نعيد نشر هذا المقال بالتعاون مع موقع ”رصيف 22“
في الصورة الذهنية عن منطقة الخليج لا وجود لمفردة الشيوعية، وكأن المنطقة عبرت فترة النصف الثاني من القرن العشرين دون أن يصلها المدّ الأحمر، أو خطاب القومية العربية، أو مفردات التحرر من الاستعمار، إلا أن الحقيقة غير ذلك.
فمن رحم الحراك القومي واليساري في الخليج كافةً، خرجت ثورة ظفار في سلطنة عمان في ستينيات القرن العشرين، لتصبح الثورة الشيوعية الوحيدة في تاريخ الخليج التي نادت بتغييرات جذرية في البُنى القبلية والاجتماعية والاقتصادية، وحاربت الاستعمار البريطاني، والأمراء والمشايخ المرتبطين به.
تابعية ظفار
ظفار هي الإقليم الجنوبي من سلطنة عمان، وتقع على شاطئ البحر العربي، غربي مسقط على الحدود مع اليمن، وتحدها شمالاً السعودية، ومن مدنها الرئيسية صلالة والحصن وسدح، بحسب ما ورد في كتاب “ظفار: شهادة من زمن الثورة” لفواز طرابلسي.
وفق إحصاء سنة 1968، بلغ عدد سكان الإقليم ما بين 100 و200 ألف نسمة، من مجموع 1.5 مليون نسمة عدد سكان سلطنة عمان. ويتشكل الإقليم من تجمعين قبليين كبيرين هما آل قرّى وآل كثير، وعدة قبائل أصغر حجماً ومكانةً منها المهرة والشحرة والبوطهرة، كما ضم التكوين السكاني لظفار سكاناً من أصول أفريقية، كان منهم عبيد، كما نقل طرابلسي.
عاشت عمان في عهد السلطان سعيد بن تيمور (1932-1970)، والد السلطان الراحل قابوس، في تخلّف شديد فرضه السلطان على البلاد، خصوصاً في إقليم ظفار، لإيمانه بمعادلة كلما زاد بؤس السكان زاد خضوعهم، وتعامل السلطان مع الإقليم على أنه “مزرعة” خاصة له، بينما كان الدليل الرسمي للسلطنة (عام 1965) يصفها بـ”تابعية ظفار”، حسب كتاب طرابلسي.
اهتم سلاطين عمان بالسيطرة على الساحل، وتركوا المناطق الداخلية في وضع شبه مستقل، مع تبعية اسمية لا تُستخدم إلا في النزاعات الحدودية مع السعودية والإمارات. فحكمت الإمامة الإباضية المنطقة الوسطى في الداخل حتى سنة 1955. ثارت الإمامة مرات عدة على سلاطين مسقط وعمان (اسم سلطنة عمان فقط أصبح رسمياً سنة 1970 في عهد قابوس)، آخرها ثورة 1957 التي أُخمدت بدعم بريطاني عسكري، حيث كانت بريطانيا ترتبط بمعاهدات دفاع عن السلطنة منذ 1798، في إطار خطتها لحماية مستعمراتها في الهند.
”سنة 1965، أُعلن قيام “الجبهة الشعبية لتحرير ظفار”، بعد تلقي تدريبات على يد العراق، وتأييد مجموعات قبلية لها. وفي مؤتمر شعبي، أعلن زعماؤها أهداف الثورة الظفارية بتحرير الإقليم، ومحاربة البطالة والفقر والجهل والمرض“
وقعت معاهدة عسكرية بريطانية – عمانية جديدة سنة 1958، وفرّ آخر الأئمة الإباضيين غالب بن علي، وشقيقه القوي طالب، والزعيم القبلي سليمان بن حمير، إلى السعودية التي كانت على خلاف حدودي في ذلك الوقت مع السلطنة حول واحة البريمي، وفق كتاب “تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر” لجمال زكريا قاسم.
