إن قرب موعد انتخابات مجلس الأمة الكويتي هو موجة انتعاش للحياة السياسية في الكويت الأمر الذي يبث الحياة في نفوسنا ويزيل الرمال عن أمل بات مدفونًا، فمنهم من ينادي بإسقاط القروض عن المواطنين، ومنهم من يطلب تفعيل دور نزاهة -الهيئة العامة لمكافحة الفساد- ومنهم من ينادي بإنصاف المرأة الكويتية في حقوقها السكنية وإعطائها قرضا مساويا لقرض الرجل الإسكاني حتى تتمكن من توفير مسكن لائق لها.
ومنهم من يمر الدواوين متعهدا بتحقيق تكافؤ الفرص الوظيفية واستثمار خبرات المتقاعدين أولئك الكنوز المهملة التي ندبنا حظوظنا على خسارة خبراتهم وعدم الاستعانة بها لسنوات عدة. إن مطالباتنا الشعبية وُئدت وأُخرست منذ أن أصبح المشهد السياسي مشحونا بالخلافات ولم يعد ذلك البرلمان مكاناً يستوعب مطالبات الشعب.
إن فجر البرلمان الجديد يظهر وأفئدتنا تتأمل تجديداً وعدلاً وإصلاحاً، ولعل أكثر الحملات الإعلانية الملفتة للمرشحين هي تلك التي تجرأت لتناول مسألة حرية التعبير بعد أن هُجِّر مواطنون ولجأ آخرون إلى ديار أخرى بسبب تغريدة على برنامج تويتر أو تعليق في وسائل التواصل الاجتماعي ينتهي به المطاف لاجئا دفع ثمنا باهظا لقول كلمتهِ.
وبعد أن كُمِّمَت أفواه كُتّاب وأُدباءٌ وشعراء، وبعد أن نفذ الفنانون والممثلون بجلودهم وأعمالهم الأدبية إلى قنوات الدول المجاورة كالإم بي سي وغيرها من قنوات البث التي احتضنت أعمالهم الفنية تحت سقف عالٍ من حرية التعبير وأصبحت دور النشر العربية وبعض الدور اللبنانية ملاذاً للأدباء والكُتاب لنشر الأعمال الأدبية الكويتية دون تضييق أو تكبيل أو مطالبةٍ بتعديل العمل الأدبي الحقيقي والإتيان بعمل آخر ممسوخ لا يشبه حقيقته حتى لا يتجاوز سقف حرية التعبير وفقدت الكويت التي كانت منبراً للعلوم والفنون والآداب والتطور. أصبحت كويتًا تفتقد رونقها وأسلحتها الناعمة المتمثلة بأعمالها الأدبية والفنية.
و شُرِّدَت.. شُرِّدَت، شُرِّدت!! حرية التعبير الكويتية في كل ديار العالم بأنواعها وموادها وأبنائها ودمائها. وعند النظر إلى القوانين المنظمة لحرية التعبير في الكويت نجد أننا بحاجة إلى مواءمة التشريعات الوطنية مع الاتفاقيات الدولية، أهمها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والذي نظم في مواده حرية التعبير.
وعلى الرغم من أن الكويت وقعت وصادقت على هذا العهد إلا أننا ما زلنا نرى الفجوة التشريعية بين هاتين المنظومتين الأمر الذي راح ضحيته الكثير ممن حاول ممارسة حرية التعبير داخل إقليم الكويت.. ولا أقصد بقولي “الكثير” ألّا أحد يغرد في الكويت أو لا صوت ولا مسلسل ولا كتاب، فهناك من يطأطئ رأسه وهو يبث مر شكواه مخافة الطائلة الجزائية.
بقي القول بأن الإصلاحات التشريعية هي حاجة ملحة وواجب على كل من يرغب بترشيح نفسه حتى لا ينسى الغاية الأسمى من التشرح والوصول إلى البرلمان وهي تمثيل الشعب برغباته وغاياته ومطالباته.
