تغلبت طهران في مواطن عديدة دبلوماسياً على الولايات المتحدة، ابتداءً من تحقيق انتصارها في إقرار الاتفاق النووي 2014 ورفع العقوبات الأممية، وانتهاءً بتجريد الولايات المتحدة من حلفائها الأوروبيين بشأن انسحاب إدارة ترامب من الإتفاق النووي 2016.
سياسة تجريد الخصم من حلفائه، إستراتيجيةٌ إيرانيةٌ للتعامل مع الصراع الإقليمي في المنطقة والعالم، كان آخرها التقدم الذي أحرزته في علاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة وإسهامها في تقويض هذه العلاقة للحد الذي ظهرت فيه الولايات المتحدة وحيدةً في مجلس الأمن لا تقف بجوارها سوى الدومينيكان بشأن طلبها تمديد العقوبات الأممية على الجمهورية الإسلامية أغسطس 2020.
طهران تجرّد السعودية من حلفائها في اليمن
طهران وحزب الإصلاح ورعاته الإقليميون: إن من المبكر القول عن وجود رويةٍ إيرانيةٍ تركيةٍ قطريةٍ مشتركة حول اليمن، حيث ما تزال قواها متصارعةً على الأرض، إلا أنه يمكن ملاحظة هذا التقارب من عدة نواحٍ.
تعمل طهران عبر مؤسساتها الدبلوماسية إلى جانب ضمان استمرار دعم جماعة أنصار الله الحوثيين على إيجاد صيغةٍ إقليمية جديدة لعملية السلام ومستقبل اليمن على غرار الشأن السوري، حيث تسعى لسحب البساط من تحت الأقدام السعودية التي تحاول الاستمرار في أداء دورٍ قياديٍ في عملية السلام اليمنية عبر إدارتها لاتفاقاتٍ جزئية سرية مع جماعة الحوثيين للتهيئة لعملية سلامٍ قادمة تكون المملكة مهندسه.
تركيا التي أعلنت وقوفها لجانب التحالف العربي في العمليات العسكرية التي أطلقها الأخير في مارس 2015، أصبحت أبعد من ذلك مع زيادة التوترات مع السعودية والانقسام الخليجي داخل مجلس التعاون وانسحاب قطر، الحليف الأقرب لتركيا في المنطقة الخليجية والعربية، من التحالف العسكري رغم استمرار جماعة الإخوان اليمنية (حزب الإصلاح) مع الجانب السعودي في الحرب.
أردوغان وفي مطلع الحملة العسكرية للتحالف السعودي سبق أن اتهم طهران بزعزعة أمن الشرق الأوسط واليمن مطالباً إياها بسحب قواتها من اليمن وسوريا والعراق مصرحاً “إيران تبذل جهوداً للهيمنة على المنطقة، كيف يمكن السماح بذلك؟” ما أتبعه اعتراض طهران واستدعاؤها للسفير التركي في بلادها.
أما اليوم وبعد تغيرات خارطة التحالفات داخل التحالف العربي وتراجع الكثير من حلفاء السعودية عن مواقفها بشأن، الحرب الدائرة في اليمن بعد خمسة أعوامٍ من اندلاعها، خرج ظريف في تصريحٍ مشترك مع وزير الخارجية التركي مؤخراً في يونيو 2020 مصرحاً بأن لدى بلاده وأنقرة الكثير من الرؤى المشتركة بشأن إنهاء الأزمة اليمنية، وهو ما ظهر سابقاً أيضاً في مجريات الأحداث العسكرية في اليمن، حيث صرح عضو المجلس السياسي محمد البخيتي أن قوات الحوثيين توقفت عن التقدم في معارك “نهم” مطلع العام بعد تدخل إحدى الدول العربية، مشيراً إلى قطر، فيما أعلنت قطر تقديمها لمساعداتٍ إنسانيةٍ عن طريق الحوثيين.