في تلك الفترة، تغلغل المدّ القومي العربي إلى مناطق الخليج، وتحمّس له كثيرون رأوا فيه فرصةً للتخلص من السيطرة البريطانية، ونفوذ المشيخات الموالية لها، وتسربت الأفكار اليسارية إلى الخليج كافةً، فوُجدت تنظيمات قومية ويسارية عدة، خصوصاً في الكويت المتقدمة – حينها – في جميع المناحي الحياتية.
ساهمت عدة أحداث، بجانب ذلك، في تفجر ثورة ظفار أهمها حالة التخلف الشديد المفروضة على عمان، والإقليم خاصةً، والتي وصلت إلى حد إفقار ممنهج للسكان بفرض ضرائب جمركية بلغت 300% على حركة التجارة الداخلية، ومنع شراء السيارات، أو الاستماع إلى أجهزة الراديو، ومنع السفر إلى الخارج إلا بإذن خاص منه، وحظر البناء وشراء الآلات الزراعية، وانعدام تام للخدمات العامة، إذ لم يكن في مسقط نفسها سوى مدرسة ابتدائية واحدة حتى سنة 1966، ومدرسة واحدة في صلالة، عاصمة إقليم ظفار، وكان هدفهما تخريج كتبة بسطاء للدوائر الحكومية، حتى أن السلطان سعيد رفض عرضاً كويتياً بإنشاء مدارس في السلطنة سنة 1953، وفق كتاب “تاريخ عمان السياسي” لعبد الله بن محمد الطائي.
منع السلطان سكان مدن ظفار من التدخين وتناول الكحول وركوب الدراجات ولعب كرة القدم وفتح المطاعم وبناء الحوانيت وقص الشعر وانتعال الأحذية وارتداء السراويل. شهدت البلاد في عهد السلطان سعيد هجرات جماعية من المواطنين الذين ارتحلوا إلى البلدان المجاورة طلباً للقمة العيش ولو بأبخس الأثمان وأوضع الوظائف”، كما يقول الطائي في كتابه.
وساهمت الهجرات في تعرّف العمانيين على مسار التحديث في البلاد الخليجية المجاورة، واطلاعهم على الأفكار القومية. زادت وطأة القمع باتخاذ السلطان سعيد من مدينة صلالة في ظفار، مقراً له، لينعزل عن شعبه، تاركاً الأمر لمستشاريه الإنكليز.
بجانب ذلك، مثّل اكتشاف النفط في عمان، ومن بينها إقليم ظفار، سنة 1963، القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للظفاريين، إذ شهدت تلك السنة رفض السلطان لمطالب وفد من قبائل ظفار بتحسين أوضاع الإقليم، فكان رده التجاهل التام، وتشديد قبضته بحرمان أهل ظفار من العمل في مشاريع النفط في أراضيهم.
علاوة على ذلك، كانت هناك مشاكل الوجود البريطاني في السلطنة، وسيطرة بريطانيا على السياسة الداخلية والخارجية والنفط، إذ لم يكن لعمان تمثيل سياسي مستقل حتى سنة 1970، إلا أن هذا العامل أي التحرر من الاستعمار لم يكن الشرارة الأولى لثورة ظفار، بل دخل مع اشتراك القوميين واليساريين في الحراك لاحقاً.
شرارة الثورة
انضوى كثير من المهاجرين الظفاريين في الخليج ضمن حركة القوميين العرب في الخليج، وفي سنة 1962 انشقت مجموعة من الفرع الظفاري، وأسست الجمعية الخيرية الظفارية التي عملت بحجة بناء المساجد ومساعدة الفقراء على جمع المال وإجراء الاتصالات وضم الأعضاء من أجل تنظيم معارضة مسلحة ضد حكم آل بو سعيد، حسب ما ورد في كتاب طرابلسي.
