علاء حميد إدريس باحث عراقي في مجال الأنثروبولوجيا، حاصل على درجة الدكتوراة من جامعة الإسكندرية بدراسة بعنوان “حدود الاندماج والتباين بين الجماعات في العراق: العرب، التركمان، الأكراد الفيلية”. يقدم “حميد” في دراسته لرصد، وتفكيك، وتحليل للعلاقة الإثنية والمذهبية في المجتمع العراقي، وتأثيرها في الواقع السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والديني خاصة في مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام حسين. حاورت “مواطن” علاء حميد إدريس عن رؤيته للتحديات والفرص التي تواجه المجتمع العراقي، كذلك ناقشنا “حميد” حول دور علم الأنثروبولوجيا في فهم، وإدراك الأسباب التي صنعت واقعًا عربيًّا مأزومًا سياسيًا، واجتماعيًا، وعقائديًا.
- في النموذج العربي والإسلامي كانت الهوية متخيلًا سياسيًّا لمقارعة الغرب.
- قضية تجديد الخطاب الديني تعبر عن عمق الأزمة العربية والإسلامية في كيفية معرفة ما نمر به من أزمات.
- المخيلة العربية وضعت العراق في لحظة تاريخية وجمدته فيها وهي لحظة الصراع العربي–الفارسي.
- حملت ثورات الربيع الكثير من المتناقضات فهي حركات جاءت نتيجة تحولات في نمط التواصل الاجتماعي وتأثير العامل الديموغرافي.
حاوره: إسلام أنور
1- في ظل سؤال الهوية المطروح بقوة على مجتمعاتنا العربية ما مدى إسهامات الأنثروبولوجيا في فهمنا للهوية واحترامنا للتنوع الثقافي؟
قبل كل شيء أظن أن معظم الطروحات التي دارت عن الهوية يغلب عليها الجانب السياسي على حساب الثقافي وهذا ما جعل الهوية تصبح مطلبًا سياسيًّا قائمًا على مقولة “هم ونحن”. في النموذج العربي والإسلامي كانت الهوية متخيلًا سياسيًّا لمقارعة الغرب وهذا لا يعني نفيها وتجاوز حضورها في حاجة الشعوب لصيانة خصوصياتها الاجتماعية والثقافية.
لقد مر على الشعوب العربية والإسلامية مرحلة تاريخية كان مطلب الهوية مدخلا لقمع الآخر المختلف دينيا واجتماعيا وهذا ظاهر في مرحلة الستينيات من القرن الماضي ، كما لا نغفل دور الصراع العربي – الإسرائيلي في التأثير المباشر وغير المباشر في دفع السلطة والمجتمع إلى تبني هوية ذات بعد تاريخي أيديولوجي. في الثقافة العربية ركزنا على الهوية وأغلقنا التنوع وهذا ملموس في اقترابنا من لحظة تاريخية يختفي فيها هذا التنوع ويتحول الى ذاكرة وماضٍ ولهذا دعنا نتساءل كم بقي من أفراد الجماعات الإثنية والأديان والمذاهب المختلفة في مجتمعاتنا العربية؟
2- قضية تجديد الخطاب الديني واحدة من التحديات الأساسية التي تدور في فلكها المجتمعات العربية منذ أكثر من قرن مضى، برأيك ما مدى استعداد مجتمعاتنا العربية لتقبل رؤية مغايرة للدين؟
قضية تجديد الخطاب الديني تعبر عن عمق الأزمة العربية والإسلامية في كيفية معرفة ما نمر به من أزمات، وهي أيضا جاءت على ضوء ردة فعل لما تقوم به الجماعات المتطرفة بمعنى لو لم تقم به هذه الجماعات فهل نجد مطلب تجديد الخطاب الديني حاضرًا في نقاشاتنا وكتابتنا؟ دعنا نستدعي أطروحة المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي حول “التحدي والاستجابة” في معرفة حركة التاريخ للمجتمعات التي تواجه أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، لهذا لغاية الآن لم نتمكن من ضبط العلاقة بين التحدي والاستجابة فيما تواجهه من أزمات.
