المصيبة التي ابتليت بها المجتمعات العربية ليست استبدادية في المقام الأول، وإن كان الاستبداد نتيجة طبيعية لإخفاق ما سوف نتكلم عنه لاحقا. فالمصيبة الحقيقية في مجتمعاتنا العربية وحتى الإسلامية هي عوائق تحقيق الحداثة والتنوير وشروط إخفاقهما في مجتمعات فشلت في عقلنة الحاضر وأنسنة الشعوب، وذلك في ظل غياب قوى علمانية مدنية فاعلة، وحضور تاريخ دائري مغلق من الثقافة الدينية.
عندما نتكلم عن الحداثة، لا نقصد بها التحولات الاقتصادية والتنموية البنائية، بل الحداثة الفكرية الإنتاجية لمضامين الحضارة والتطور والعلوم. فالحداثة ليست مجرد مفهوم مادي خارجي، بل هي تحول تاريخي وفكري وفلسفي ينقل الدول والمجتمعات والشعوب، من حال سيئة إلى حال أفضل قابل للنقد والإصلاح والتطور والتغيير.
إن مشاريع الحداثة والتنوير في الوطن العربي غائبة منذ زمن محمد علي باشا، وما تجارب التحديث والعلمنة الصورية اليوم إلا تغطية شكلية يقابلها تبعية غربية وطغيان القبلية والطائفية والمكبوت الديني في المؤسسات الحكومية وديمقراطية بعض الدول، وهو ما يفقدنا كشعوب شروط التغيير الذاتية، وهي الغائبة فعلا وواقعا عن منظومة العقل العربي. لقد كان لغياب التواصل العربي مع الحداثة الفكرية الغربية دور بارز في إبقاء منظومات التخلف والتبعية في العالم العربي فاعلة، ولم تصل الشعوب العربية إلى الوعي التاريخي بضرورة الانتقال إلى الحداثة وصنع تاريخها ونموذجها العربي المتفرد، وهذا الانتقال، الفكري والصناعي، هو ما نقصد فيه غياب الشروط الذاتية العربية للتحول، بسبب عدم رغبة الشعوب بإحداث مثل هذا التغيير، إما خوفا من أنظمة استبدادية، وإما تمسكا بالعادات والتقاليد والدين، وهي المنظومات الأشد منعا لإحداث التغيير في الوعي والدولة والمجتمع.
| اقرأ أيضا: الحداثة العربية ومعوقاتها
تعاني بعض النخب العربية المثقفة من ضمور فلسفي في اللاوعي التاريخي، مما يجعلها، تعيد الحفاظ على الوعي القائم، أو محاولة ايجاد الوسطية، وفق مفاهيم تبسط أزمات العقل العربي وفشل التنوير والتحول الديمقراطي، دون قدرتهم على نقد العادات والتقاليد والدين، التي تشرعن وتبقي على التراجع العربي والفشل والعجز على الانتقال إلى عصر الحداثة وعلمنة الدول والمجتمعات العربية. فلا يمكن الحديث اليوم، بعد فشل الأنظمة العربية الحالية في التحول إلى الدولة الديمقراطية، وعجز الثورات العربية من إحداث التغيير المطلوب في الدول العربية، عن مشروع الحداثة والتنوير والعلمانية، إلا داخل مفهوم الدولة والمواطنة والتراث الديني والعادات والتقاليد، فالمسألة في جوهرها هي الوعي بالزمان المتغير والرغبة في تملكه على أسس علمية عقلانية تقطع مع الماضي لتؤسس حضارة عربية جديدة تتماهى مع الإنسانية العالمية، وتبتعد عن أزمة تداخل الأزمنة كما يعيشها العرب، حيث أصبحت الرجعية هي التقدم والماضي الديني هو التحضر والتراث هو الحداثة، مع إضافة بعض الرتوش والإصلاحات الشكلية للكذب على الوعي العربي.
