في الذكرى العاشرة لثورات الربيع العربي، ما زالت كافة الأسئلة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية مطروحة بقوة دون إجابات واضحة، فرغم كل التضحيات الكبيرة التي قدمها ملايين العرب الذين شاركوا في هذه الثورات، سعيًا لتأسيس مجتمع يحكمه القانون، وتوزع فيه الثروة بصورة عادلة، إلا أن النتائج كانت مخيبة للآمال.
فبينما تحققت بعض المكاسب في مصر خلال العامين التاليين للثورة من حد أدنى للأجور، وحرية تأسيس الأحزاب، وانتخابات تنافسية، وخطط لفرض ضرائب تصاعدية على الطبقات العليا، لكن سرعان ما تراجعت هذه المكاسب وتدهورت الأوضاع تحت وطأة صراع سياسي صفري، خسره الجميع.
تكرر الأمر كذلك في سوريا، وليبيا، ومملكة البحرين، واليمن بأشكال مختلفة وأكثر قسوة، فبقدر ما كانت البدايات مبشرة للغاية، بقدر ما كانت المآلات قاسية، بتدخلات عسكرية خارجية، وحروب أهلية، وشروخ في بنية الدولة، يستبعد أن تلتئم في المستقبل القريب، وخاصة في ظل حالة من التخبط الإقليمي والدولي.
بينما نجحت تونس في أن تكون الاستثناء الوحيد؛ فرغم كل العثرات السياسية والاقتصادية، استطاعت الثورة التونسية تجاوز كل الفخاخ التي نصبت لهم بأقل الأثمان، لعدة أسباب بعضها داخلي، وبعضها خارجي، فوجود مجتمع مدني قوي ممثل في الاتحاد العام التونسي للشغل وهو أكبر منظمة نقابية عمالية فعالة في الوطن العربي، وجودة المنظومة التعليمية، ومحدودية نسب الفقر المدقع، وربما عدم امتلاك ثروات بترولية أو تموضع جغرافي مهم للقوى العالمية، فضلًا عن نضج القوى المجتمعية والسياسية كل ذلك أسهم نجاح الثورة التونسية أو لنكن أكثر دقة نجاتها.
سؤال العدالة
في كتاب “لماذا تفشل الأمم .. أصول السلطة والازدهار والفقر”، تأليف الباحثين في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون، ورغم أنه لا يشتبك مع ثورات الربيع العربي بشكل مباشر، إلا أنه من أبرز الأعمال التي طرحت أفكارًا وتساؤلاتٍ حول ازدهار وتطور المجتمعات أو إفقارها وتخلفها، ومدى ارتباطها بالحرية والإدارة السياسية، وهو المعضلة الكبرى التي واجهتها الثورات العربية على مدار هذه الثورات.
الكتاب الصادر في نسخته العربية عن الدار الدولية للاستثمارات الثقافية في العاصمة المصرية القاهرة، وبترجمة بدران حامد، يجمع بين رؤية عامة تشبه عين الطائر القادر على رصد الصورة الكلية، وكذلك الإلمام بالتفاصيل الصغيرة الساكنة في قلب المجتمعات وثنايا جسدها السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ فيستند مؤلفا الكتاب لوقائع تاريخية ودراسة اقتصادية لدول عدة من مختلف القارات، يتتبعان من خلالها كيف تطورت بعض هذه الدول، ولماذا انهارت أخرى، كما يطرحان العديد من التساؤلات حول القيود التي تمنع الدول الفقيرة من أن تتحول لدول متطورة؟، وهل ظاهرة الفقر في الكثير من دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية غير قابلة للتغيير؟
أكثر ما يميز الكتاب أنه لا يردد الإجابات المكررة التي تربط فقر أو تقدم الأمم بموقعها الجغرافي، أو الاختلاف في العرق، أو الهوية، أو الدين، أو الثقافة، أو الجهل بأسباب التقدم -بالطبع قد تلعب هذه المتغيرات دورًا في تقدم أو تخلف الأمم- لكن دورها يظل محدودًا كما يشير مؤلفا الكتاب، في حين تبقى الأسباب الأكثر تأثيرًا مرتبطة بمؤسسات الدولة ونظام الحكم ومدى عدالته وقدرة الشعب على اختيار ومحاسبة النخب الحاكمة.