الغريب أن الاطلاع على نصوص التراث الإسلامي تكشف لنا طروحات غاية في الجرأة والأهمية بعيدا عن إعادة طرح نموذج المعتزلة وإنما هناك نصوص أخرى كانت لديها تصورات تقارب عمق الأزمة. إن طرح رؤية مغايرة للدين متوقف على قضيتين أساسيتين الأولى تحديد نمط علاقة السلطة بالمعرفة في النموذج العربي والإسلامي والثانية فهم الدين ضمن سياقه الثقافي وهذا يعيدنا لمعنى العلاقة بين الزمان والمكان في بناء التصور الديني عن الحياة والمجتمع والسلطة.
3- كيف ترى واقع العراق بعد 17 عام من رحيل صدام حسين و10 أعوام من رحيل قوات الاحتلال الأمريكي؟
الواقع العراقي بعد 2003 دخل في متاهات الصراعات المحلية والإقليمية؛ أولا هناك غياب لتصور عربي متوازن عما يجري في العراق وكل ما ينتج من تصورات هي واقعة تحت تأثير الصراعات الإقليمية. ربما كشف انهيار النظام السياسي عن العودة إلى ما يسمى المربع الأول: البحث عن إنتاج دولة تتكفل بإدارة تناقضات الوضع العراقي والأزمات التي تدور فيه.
المؤلم أن الإعلام العربي ركز على النظام السياسي ونسي المجتمع العراقي دون الاقتراب منه وفهم ما يجري فيه من تنوع وتعدد ثقافي واجتماعي، هناك صور نمطية أنتجت منذ 2003 ولغاية اليوم، على الرغم من محاولات لفهم مستقلة لما جرى في العراق كما في فيلم “عين الشمس” للمخرج إبراهيم البطوط وبعض جهود الباحثين والكتاب الذين يبحثون عن الحقيقة.
المخيلة العربية وضعت العراق في لحظة تاريخية وجمدته فيها وهي لحظة الصراع العربي–الفارسي لتصبح هذه اللحظة مدار فهم لأغلب الذين يتناولون الشأن العراقي، بعد رحيل الأمريكان عاد الصراع من جديد على من يؤثر في الوضع في العراق ما يجري في الداخل أو ما يدور في الإقليم وأعني به الجوار العراقي والدول الفاعلة فيه.
في العراق اليوم مجموعة توجهات واحتجاجات تسعى لتغيير الواقع وتخطي الأزمات وهناك تطلعات لفئات منها الشباب أخذت تعي ثقل الأزمة ومخرجاتها، لهذا من يريد معرفة العراق فعليه البحث عن توصيف دقيق يتخطى هاجس المذهبي والسياسي وكأننا أمام مطلب فهم غير متحيز.
4- بعد (10) سنوات من ثورات الربيع وما تلاها من متغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية كيف ترى المشهد العام في الوطن العربي الآن؟
حملت ثورات الربيع الكثير من المتناقضات فهي حركات جاءت نتيجة تحولات في نمط التواصل الاجتماعي وتأثير العامل الديموغرافي، كذلك فقد عبرت عن توقف صلاحيات النظام السياسي العربي الذي نشأ منذ مرحلة الاستقلال. ولكنها لم تتمكن من ديمومة التواصل مع مطالب تلك الحركات. فضلا عن ذلك، قُيِّدَ مطلبها في جانبه السياسي فقط دون بقية الجوانب الأخرى وكأنها تعيد علينا تساؤلات الماضي من أين يبدأ التغيير؟ من الأعلى أو من الأدنى؟ بتعبير آخر، أيهما أولى الإصلاح أو الثورة؟
ما يؤشر على ثورات الربيع العربي وقوعها في مأزق ضيق وسعي دول وجماعات إلى احتكارها وادعاء رعايتها لها. ما قدمت تلك الثورات أنها إعادة إنتاج الأسئلة من جديد وكشف عن توقف العقل العربي عن إنتاج أجوبته والدوران في تصورات ضيقة مذهبية وطائفية. كذلك هذه الثورات امتلكت شعارها ولم تمتلك مرجعية فكرية بمعنى غياب النص الفكري الذي يحدد شكل الدولة والمجتمع في نماذج مختلفة سبقت الثورات حركة فكرية طرحت معنى الحقوق والحريات نمط العلاقة بين الدولة والمجتمع ومكانة الدين في صياغات العلاقات الاجتماعية، وهذا شبه غائب عن ثورات الربيع العربي.
