إن تحديد مفهوم دقيق ”للشعبوية” لهو أمر صعب فالمصطلح لا يستخدم للتوضيح بقدر ما يستخدم للتنديد، وربما يعود ذلك أيضا لكون المصطلح غير مفهوم من أساسه، في حين يحدد قاموس “بوتي روبير” طبعة 2013 بأنها ” خطاب سياسي” موجه إلى الطبقات الشعبية، قائم على انتقاد النظام ومسؤولية من النخب”.
والظاهر للعيان أن مصطلح الشعبوية أو (populism) بالإنجليزية بات يتداول بشكل كبير في الأوساط السياسية وخاصة في الانتخابات الرئاسية، ويكاد لا يخلو أي نقاش سياسي أو نشاط اقتراعي عن هذا المصطلح الذي حاول الباحث الأمريكي “فلور باي” تقريبه على أن الشعبوية هي “البحث من قبل سياسيين يحظون بكاريزما عن دعم شعبي مباشر في خطاب عام يتحدى المؤسسات التقليدية الديموقراطية”.
ولقد أشارت موسوعة (britannica) إلى كون الشعبوية برنامج سياسي أو الحركة التي تدافع عن العامة، وغالبا عن طريق معارضة شعبية للنخبة بحيث غالبا ما تجمع بين عناصر اليسار واليمين المعارض للمصالح التجارية والمالية الكبيرة، كما أنها غالبا ما تكون معادية للأحزاب الاشتراكية وأحزاب العمال.
ولقد قدم الباحث الألماني “يان فيرنر مولر” تقديم تعريف أولي لهذا المصطلح الذي يطاله اللبس والغموض في كتابه “ما الشعبوية” الصادر من جامعة بنسلفانيا في العام (2016) بأنه “تصور أو متخيل أخلاقي للحقل السياسي، ينبني على تعارض بين مفهوم الشعب كوحدة أخلاقية نقية أو خالصة لكنها في نهاية المطاف متخيلة وغير حقيقية، وبين نخب فاسدة ومنحطة في الميزان الأخلاقي لذلك فإن العنصر الأساسي والضروري لكي نصف أحدا بالشعبوي ليس فقط التحدث باسم الشعب أو استعمال خطاب يمجد الشعب، بل هو الزعم بأن جزءًا من الشعب هو فقط من يعبر حقيقة عن الشعب وإرادته، وبأن الزعيم أو الحزب الشعبوي هو من يمثل هذه الإرادة.
ومن مظاهر الشعبوية السياسية نجد في العام (2016) انتخاب الأمريكيين للنجم التلفزيوني الرئيس الحالي “دونالد ترامب” وفي العام (2018) صوت الإيطاليون لصالح حزب تم تأسيسه من طرف الكوميدي “ببي قريلو” لتشكيل ائتلاف حكومي، وقبل شهرين أو أكثر من هذا انتخب الأوكرانيون “فلاديمير زلانسكي” وهو كوميدي رئيسا للبلاد وهي على حافة الانهيار وفي العام (2019) استطاع “موريس جونسن” نجم الترفيه البريطاني الوصول إلى رئاسة الوزراء.
والملاحظ أن الحركة الشعبوية التي تنامت في الأوساط الغربية هي في حقيقة الأمر ليست وليدة من فراغ، بل لها خلفيات عديدة نذكر منها ملف المهاجرين الذي أصبح من المشاكل الأكثر إلحاحا لدى مثل هذه الدول، وكذا نذكر تنامي الأحزاب اليمينية التي غالبا ما تروج هذه الشخصيات الشعبوية على أنها من التيار اليميني المتطرف والذي هو مغالٍ في تمييزيه العنصري وانحيازه للبشرة البيضاء وكذا المهاجرون والمواطنون من خلفيات عرقية أخرى و تنامي موجات الإرهاب العابر للقارات، كذا تراجع الوزن السياسي النخب لدى الجماهير.