تلعب طهران دوراً جديداً لدعم عملية السلام من وجهة نظرها، في حين نجحت في تجريد السعودية عن شركائها في عملياتها العسكرية وداعمي قيادتها لعملية السلام في اليمن، والتي كان آخرها تغير الموقف الإماراتي بشأن طهران ومحاولتها لعب دورٍ متزن في علاقاتها الخارجية بين فرقاء المنطقة.
أغسطس 2018، وقعت الإمارات اتفاقاً أمنياً مع إيران في لقاءٍ رفيع المستوى يتبعه توسيع التعاون الدبلوماسي بين البلدين ولقاءاتٌ أمنيةٌ بين الطرفين كل ستة أشهر، فيما تتعامل أبوظبي بحذرٍ مع طهران وتتجنب قيادة المنطقة لصراعٍ مفتوح تكون هي على خط التماس فيه، حيث سبق وأن بذلت جهوداً مع الولايات المتحدة في منع اندلاع مواجهاتٍ مباشرة بين القوات الأمريكية وطهران العام الماضي، وأحجمت عن توجيه اتهاماتٍ لطهران حول الهجمات التي طالت سفناً وناقلاتٍ نفطية في موانئ إماراتية 2019، على العكس من الموقف السعودي الأمريكي وإسرائيل الذي اتهم طهران صراحةً بالوقوف خلف الهجمات، بالإضافة إلى أنها تبدي انفتاحاً في تعاملاتها التجارية مع جارها الفارسي على الضفة الأخرى.
من جهةٍ أخرى، يبدو أن الإمارات تضمن بهذه العلاقة أيضاً وتستشعر أهميتها من حيث تحييد أراضيها من بنك أهداف الصواريخ الحوثية التي لم تزر أبوظبي إلا في مناسباتٍ قليلةٍ جداً، منذ آخر زيارةٍ لها لأبوظبي. هذه الشواهد كفيلةٌ بإظهار تباين المواقف داخل التحالف العربي الذي ترأسه السعودية من الدور الإيراني في اليمن، لتظهر طهران أقوى في فرض رؤيتها لعملية السلام ومستقبل ما بعد النزاع.
الرؤية الإيرانية لعملية السلام في اليمن
السفير الأمريكي السابق في اليمن، جيرالد فايرستاين، في مقالٍ له على معهد الشرق الأوسط، يتحدث عن لقائه بظريف 2017، وسؤاله عن الرؤية الإيرانية لعملية السلام في اليمن وموقع طهران منها ونوع الدعم الذي ستقدمه لدعم العملية، مجيباً بإصرار طهران لإنهاء الصراع في اليمن والانخراط في عملية السلام، مضيفاً تأييد بلاده لرؤية وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري حول عزل الرئيس هادي وقيادة عملية سلامٍ جديدة لولا رفض السعودية لذلك.
السيد ظريف وفي تغريدةٍ أخرى له بداية الحرب أشار لمقترح إيران لإنهاء الأزمة في اليمن، تحت ما سمي بالنقاط الأربع المتمثلة في إيقاف العمليات العسكرية، تقديم المساعدات الإنسانية، رعاية حوارٍ يمنيٍ وتشكيل حكومةٍ من كافة القوى السياسية اليمنية.
ورغم تشكيك فايرستاين من حقيقة تمثيل رؤية ظريف لموقف غالبية المؤسسات الحكومية في طهران حول إنهاء الأزمة اليمنية وفق صيغة حلٍ سياسي، يظهر السعي الإيراني لإيجاد رؤيةٍ مشتركةٍ مع القوى الفاعلة والمؤثرة في المنطقة واليمن، تحافظ فيها على تمثيلٍ سياسيٍ منصفٍ للحوثيين في مرحلة ما بعد النزاع وصناعة قبولٍ دوليٍ إيجابيٍ بدور طهران في اليمن. رغم بُعد هذه الأهداف من التحقق الآن، إلا أن طهران قد قطعت فيها شوطاً طويلاً استطاعت فيه تحييد الكثير من القوى المشاركة في التحالف تزامناً مع التقدمات العسكرية للحوثيين في اليمن.