5- رغم الدور المهم الذي تلعبه الدراسات الأنثروبولوجية في واقعنا المعاصر، لكن طالما تردد سؤال حول إلى أي أسهم علماء الأنثروبولوجيا الأوائل بأبحاثهم في دعم السياسات الاستعمارية؟
الإجابة عن هذا السؤال تحيلنا إلى مراجعة علاقة السلطة بالعلم وكيفية توظيفها لتعزيز رؤيتها لإدارة المجتمع، لهذا فالبدايات الأولى لتأسيس الأنثروبولوجيا جاءت كنتيجة لحاجة الاطلاع على ثقافات الشعوب ومعرفة قيمها ومعاييرها الاجتماعية وهذه الحاجة لم تكن ذات نوايا حسنة وإنما لتحقيق الهيمنة والتحكم بمصائر تلك الشعوب، لكن علينا الانتباه الى عدم الانزلاق إلى صياغة توصيف للعلم دون فهم مسيرة تطوره إذ لم تبقَ الأنثروبولوجيا العلم الطيع بيد السلطة وإنما شهد تحولات كبيرة في موضوعه وتاريخه العلمي بدليل أن الأنثروبولوجيا وباحثيها علمت على دحض مقولة “المركزية الأوروبية ” وأسطورة الرجل الأبيض وعلو ثقافته وهذا واضح في جهود الأنثروبولوجي المعروف كلود ليفي ستروس في كتابه “العرق والتاريخ”.
لقد كانت الأنثروبولوجيا مدخلا لإعادة اكتشاف التنوع وأهمية الاختلاف، لهذا نجد اليوم البحوث الأنثروبولوجية تعزز من دحض مقولات فكرية نشأت في أربعينيات القرن الماضي من ضرورة تحضر المجتمعات التقليدية لكي تقبل الحضارة المعاصرة التي تقوم على مقولات الثقافة الغربية وتقييم التخلف والتقدم. منذ سبعينيات القرن الماضي والأنثروبولوجيا تخطو خطواتها العلمية خارج هيمنة السلطة بشكل واضح لاسيما مع ظهور أبحاث عن المجتمعات في آسيا والشرق الأوسط، وظهرت مراجعات واسعة بعد إصدار كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد وتحليل لخطاب تصور الشرق في الثقافة الغربية.
ما يخص تحرر الأنثروبولوجي من سطوة القوى الاستعمارية، علينا أولا النظر إلى تغير معنى الاستعمار وتحوله من قوى مادية عسكرية تمارس هيمنتها بشكل مباشرة إلى قوى ناعمة، أو ما يصطلح عليه في الشرق الأوسط “الغزو الثقافي”، وهذا فتح المجال أمام الأنثروبولوجي بعيدا عن السلطة من رصد خطاب قوى الاستعمار والدلالات التي يقيم عليها خطابه. لهذا أخذت تظهر مؤلفات أنثروبولوجية تعبر عن دور الأنثروبولوجيا في تحليل آليات الهيمنة وتدعو إلى معاينة الاختلاف والتنوع وهذا ما أثبته الأنثروبولوجي الأمريكي “كليفورد جرتيس” في بحوثه الميدانية في اندونيسيا والمغرب.