لكن كيف تستطيع مثل هذه الشخصيات قليلة الخبرة والمعرفة السياسة من أن تنتصر في الساحة السياسية؟
إن الاجابة العامة على مثل هذا السؤال قد يكون “انتصار الصوت المرتفع على الخطاب الهادف”، وذلك لكون الخطاب الشعبوي يوجه للطبقات الشعبية المتوسطة ويخاطب المشاعر والأحاسيس ويبني آرائه على اللامسؤولية، في حين يتقيد الخطاب السياسي الأصيل بالرزانة والمسؤولية الكاملة على كل ما يقال أثناء الخطاب السياسي.
ومن بين أهم الأسباب التي أدت إلى تنامي الشعبوية في كل من أوربا وأمريكا يعود إلى كونه انتقادا للتمثيل السياسي وأي شيء يتوسط العلاقة بين الشعب وزعيمه أو حكومته، بحيث تسعى الجماهير إلى الدفاع عن مصالح المواطنين العاديين وزيادة سلطتهم إلى أقصى حد، ونظرا لفشل القوى السياسية التقليدية في تجسير الهوة بين المؤسسات الرسمية والسلطة وبين الشعب فقد أتيحت الفرصة للشعبوية في الصعود، وكذا تراجع الثقة في النخب السياسية لدى العامة قد أسهمت في فتح المجال أكثر للشعبويين في استمالة مشاعر وعواطف العامة من خلال الخطاب الشعبوي وخطاب الثورة الإصلاحية وحمل شعار محاربة القوى التقليدية السياسية وتحقيق أكبر قدر من السلطة والرفاهية للعامة من الشعب؟
كما أن قيام الشعبوية على نقد السلطة التقليدية وكذا النخب إلى كسب التأييد الجماهيري، لاعتبار أن ذلك يعني لدى الهيئات الناخبة خطوة نحو حل مشكلاتهم، وقيام الشعبويين على الضغط على هذا الوتر وكذا الكريزمة الشعبوية المسبقة لهم تكسبهم الأولية على الخطاب السياسي الهادف.
لكن هذا وحده لا يكفي لإكسابهم صناديق الاقتراع، إذ لابد أن نشير إلى دور جمعات الضغط أو “اللوبيات” التي أصبحت في الآونة الأخيرة ليست مجرد أطراف ضاغطة من أجل قضايا سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية فقط، بل أصبحت هي من تقود العمل السياسي بعد أن كان الدور المنوط بها هو الشورية الديموقراطية.
وبالإضافة إلى جماعات الضغط نجد أن للصحافة دورًا بارزًا في دعم الشخصيات الشعبوية للوصول إلى السلطة، وبالأخص القنوات الإعلامية الكبرى وكذا كبريات الجرائد المطبوعة في مثل هذه الدول، إذ تعمل على التركيز على مثل هذه الشخصيات والانحياز الكامل لها في بعض الأحيان كممارسة من ممارسات السلطة الرابعة “الإعلام والاتصال”.
حول موقع الشعبوية من الديموقراطية: هل تعززها؟ أم أنها تشكل خطرا عليها؟
تقوم “الشعبوية” على تصور للشعب غير متجانس مع ما هو كائن في الواقع، بحيث إن مثل هذه الحركات السياسية تدعي كونها الناطقة باسم بالشعب وأنها الجهة الوحيدة التي تفهم تصورات ومتطلبات الشعب، إلى الدرجة التي يخلط فيها الزعيم الشعبوي بين رؤيته الخاصة والتي يمكن أن يتوافق معها جزء من الشعب أو أكثر وبين رؤية الشعب في شكلها الشمولي.