إن فلسفة العصر الحديث تقتضي نقد المنظومة الدينية بما تحويه من نصوص مقدسة وتراث ديني، والبدء بإحداث القطيعة التاريخية مع الزمن الماضي ومن ثم تأصيل الحاضر والمستقبل داخل مفاهيم الواقع والتجربة والعلم والفلسفة. إن أزمتنا الشاملة في مجتمعاتنا قاطبة تجلت في مرور تاريخ طويل من الهزائم العسكرية والثقافية والفكرية والاقتصادية، غاب عنها الالتزام بالمعارك الهامة للبنية المجتمعية، وهي معارك التنوير والديمقراطية وتكوين مؤسسات المجتمع المدني. ومع كل هذه الإخفاقات سكن العقل العربي في بنية الماضي الديني، خائفا ومذعورا ومهزوزا من التطورات الإنسانية، فانكمش في هوية ماضوية خلقت له أزمات عاطفية وإرهابية نتيجة التمسك بمحددات غير قابلة للتطور وتتصادم تلقائيا مع حضارة وعقلانية الفكر البشري. فالشخصية العربية حين حملت بذور التأخر والتراجع، افتقدت تاليا لشروط ميلاد جديدة ضمن مجال التغييرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
فالحداثة في جانب آخر، هي تغيير جذري في الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتكمن غاياتها وتجلياتها في الحداثة السياسية باختيار العلمانية كمنهج ونظام يسهم في تعزيز المدنية والحكم الرشيد للمجتمعات. ولكي نستكمل هذا التحول في مجتمعاتنا العربية، علينا في البداية أن نمتلك الجرأة والمصداقية والشفافية في النقد التاريخي الفعلي لمسار التجربة العربية الإسلامية على مر تاريخها، فهذا هو السبيل لإبراز معوقات الحداثة، وبالتالي محاولة بناء فضاءات ثقافية وفكرية تعيد إنتاج فلسفة عربية حديثة تأخذ بها السياسات والأنظمة العربية إن أرادت اللحاق بالحضارة وإنقاذ شعوبها من التردي والانحطاط التاريخي. فلا يمكن لوم العوامل الخارجية دائما في إخفاق الشعوب وتراجعها الحضاري، فالغرب لا يتعامل بفوقية إلا مع الضعفاء أصلا وليس الأقوياء، والقوة تصنعها الحداثة والعلم والعقلانية، وهي ليست حكرا على الغرب، بل هي متاحة لمن يريد فعلا التقدم ويؤمن بأن التاريخ يتحرك وليس واقفا منذ 1400 سنة، بينما التاريخ العربي والإسلامي في حقيقته وقف أمام المتغيرات كصنم مقدس يرفض التجديد. لهذا كان دمار العقل العربي والدول العربية شأنا داخليا، وليس خارجيا كما يريد البعض إيهامنا بفكرة المؤامرات الدولية الغربية ضد مجتمعات وشعوب متخلفة أساسا. مجتمعات وشعوب تعتمد على الحفظ والتلقين، وتبتعد عن العقل والعلم بحجج واهية وضعف ثقافي وغياب دور العلم والفلسفة والفنون في تكوينهم الفكري.
إن فكرة الدولة العلمانية التي نسعى إليها بكل قوة، هي نتاج التطور التاريخي، الذي ارتبط بمرحلة الرومانسية في بداياتها الفلسفية، التي هيأت السبل، لاندلاع الثورة الصناعية. وهي جزء من سيرورة عصر الأنوار الأوروبي وأساسه التبشير بنشوء دول حديثة ديمقراطية تقوم على مبادئ المساواة ورعاية الحقوق والحريات، وتنطلق من قيم وضوابط في الحكم والسيادة أساسها حكم الشعب وتداول السلطة. وتبلورت فكرة الدولة العلمانية بعدها عبر إسهامات متعددة من مصادر مختلفة في العلوم الاجتماعية والسياسية والإنسانية، حتى تشكلت بعدها فلسفة العقد الاجتماعي وفصل الدين عن الدولة ومفاهيم المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية.
إن تأسيس الدولة العلمانية في مجتمعاتنا العربية، كبديل عن الأنظمة الحالية، هو الذي يتكفل بلجم نزعات القوة والسيطرة والاستبداد، ويصد الشعوب العربية عن الاعتداء على بعضهم باسم الطائفة والقبيلة والعرق والدين. وشرط تحقق ذلك، هو تدشين فكر عربي جديد، وفلسفة تغييرية ومراحل تنويرية ضخمة، بعيدة عن هيمنة النزعات الفردية أو الفئوية أو الدينية أو السياسية. ويكون من المهام التي تضطلع بها نخب القيادة لهذا التحول، تنظيم الحياة العامة وحماية الحريات الفردية والدفاع عن الأفكار الحداثية، والانخراط في مؤسسات المجتمع المدني لمواجهة التغول السياسي والديني.
إن الأهم في الدولة العلمانية، هو تمثيلها لإرادة الشعب، كونها تنبع من إجماع العقل ومن إرادة الحرية. فذلك يعني أنها دولة ديمقراطية قانونية متحضرة. دولة تستطيع أن تنهي الاستبداد السياسي والديني، وأن تضع الإنسان على طريق التقدم والتنمية والحضارة.