواقع الحالي حيث إنها تتحدث عن ظروف فترة بعينها، فما بالك بالكتب التراثية الدينية الإسلامية الأخرى. في التراث الديني الإسلامي عن النبي محمد ما هو أسوأ بكثير مما نشرته شارلي إبدو، أين أنتم عنه؟ بيد أن هذه الخطوة غير كافية إذا لم تلحقها خطوات قانونية صارمة على مستوى الدول. خطوات تستهدف خطاب الكراهية والعنف الذي يصدره دعاة الكراهية باسم الدين في المنبر والمسجد والشاشة والمنهج الدراسي. ولكن للأسف في دولنا، الأنظمة، ولأنها لا تستمد شرعيتها من الشعب؛ فهي تحتاج إلى دعاة الكراهية وهم يحتاجونها لإضفاء الشرعية المتبادلة.
وهنا أعود إلى مقابلة الرئيس الفرنسي مع قناة الجزيرة، لو استثنينا حديثه عن تركيا وأطماعها حسب تعبيره، الذي لا أقول إنني أختلف معه، بيد أني أيضا لا أتفق معه وأنظر له من منظور صراع قوى تريد أن تفرض وجودها، وتحمي مصالحها، وتغير على مصالح الآخرين أيضا، بالقوة، وهذا بناء على واقعية العلاقات الدولية التي تتبعها هذه الأطراف المتصارعة، تركيا وفرنسا وبقية الدول؛ فإنني شخصيا أتفق مع مجمل ما ذكره في المقابلة من حيث المضمون وكذلك النبرة التي استخدمها والتي تختلف عن خطاباته السابقة. لا أعلم هل هو إدراك لخطئه السابق أم مجرد سياسة؛ حيث يقدم لكل جمهور ما يريد أن يسمعه. وفي كل الحالتين هل هذا نتيجة المقاطعة التجارية للمنتجات الفرنسية التي تلت تصريحاته أم تدارك واعٍ للمشكلة التي تسبب بها!
أما المسلمين وقادتهم عليهم أن يكفوا عن التباكي والنواح والدعوات الغوغائية، ويلتفتوا لمصائبهم ومشاكلهم لكيلا نكون عبئا على العالم.. لأن هذا واقع مهما حاولنا الهرب منه. خطاب الكراهية والدم المستمد من التراث الديني الإسلامي يجب أن يتوقف، يجب أن يُتجاوز، يجب أن يتبرأ منه. وهذا لا يعني أن الآخر بريء. بالتأكيد لا.. وألف لا، وهذه حقيقة الواقع. بيد أن على المسلمين أن يواجهوا هذا الواقع بأدوات الواقع وليس بالصراخ والعويل. هناك جهد يجب أن يبذل على جميع الأصعدة. ونتذكر دائما أن الآخر دوما سيسعى لمصالحة ليس فقط في مساحته الجغرافية بل أيضا خارجها، والعكس.
وكما أني لست مع الخطاب الاستشراقي استعلائي الذي يريد أن يفسر التاريخ بالثقافة بدل العكس. الخطاب الذي يصر على أن أزمة المسلمين هي الإسلام ذاته فقط، وهذه الدعوة قدر ما هي ساذجة حيث تغفل عن الأسباب السياسية والتاريخية، هي تبرر استمرار تعاون الغرب مع الأنظمة المستبدة في دولنا والتي هي من الأسباب الرئيسة للأزمة التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. كذلك لست مع دعوات الاستشراق المعكوس، المصطلح الذي سكه صادق جلال العظم لوصف هذه الظاهرة، الذي يريد أن يحول المركزية الاستعلائية من الغرب إلى الشرق، ولا يرى خلاصا من الأزمة إلا بالعودة إلى “الإسلام الحقيقي” المزعوم.
أنا أكيد مع حرية التعبير ولا أتنصل منها لكن لست مع من يتاجر بها سياسيا. مع تصنيف كل عمل دموي متعمد إلى أنه عمل إرهابي مهما كانت خلفية منفذه، لكن لست مع إلصاق هذه التهمة على الجميع. متفهم ردة فعل المسلمون، لكن لا يمكن أن أتقبل خطاب التحريض على الكراهية والعنف والدم الإسلاموي. إذا كان الدم لا يبرر بدم، ما بالك لو كان كل ما قام الآخر به رسمًا، أو خطابًا عنجهيًّا متعاليًا لا يصلح إلا لزمن الاستعمار، هل يقابل بالدم لكي نؤكد أن الإسلام دين سلام ومحبة!