وتكمن خطورة هذه الممارسة في كون الشعب في تصور الشعبوي الحامل لسمات معينة هو الشعب الصالح أو النقي، والقيام بإقصاء وتنميط جميع الأطياف الشعبية التي لا تتوافق مع تصور الشعبوي لطبيعة الشعب، وهذا ما يدفع الشعبويين إلى حتمية تأجيج الصراع والاحتقان في الساحة السياسية والاجتماعية بناء على تصور الصراع بين الفساد والنقاء – الشأن الذي يهدد على المدى البعيد الأمن القومي للدول وكذا الوحدة الوطنية وفتح المجال أمام الحوار الإقصائية.
لأن أي صراع سياسي يضفى عليه الطابع الأخلاقي والرمزي ينتج عنه تصور قائم على الفصل بين الأخلاقي وغير الأخلاقي، وبين الصافي والفاسد، وقد يصل إلى الحد الذي يتم فيه التفاضل بين الوطني وغير الوطني، الشأن الذي ينساق عن مثل هذا الخطابات الإقصائية نموا لخطاب نظرية المؤامرة والعدو الأجنبي… وغيرها.
كذلك من الممارسات التي قد تشكل خطرا على الديمقراطية التي تمارس من طرف الشعبويين نجد احتلالهم لأجهزة الدولة واستبدال الموظفين بمن يكنون لهم الولاء واستبعاد المعارضين السياسيين لهم ومعارضي الرأي، الشأن الذي يتولد عنه ما يسمى بالزبونية أي المناصب مقابل الولاء أو مقابل خدمات للشعبوي ونظامه.
كما نذكر الممارسة القائمة على التضييق على المنظمات غير الحكومية وهيئات المجتمع المدني بناء على التصور القائم على أن الشعبويين هم وحدهم المتحدثون باسم الشعب وهم وحدهم من يفهم متطلبات الشعب، ومن يدعي من دونهم ذلك ويخالفه الرأي يتم تنميطه، وإما أن يتم تصنيفه ضمن الخطاب المعادي للنخب الذي تتبناه الشعبوية وإما ضمن التقسيمة الاجتماعية التصورية والقائمة على النقاء ضد الفساد.
كما أن الأركان التي تقوم عليها ” الشعبوية” والتي قدرت بثلاثة أركان نجد أنها قد تشكل خطرا على الديمقراطية نظرا لكونها مرتكزة على معدات النخب لاستقطاب الجماهير، وكذا نفي التعدد لإضفاء الصبغة الشرعية والشعبية والوطنية لها ومنعها على كافة الشركاء السياسيين، وكذا خطاب الإقصاء الذي ينافي مبادئ الديموقراطية.
لكن ومع ذلك لا يمكن وصف الشعبوية بالسلطوية والديكتاتورية نظرا لانتمائها إلى الركب الديموقراطي القائم على السلطة الشعبية وسلطة القانون وحقوق الإنسان، وكذا عدم منعها وتعرضها المباشر لحقوق الرأي والإعلام والصندوق والاقتراع باعتبارها أحد دعائم الديموقراطية.
وفي الأخير يجدر بنا أن ننوه إلى أن صعود الشعبوية السياسية ليس بالشيء السلبي المطلق، بل هو نوع من أنواع التعبير على السلطة الشعبية حيث يكون للنشاط السياسي مساحة من الديمقراطية والشفافية، ولعل ذلك يعبر أيضا على قمة النضج الديمقراطي الشأن الذي يدع العمل السياسي وحرية اختيار الممثلين لسلطة الشعب وحده.
والشيء المؤسف أنه لم نتمكن من رصد تجارب عن الشعبوية في الدول المغاربية والشرق أوسطية، لأن العمل السياسي في مثل هذه الدول ملغم، ويفتقر لأدنى مستويات الديمقراطية والشفافية، في ظل أنظمة شمولية تجعل من العمل السياسي والحزبي في مثل هذه الدول لا يكاد يكون مجرد كرنفال موسمي رتيب وممل بحيث أن نتائجه تحصيل حاصل فدائما ما يفوز مرشح السلطة بفعل صناديق مزورة.
مزيدا من التألق