وذكر طرابلسي كذلك أن الجمعية الخيرية اندمجت مع فرع حركة القوميين العرب الظفاري ثم مع منظمة الجنود الظفاريين، وهي مجموعة من الخلايا السرية العاملة في جيوش السلطنة والسعودية وإمارات الخليج، مؤسسين سنة 1964 جبهة تحرير ظفار، وعلى رأسها لجنة خماسية مشتركة مسؤولة عن التهيئة للكفاح المسلح.
إلا أن شرارة العمل المسلح تسبق ذلك إلى سنة 1963، بهجوم مسلم بن نفل من قبيلة الكثيري، على سيارات تابعة لشركة ميكوم الأمريكية التي تنقب عن النفط، وكان ميكانيكياً لدى السلطان، وعلى إثر إطلاق سراحه توجه إلى السعودية واتصل بالإمام الإباضي غالب بن علي في منفاه بالدمام، ليصبح حلقة الوصل بين العناصر القبلية المتذمرة والحراك الظفاري.
في سنة 1965، أُعلن عن قيام “الجبهة الشعبية لتحرير ظفار”، بعد تلقي عناصرها تدريبات على يد العراق، وقوي موقف الجبهة بضمان تأييد مجموعات قبلية لها. وإزاء استناد الجبهة على التأييدين الداخلي والخارجي، دعا زعماؤها إلى عقد مؤتمر شعبي سنة 1965 بإعلان قيام الثورة الظفارية التي حددت أهدافها بتحرير الإقليم، ومحاربة البطالة والفقر والجهل والمرض، وإقامة حكم وطني ديمقراطي انتماؤه القومي عربي ودينه الإسلام.
ومنذ ذلك التاريخ، بدأت الثورة الظفارية في 9 حزيران/ يونيو 1965، باستهداف منشآت النفط الأمريكية، وفي العام التالي جرت محاولة لاغتيال السلطان سعيد من قبل جنود ظفاريين في حرسه الخاص، ويتبعون الجبهة، وعلى إثر ذلك احتجب السلطان في قصره، الأمر الذي جعل العمانيين يعتقدون أنه قتل وأن البريطانيين هم من يحكمون السلطنة، وفق مرجعَيْ طرابلسي وقاسم.
عقب الحادث شدد السلطان قبضته على الإقليم، وقيد حركة سكانه بمنع السفر للخارج، ما أدى إلى فرار الكثيرين إلى الجبال، أو انضمامهم للحركات المناوئة التي تصدت لزعامتها الجبهة الظفارية. حتى سنة 1967، لم تكن الأيديولوجية الماركسية هي الرسمية للجبهة، بل خليط من نزعات انفصالية قبلية غير معلنة، وأيديولوجيا قومية عربية مستترة، يقول طرابلسي.
تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ومنح امتياز النفط لشركات أمريكية كانا وراء استياء قبيلة الكثيري الكبيرة من السلطان سعيد، إذ كانت تطمح لاستكشاف النفط لحسابها، وعندما لم يتحقق ذلك دعمت الثورة ضده، دون أن يكون لها أيديولوجية قومية أو يسارية، وفق قاسم.
لم يكن ممكناً لتجمع الجبهة المتنوع الأهداف أن يستمر، وكان الوضع مهدداً بالانفجار، بين النزعات اليسارية والقومية والقبلية والدينية، وهو ما حدث عقب هزيمة حزيران/ يونيو 1967 التي مثّلت هزيمةً للمشاريع القومية.
هزيمة 1967 والانعطافة اليسارية
لم تنفصل الثورة في ظفار عن الوضع الخليجي والعربي والدولي، فتأثرت بتغيرات الأحداث فيها. شهدت سنة 1967 أحداث كبرى أدت إلى تغيير جوهري في القوى المسيطرة على الثورة، تمثّلت في هزيمة المشروع القومي في حزيران/ يونيو، وانسحاب مصر من اليمن الشمالي، وتخليها عن دعم الجبهة، وصعود الجناح اليساري في الجبهة القومية في اليمن الجنوبي، وسيطرته على السلطة عقب رحيل بريطانيا، وتخلي السعودية عن دعم الجبهة بعد صعود خطر اليسار في اليمن الجنوبي، وتسوية مشكلة واحة البوريمي، وفق قاسم.