تحدياتٌ في طريق الدبلوماسية الإيرانية
طهران استطاعت تجريد السعودية الكثير من أوراقها الدبلوماسية في الأزمة المينية رغم استمرار الرفض الدولي إلى حدٍ ما لدورها في اليمن، لكن السؤال الأهم هل يمكنها المحافظة على هذا الدور في ظل التغيرات الإقليمية الحاصلة في مسألة التطبيع مع إسرائيل؟
العميد باقري، رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، صرح مؤخراً وعقب إعلان الإمارات العربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل عن تغيير طبيعة تعامل بلاده مع أبوظبي، معتبراً ذلك بمثابة خطوةٍ عدائية تهدد أمن الخليج الفارسي والأمن القومي الإيراني، محملاً الإمارات نتائج أي أحداث في مياه الخليج مهما كان حجمها.
الأمر الذي قد يُسهِم في تراجع مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ومواقفهما بشأن عملية السلام في اليمن ومرحلة ما بعد النزاع والاتفاق على صيغةٍ جديدة لتوازن القوى، لتظهر الدبلوماسية الإيرانية أمام امتحانٍ صعب في هذه المسألة بالذات، خصوصاً وأن دوافع التطبيع الإماراتي الإسرائيلي في المقام الأول هو الدور الذي تلعبه إيران في المنطقة.
من جهةٍ أخرى، تضارب المصالح الإيرانية التركية في أكثر من ملفٍ في قضايا المنطقة يعتبر عقبةً أمام إيجاد رؤيةٍ مشتركة تُسهِم في تعزيز موقف طهران في عملية السلام في اليمن، رغم أنها قد سبق وحققت تقدماً كبيراً في هذا الشأن بالمقارنة بموقف تركيا وقطر بداية الحملة العسكرية للتحالف في اليمن وفي الوقت الحالي، حيث يبقى تعليق الآمال والبناء على المساعي الدبلوماسية في هذا الجانب، رغم أهميتها لطهران، هشاً وقابلاً للانهيار في أي لحظة، خصوصاً أن لطهران تجربةً مريرةً مع أنقرة في الشأن السوري، بالإضافة إلى مدى تأثير تباين وجهات النظر وتضارب المصالح بين الاثنين في الملفات الإقليمية على تحقيق رؤيةٍ مشتركة حول الأزمة اليمنية تنتهي بالتأليف بين وكلاء الطرفين.
من زاويةٍ أخرى، تبقى مساعي طهران مع أصدقائها الإقليميين الجدد ودروها الدبلوماسي في اليمن معلقاً على مدى تبعية القوى الفاعلة في الصراع في اليمن ومدى قدرة كلٍ من تركيا وقطر في التأثير على أصدقائها، حزب الإصلاح، الذين يبدون منقسمين بين الولاء لتركيا وقطر وجماعتهم الدولية، الإخوان، وبين الإدارة السعودية للعملية العسكرية في اليمن وسيطرتها على الجماعة.
ومن جهةٍ أخرى تضاد المصالح الإماراتية التركية القطرية وتضارب أهدافها في اليمن، حيث وأن استهداف وكلاء الحرب الإسلاميين، حزب الإصلاح، يعتبر على رأس أهداف مشاركة أبوظبي العسكرية في الحرب اليمنية، فهل تستطيع الدبلوماسية الإيرانية خلق صيغةٍ جديدة تحقق توازناً بين مصالح مختلف الأطراف الدولية؟ وهل يمكنها إحراز قبولٍ دولي بدورٍ إيجابيٍ لها في اليمن؟ يبدو أن عملية السلام مازالت بعيدةً من التحقق.