لم تعد الصحافة مهنة نقل معلومة فحسب، بل كما يقال هي سلطة رابعة بجانب السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية. إذن هي ركن أساسي ضمن منظومة أركان الدولة الحديثة الديموقراطية؛ فلا يمكن ومن غير المنطقي أن نرى دولة حديثة ديموقراطية دون وجود صحافة حرة قوية ومستقلة.
حال الصحافة هو مقياس يقاس به حال الدولة سياسيا وحقوقيا واجتماعيا؛ فمدى تموضع الصحافة بكل أنواعها وتوجهاتها، وتأثيرها وتفاعلها مع حياة المواطن يعكس صورة شكل نظام الحكم، وحالة البلد حقوقيا ومدى اقترابها وابتعادها عن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
بجانب كونها مؤشرا مهما؛ فهي وسيلة بناء فاعلة وناجعة بجانب وسائل أخرى لا يمكن الاستغناء عنها لبناء أي دولة على أسس تشاركية. في مثل أي عملية صناعية تحتاج إلى رقابة لتقييم خط الانتاج، ثم رقابة لتقييم المنتج بعد الانتهاء منه؛ فهذا ما تقوم به الصحافة الحرة في صيرورة بناء الدولة. من خلال الصحافة يُقيم ويراقب المسؤول من خلال أعين الشعب جميعا، ومن خلال الصحافة يصل صوت المواطن للمسؤول.
حال الصحافة هو مقياس يقاس به حال الدولة سياسيا وحقوقيا واجتماعيا
وإذا تحدثنا عن الديموقراطية؛ فلا يمكن إلا أن نتحدث عن الصحافة الحرة. حيث من المستحيل وجود ديموقراطية حقيقية دون وجود صحافة حرة. لأن الديموقراطية الحقيقية قبل أن تكون صندوقا، فهي نمط حياة نتيجة تراكمات من الوعي، والصحافة الحرة المستقلة هي من أهم صناع هذا الوعي.
لذلك أي نظام يحارب الصحافة الحرة المستقلة؛ فهو بالضرورة نظام فاسد وغير ديموقراطي وبعيد كل البعد عن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وأسس المواطنة، مهما ادعى خلاف ذلك.
كذلك فهناك محور مهم لا يمكن تجاهله عند الحديث عن الصحافة وهي محددات وضوابط الحرية التي يجب أن تملكها أي وسيلة إعلام. ما هي الخطوط التي يجب أن تتوقف عندها حرية الصحافة. هذا سؤال جوهري قُتل بحثا بيد أنه بكل صراحة ما زالت حدود تلك الحرية غير واضحة. هناك منطقة رمادية واسعة.
تحديد ما هو حرية تعبير وما هو ليس حرية تعبير، قضية شائكة رغم وضوحها نظريا “تقريبا”.. ونضع ألف خط تحت تقريبا. وهناك مؤسسات ومؤتمرات حاولت الإجابة على هذا السؤال بأكثر من شكل، وسبق كل هذه المحاولات مفكرون وفلاسفة كثر. بيد أن تطبيق هذا المفهوم على الواقع شائك ومتداخل وصعب تحديد أطره. لأنه يدخل في قضية أكبر في ماهية الخير والشر، الصواب والخطأ. أحيانا مكان وقوفك هو من يحدد معيار الخير والشر. وهذا نسبي.
هل نقد الأديان ينضوي تحت أشكال حرية الصحافة؟ وإذا كانت الإجابة بـ"لا"، أليست هذه القدسية أحادية من طرف واحد وهو المقدِس؟
لو استخدمنا الحجة القائلة إن حرية التعبير تتوقف عندما تكون نتيجة الخطاب عنفا وتحديًا وتخريبًا لمؤسسات الدولة وإراقة دماء! أليست هذه الحجة ذاتها التي تستخدمها الأنظمة المستبدة التي تحارب حرية الصحافة وحرية التعبير بشكل عام عندما تقمع الأصوات الإصلاحية الناقدة التي قد ينتج عنها حسب رأيها عنف وتحد وتخريب لمؤسسات الدولة وإراقة دماء كذلك؟!
كذلك لا يمكن أن نتجاوز موضوع حرية الصحافة دون أن نشير إلى مكانة الدين والتقاليد والأعراف المجتمعية من هذه الحرية. أين يجب أن تتوقف هذه الحرية عند مواجهتها لدين ما؟ أين يجب أن تتوقف هذه الحرية عند نقدها لتقاليد وأعراف مجتمع ما؟ هل نقد الأديان ينضوي تحت أشكال حرية الصحافة؟ وإذا كانت الإجابة بـ”لا”، أليست هذه القدسية أحادية من طرف واحد وهو المقدِس؟ أليس “المُقدَّس في حد ذاته ليس مُقَدسًا، إنما المُقدِّس هو من يصنع هذه القدسية مع مرور الزمن، وكلّما زادت الفجوة زادت معه هالة القدسية. [أليس] الأتباع [هم من] يرثون المقدَّس، ويُقَدِّسون الموروث، ويورّثون المُقَدَّس، كحقائق مطلقة”؟ (الفزاري، اللايقين، ص217)
عدم وضوح حجم مساحات الحرية التي يجب أن تتحرك فيها أي مؤسسة صحفية، بجانب المواطن الصحفي الذي بات جزءا لا يتجزأ من عالم الصحافة كذلك، ليس عذرا عن الإيمان بأهمية الصحافة.. ليس عذرا عن توفير بيئة صحفية آمنة قانونيا. ليس عذرا لمحاربة الصحافة المستقلة الحرة؛ فهناك العديد من المسلمات والضرورات والحاجات في تكوينة أي دولة حديثة ديموقراطية.. في دولة المواطنة، يمكن القياس بها والبناء عليها ولا يمنع من تطوريها والنقاش حولها.
*مقدمة ملف “حرية الصحافة ليست رفاهية“