عقدت الجبهة المؤتمر الثاني في وادي حمرين، وسط ظفار في أيلول/ سبتمبر 1968، والذي شهد سيطرة اليساريين. خرج المؤتمر بقرارات جذرية تضمنت تبني برنامج ماركسي لينيني، والوقوف ضد الإمبريالية والرأسمالية والدعوة إلى تغيير الأنماط العشائرية والإقطاعية. ولعلّ أهم ما قرّره المؤتمر هو إعلان امتداد الثورة إلى الخليج العربي، وتغيير اسم الجبهة إلى الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي المحتل.
”التفاوت بين قاعدة المجتمع الظفاري وبين محركي الثورة هو الذي حقق للسلطان قابوس النجاح في قمعه لتلك الحركة التي كانت لا تتناسب مع طبيعة الإقليم المحافظة“
خلال المؤتمر قرر المجتمعون أن سبب هزيمة الأنظمة القومية هو كونها نخب برجوازية، وقرروا تعليق عضوية تنظيم الكويت القومي الذي كان له دور قيادي، بعد وصمه بأنه تنظيم برجوازي شبيه بنظام ناصر ونظام البعث. وتولت “الحركة الشعبية”، وهي الحزب اليساري، قيادة الجبهة وسائر الجبهات في الخليج وعمان.
مذاك، ارتبطت الجبهة باليمن الجنوبي الذي دعمها بالأسلحة وقواعد التدريب العسكري والأيديولوجي والمساعدات الطبية والاجتماعية، فضلاً عن القنوات الدبلوماسية والإعلامية، وتخصيص محطة إذاعية تبث من المكلا للجبهة، وكانت سفارة اليمن الجنوبي في الكويت صلة الوصل بين الجبهة الظفارية والكوادر المنتمية إليها من منطقة الخليج العربي، إذ كان هدف القيادة اليمنية الجنوبية هو تصدير الثورة إلى إمارات الخليج، وفق كتاب طرابلسي.
أخذت الأهداف اليسارية للحركة تتضح عندما عاد بعض زعمائها من بكين حيث كانوا في دورة تدريبية، وعقدوا مؤتمراً حزبياً في حزيران/ يونيو 1969، تفرّعت عنه لجان وتشكيلات راديكالية، حسب قاسم. بقدر ما عزّز ذلك التحول من موقف الثورة العسكري والأيديولوجي، إلا أنه تسبب في زرع بذور الشقاق داخل مكونات الجبهة، وتهيئة الوضع لانشقاقات كبيرة، كانت تنتظر اللحظة المؤاتية التي ظهرت سنة 1970، عقب انقلاب قابوس على والده. يقول طرابلسي: “رُكّب مشروع تحرري تغييري لكامل منطقة عمان والخليج لما تسلّم قيادة الثورة تيار اليسار في حركة القوميين العرب، بُعَيد سنة 1968”.
ترتيبات الانسحاب البريطاني وانقلاب قابوس
شنّت الجبهة الجديدة هجمات قوية ضد السلطان، وسيطرت على مواقع هامة في إقليم ظفار، وامتد نشاطها إلى شمال عمان، وسيطر ثوار تابعون لها على مدن نزوي وإزكي وغيرها في الجبل الأخضر، مُشكّلة تهديداً خطيراً على سلطة السلطان ومن ورائه المصالح البريطانية، وتزامن مع قرب تنفيذ قرار بريطانيا بتحديد نهاية سنة 1971 للانسحاب العسكري من الخليج العربي.
عملت بريطانيا على إحداث عدة ترتيبات في منطقة الخليج قبيل الانسحاب، من بينها تسوية المطالبة الإيرانية بإمارة البحرين، والإطاحة بالحكام الرجعيين لصالح حكام أكثر استنارة وقدرة على النهوض بمجتمعاتهم لوقف التغلغل اليساري في المنطقة.