وعلى الرغم من أن بحث حالة حرية التعبير في الكويت هو أمر غاية في الأهمية إلا أننا نجد افتقارًا للدراسات والبحوث والاستبيانات التي من الممكن أن تشكل قاعدة بيانات يعول عليها لمعرفة حالة حرية التعبير في الكويت أمام المجتمع الدولي، وخصوصا وأن كثيرا من المدافعين الكويتيين عن حقوق الإنسان يفتقرون إلى الخبرة ومعرفة ماهية حرية التعبير وحدودها وضوابطها كما نُظمت في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي أكد في مواده على ضرورة اتخاذ الدول الأطراف الإجراءات الكفيلة بحماية سمعة وكرامة الأفراد دون أن تتجاوز هذه التدابير الحرية ذاتها؛ أي أنْ تكون تدابير حامية لا خانقة وأن تكون لهذه التدابير من الأهمية ما يكفل الحياة الكريمة وموازنة الحقوق والحريات بين الأفراد، ومفاد ذلك أن تمكن الدولة مواطنيها من استغلال القنوات القانونية لصيانة سمعتهم وكفالة كرامتهم.
فلا يمكن القول بأن نشر صورٍ خاصة لنساء في أوضاع غير لائقة مجتمعيًّا، والحض على التشهير بهن والإطاحة بكرامتهن وسمعتهن، هو من باب حرية التعبير؛ إذ في ذلك تجاوزٌ على حقوق وحريات الآخرين منها الحق في الخصوصية وانتهاك كرامة الأفراد.
قس على ذلك تحقير الإنسان والتقليل من شأنه، واستعمال خطاب الكراهية في كل ما يرتبط به من أصله أو جنسيته، أو كحادثة الخطاب العنصري ضد المصريين في الكويت على إثر أزمة كورونا. ويأتي مجددا من يدعي بأن الخطاب العنصري ضد فئة معينة استنادا إلى جنسيتها أو أصلها أو بلدها هو حرية تعبير. لذا فإن الضوابط المذكورة في الاتفاقيات الدولية هي الملاذ الأمن للحريات والحصن الذي يوازن في ممارستها.
أثناء عملي في مهنة المحاماة حرصت على تضمين مذكرات الدفاع والشكاوى التي أقدمها ضد المتهمين كل ما يدعم موقف موكلي الإنساني، من معاهدات واتفاقيات دولية تنظم الخط الفاصل بين حرية التعبير وانتهاك حقوق الأفراد، ووقف خطاب الكراهية وابتزاز النساء إلكترونيا والإساءة بأنواعها في حق الأفراد؛ ذلك أنه يجب على المحامين اعتماد “الاتفاقيات الدولية” كأساس قانوني في صياغة المذكرات.
والتحدي يكمن في تشجيع المحامين على استغلال القنوات القانونية في إنفاذ حقوق الإنسان بدلا من عكوفهم على القوانين الوطنية دون غيرها؛ إذ في ذلك فقدٌ للحس الإنساني وانفصالٌ عن المنظومة القانونية الحقيقية التي التزمت بها الكويت، بل من واجب المحامي توجيه القضاء في ابتناء حكمه عن طريق رفع الدفوع التي تؤسس استنادا إلى الاتفاقيات الدولية وفيها ما يضمن حقوق وحريات الأفراد.
فلا يخفى عن الكثير عدد الاتفاقيات التي وقعت وصادقت عليها الكويت والتي تصف مصاف القوانين الملزمة في البلد الواجب اتباعها. وهنا تكمن وخزة مؤلمة أجدها حين أرى كثيرًا من المحامين يراعون القانون الوطني دون الدولي وتنحصر رؤيتهم للعدل في زاوية واحدة دون الأخرى. فما أجمل وأبدع الموازنة في العمل وما أطيب حصاد أحكامك إذا ما كانت محيّثة باتفاقيات دولية تعنى بحرية التعبير وتنظيمها.
ختاماً فإن الحقوق والحريات تحتاج إلى جهود أطياف المجتمع لصيانتها كجهود متكافئة، فعلى المرشحين لمجلس الأمة القادم أن يأخذوا على عاتقهم خلق القنوات القانونية التي تُفعّل حقوق الإنسان، وفي الجانب الآخر على المحامين استخدام أدواتهم القضائية في توجيه القضاء عن طريق تقديم الدفوع المرتبطة مباشرة بتمكين الحق في ذاته.
ومن هنا على المدافعين عن حقوق الإنسان الاستعانة بالخبرات الدولية من دول عربية لديها تجارب ناجحة في الحقوق والحريات مثل تونس ولبنان ومصر وعقد دورات تدريبية وورش عمل لفهم ماهية حرية التعبير وما الضوابط التي تعمل على صيانة هذا الحق والخطوط الحمراء العريضة التي تمثل الممارسة الصحيحة له.
ختاماً، كلي أمل بأن أرى زملائي المحامين يحذون حذواً إنسانياً في مهنة المحاماة.