إلا أن ذلك لا يعني أن الانقلابات التي شهدتها المنطقة كانت بريطانية خالصة، بل التقاء مصالح بريطانيا معها، وفي إطار ذلك جاءت إطاحة الشيخ زايد بن نهيان بأخيه الشيخ شخبوط من حكم إمارة أبو ظبي سنة 1966، وعزل الشيخ أحمد بن ثاني حاكم قطر وتولية الشيخ خليفة بن حمد سنة 1971، وفق مرجع زكريا.
لم يكن حكم السلطان سعيد يلقى قبولاً بين جميع أفراد الأسرة الحاكمة، فابنه قابوس ذاته كان رافضاً لسياسة أبيه، ويرى أنها سبب تفجر الوضع في ظفار والجبل الأخضر، وأخيه طارق بن تيمور (والد السلطان الحالي هيثم بن طارق) كان هو الآخر مقيماً في أوروبا ومعارضاً لأخيه. فضلاً عن ذلك لم تكن بريطانيا راضية عن نهج السلطان سعيد، فالتقت مصالحها مع الابن قابوس، وجرى خلع الأب سنة 1970، وتولية الابن سلطاناً.
فور تسلم السلطان قابوس شرَعَ في مواجهة الثورة في ظفار، متبعاً خطة جديدة تقوم على الجمع بين الوسائل السياسية المرنة والوسائل العسكرية، فأصدر عفواً عاماً عن جميع رعايا السلطنة المعارضين لحكم والده، وعفواً عمّن يُلقي السلاح من مقاتلي الجبهة، مع منحه مكافأة مالية حال تسليم سلاحه، وتوظيفه في الجيش بعد عامين شرط ثبوت ولائه.
قام السلطان قابوس بإنهاء الوضع الانعزالي لظفار بإعلانها الولاية الجنوبية، وتغيير اسم السلطنة من سلطنة مسقط وعمان إلى سلطنة عمان. وقدّم وعوداً للجبهة بتلبية مطالبها في إطار برنامج إصلاحي، كما أعلن عن خطة شاملة للتنمية بهدف إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في السلطنة عموماً وفي ظفار بوجه خاص.
من جهة ثانية، ألغى قابوس الإجراءات التعسفية لوالده، وشرع في الانفتاح على الدول العربية فانضم إلى جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة. عسكرياً، عمل السلطان على قطع خط إمداد الجبهة مع اليمن الجنوبية بشن عمليات عسكرية للسيطرة على غرب ظفار، وتخصيص نصف الميزانية الحكومية لتسليح وتحديث الجيش.
كان لتلك الإجراءات صدى كبير بين الظفاريين، ومنحت رجال القبائل المحافظين – المعارضين للخط الماركسي – فرصة للخروج عن هيمنة الماركسيين. عقدت الجبهة مؤتمرها الثالث عقب تلك الأحداث، فهيمن المحافظون عليه واتفقوا فيه على التوقف عن كل نشاط ماركسي واحترام التعاليم الإسلامية وتشكيل لجان تحقيق مع المرشدين العقائديين المتطرفين، حسب ما جاء في كتاب قاسم.
وعندما تبيّن للمحافظين عدم التزام الماركسيين بتطبيق الاتفاق، بدأوا في الانفضاض عن الجبهة وتسليم أنفسهم لقوات السلطان، فواجه الماركسيون الأمر بإصدار قرارات إعدام بحق كل من يستجيب للعفو العام، وتم إعدام 40 شخصاً، إلا أن أعداد المنسحبين تزايدت ولم يكد يمضي وقت طويل حتى سلّم ألفا مقاتل أنفسهم، وعلى رأسهم مسلم بن نفل (أحد مؤسسي الجبهة)، وانخرطوا في قوات السلطان، بينما انشقت الجمعية الخيرية الظفارية (أحد الكيانات المؤسسة للجبهة) لتنضم إلى قوات السلطان قابوس.
أدت تلك التحولات إلى تجذير الطابع الماركسي للجبهة، فنشطت في عملية التغيير الاجتماعي في إقليم ظفار، وأعلنت الحرب على القبلية.
الدعم الأجنبي للسلطان والجبهة
عقب المؤتمر الثالث، تبنت الجبهة برنامج العمل الوطني الديمقراطي سنة 1971، وشمل مجال عمل الجبهة في مختلف الأصعدة الخليجية والعربية والدولية، وهدف إلى تحقيق وحدة المنطقة السياسية وبناء ديمقراطية شعبية والقضاء على التخلف، والتعاون مع الحركات الثورية العربية والعالمية.
تلقت الجبهة الدعم من اليمن الجنوبية وعدد كبير من الكوادر اليسارية العربية الذين ساهموا في إعادة تنظيمها، كما حصلت على دعم كبير من الصين، بلغ مداه سنة 1972 بإرسال خبراء إلى اليمن الجنوبي لتدريب ثوار الجبهة على حرب العصابات، واستقبال بكين لعدد من القيادات لتأهيلهم فكرياً، إلا أنها تخلت عن الجبهة بشكل مفاجئ سنة 1973، لرغبتها في التواصل مع الأنظمة العربية وإيران، وحلّ محلها الدعم السوفييتي.
وتلقت الجبهة كذلك دعماً بالسلاح والتدريب من كوبا وألمانيا الشرقية وكوريا الشمالية وفيتنام الشمالية وتشيكوسلوفاكيا والجزائر والعراق وتنزانيا، وتميز الموقف الكويتي بالاعتدال بين السلطان والجبهة، فنشطت جهات غير رسمية في دعم إقليم ظفار بالمساعدات الإنسانية، ودعمت بعض الصحف الكويتية الجبهة.
من جهته، حصل السلطان قابوس على دعم عسكري من بريطانيا، وبلغ عدد الضباط والمستشارين الإنكليز 450 فرداً، وقدمت مصر والأردن مساعدات بالتدريب العسكري. وتدخلت إيران بناء على طلب السلطان من الشاه سنة 1973، بـ10 آلاف جندي على أقل تقدير، وسربين من الطائرات، وظلّت باقية حتى سنة 1977.
وكان هدف إيران حماية مضيق هرمز من سيطرة قوى تحررية عليه في ظل كراهية الشاه للحركات الثورية، ومنافسة الدور السعودي في الخليج، بينما كان التدخل الإيراني العامل الأكبر في هزيمة الثورة.
قدمت السعودية دعماً مالي وصفقات أسلحة بقيمة 15 مليون دولار، ومساعدات بقيمة 150 مليون دولار ، و100 مليون دولار لتعبيد الطرق في ظفار، وحساب مفتوح لشراء الأسلحة والمعدات العسكرية. دعمت الإمارات السلطنة مالياً، وتولت قواتها حماية شمال عمان، لتتفرغ قوات السلطان للحرب في ظفار.
دفع ذلك الوضع الجبهة إلى الإقدام على اغتيال السلطان سنة 1972، في عملية خُطط لها في العراق واليمن الجنوبي، وشملت اغتيال مستشاري السلطان والولاة وكبار ضباط الجيش وكبار التجار لكن المخطط كُشف، وجرى اعتقال 77 عضواً في الجبهة إثر ذلك، أُعدم 10 منهم وسُجن الباقون. عقب الضربات الموجعة التي تلقتها الجبهة، عقدت مؤتمراً في آب/ أغسطس 1974 أعلنت فيه تغيير اسمها إلى الجبهة الشعبية لتحرير عمان، بهدف مهادنة دول الخليج وخاصة الكويت.
الحسم العسكري للثورة
أعلنت الجبهة عن برنامج عمل وطني جديد تضمن المطالبة بانسحاب إيران وترحيل الضباط والمستشارين الإنكليز، ومنح حق تقرير المصير للشعب العماني، وقيام ديمقراطية شعبية، وإلغاء الاتفاقيات مع بريطانيا والدول الإمبريالية، وإلغاء الأحكام العرفية وإطلاق سراح المعتقلين والإصلاح الاجتماعي للمرأة والفلاحين وإنشاء النقابات وحقوق العمال وتنويع مصادر الدخل بجانب النفط.
بجانب الضغط العسكري والإصلاح الداخلي خصوصاً في ظفار التي خُصص لها 25% من ميزانية الخطة الخمسية الأولى (1971 – 1975)، و27% من الخطة الخمسية الثانية (1975 – 1980)، عمل السلطان على حلّ الخلافات مع اليمن الجنوبي الداعم الأول للثوار، وطلب وساطة الجامعة العربية والسعودية.
”حققت الثورة إنجازات كبيرة على المستوى الاجتماعي خلال سيطرتها على ظفار، فساوت بين الرجل والمرأة، وأشركت المرأة في العمل العسكري، وحررت العبيد“
نجحت الوساطة السعودية التي قدمت مساعدات مالية لليمن الجنوبي وتم توقيع اتفاقية بين عمان واليمن في 1976، وترتب على ذلك إنهاء اليمن دعمها للجبهة الشعبية، وانهيار الأخيرة واستسلام العديد من قياداتها للسلطنة، كان من أبرزهم عمر بن سليم العمري الذي قال عن استسلامه إنه “أدرك أن الجبهة لم تكن سوى مخالب بيد جمهورية اليمنة الجنوبية”، كما استسلم رجاح مسعود. وبنهاية سنة 1976، تمت تصفية الجبهة بالوسائل السلمية والعسكرية والدبلوماسية، وفق كتاب قاسم.
لا يتفق طرابلسي مع تفسير فشل الثورة بتغير موقف اليمن، إذ يرى في كتابه أن تغير موقف اليمن جاء بعد فشل الثورة بسبب الحسم العسكري ضدها. ويقول: “حقيقة الأمر أن انتهاء الثورة في ظفار هو الذي يفسّر تغيّر موقف اليمن الديمقراطي من سلطنة عمان وليس العكس، أي أن انتهاء الثورة لم يكن بأي حال من الأحوال ناجماً عن تغيّر موقف اليمن تجاهها”.
لم يكن الحسم العسكري وحده سبب هزيمة الثورة، إذ كانت طبيعة المجتمع الظفاري القبلية هي العائق الأول أمام الثورة. يقول زكريا في كتابه: “هذا التفاوت بين قاعدة المجتمع الظفاري وبين محركي الثورة هو الذي حقق للسلطان قابوس النجاح في قمعه لتلك الحركة التي كانت لا تتناسب مع طبيعة الإقليم المحافظة”. يرى طرابلسي أن الثورة ارتكبت أخطاء جسيمة، إذ أحجمت عن الحسم العسكري في ظفار حين كانت الغلبة لها، كما أنها عجزت عن التكيف مع التطورات المفصلية منذ سنة 1970.
إنجازات الثورة
حققت الثورة إنجازات كبيرة على المستوى الاجتماعي خلال سيطرتها على ظفار، فساوت بين الرجل والمرأة، وأشركت المرأة في العمل العسكري وحررتها من قيود المهر والزواج الخانقة، وحررت العبيد وألغت الرق، وقدمت خدمات في جميع المجالات لأهل ظفار، وحاربت التمايز القبلي، ونشرت التعليم وأنشأت المدارس، ونظمت برامج واسعة للتثقيف.
من جانب آخر دفعت الثورة السلطة العمانية إلى الاهتمام بالتنمية في إقليم ظفار. وفي هذا السياق، يقول طرابلسي: “قد تفشل الثورات ولكنها تفرض على الحكام تحقيق العديد من الإصلاحات التي طالبت بها، حصل شيء من هذا القبيل في ظفار، إذ لا يمكن تصور العناية التي حظي بها الإقليم ولا حجم الإنفاق عليه وما قُدّم له في مجال الإنماء والتعليم والصحة وخدمات الدولة لولا الثورة”.