السياسات الاستعمارية
يشير مؤلفا الكتاب كذلك لدور الحكومات الغربية وسياساتها الاستعمارية التي أسهمت في تدمير العديد من الدول في أفريقيا وآسيا، وحكمت على الكثير من الدول بالتخلف الطويل، كما يؤكدان أن نظام الحكم الديمقراطي يحتاج مجتمعًا ومؤسسات ونخبة واعية تدرك أهمية التعددية وحرية الاختيار، وإلا فسوف تتحول الديمقراطية لمجرد أداة يصل من خلالها مجموعات معادية للديمقراطية وقيمها إلى الحكم، ثم ينقلبون على كل قيم العدالة والحرية والتعددية، مثلما حدث في البيرو خلال تسعينيات القرن الماضي في فترة حكم ألبرتو فوجيموري.
يستعرض الكتاب العديد من النماذج التي تعكس مدى هشاشة النظريات التي تربط بين تقدم أو تخلف المجتمعات وموقعها الجغرافي وفي هذا السياق يحلل مؤلفا الكتاب الواقع الاجتماعي والاقتصادي لمدينة “نوغاليس” الحدودية بين دولتي المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، كنموذج معبر عن وجهة رؤيتهم للدور البارز للمنظومة السياسية والاجتماعية في تقدم وازدهار المجتمعات أو تخلفها.
تنقسم مدينة “نوغاليس” إلى منطقتين إحداهما في الشمال تتبع ولاية أريزونا وتقع ضمن حدود الولايات المتحدة الأمريكية، أما الجزء الآخر من المدينة فيقع جنوبا ضمن حدود دولة المكسيك، يرصد الكاتب الاختلاف الكبير في معدلات الدخول بين الشمال والجنوب من مدينة “نوغاليس” كذلك التفاوت الكبير في الخدمات التي يحصلون عليها من رعاية صحية وتعليم ومياه نظيفة وشبكة كهرباء.
يتساءل مؤلفا الكتاب “كيف يمكن لهذين النصفين بنفس المدينة أن يكونا مختلفين بهذه الدرجة؟ فليس هناك اختلاف في الموقع ولا المناخ، أو حتى الأمراض المنتشرة والمعروفة في المنطقة، ولكن ربما هناك اختلاف بين السكان الذين يقطنون في هاتين المدينتين، فقد يكون سكان نوغاليس في أريزونا، أحفاد المهاجرين الذين أتوا من أوروبا، في حين أن سكان الجزء الواقع في المسكيك ينحدرون من قبيلة الأزيتك؟ لا ليس الأمر كذلك؛ إن خليفات السكان متشابهة تمامًا”.
للإجابة عن سؤال التفاوت بين الجزء الشمالي من مدينة “نوغاليس” والجزء الجنوبي يركز مؤلفا الكتاب على طبيعة المؤسسات التي تأسست في كلٍّ من الدولتين خلال الحقبة الاستعمارية، ودورها في تطور المجتمع بعد ذلك، فبينما عملت الإمبراطورية الإسبانية على استنزاف موارد دول جنوب القارة الأمريكية، وتكريس مؤسسات “استحواذية” تهمين على ثروات المجتمع، نشأت في الولايات المتحدة رأسمالية محلية تعيد تدوير المكاسب والأرباح في مجتمعها، مما انعكس على واقع المدينة.
بينما على الجهة الأخرى؛ فرغم تحرر معظم دول أمريكا اللاتينية من الاستعمار، إلا أنها ما تزال تعاني سطوة المؤسسات “الاستحواذية” وهذا النمط من المؤسسات صمم لتحقيق مصالح شريحة صغيرة من المجتمع، تسعى لبسط نفوذها على السياسة والاقتصاد، وتنتشر هذه المؤسسات في العديد من الدول حول العالم وتأخذ أشكالًا مختلفة فقد تكون ممثلة في الحزب الواحد أو السلطة العسكرية المباشرة أو طبقة محددة أو أسرة وعائلة حاكمة.
عدم المساواة
يشير مؤلفا الكتاب إلى أن كثيرًا من علماء الاقتصاد يرون أن أسباب عدم المساواة بين الشعوب والدول تعود لجهل الشعوب الفقيرة والسلطات الحاكمة فيها بالخطط والسبل التي تمكنهم من التطور والتقدم، وفي هذا السياق يتساءل مؤلفا الكتاب “هل يمكن لفرضية الجهل أن تفسر عدم المساواة التي تسود العالم؟، وهل يمكن أن تكون الدول الإفريقية أكثر فقرًا من بقية دول العالم لأن حكامها يميلون إلى اعتناق نفس الأفكار والرؤى الخاطئة حول كيفية إدارة دولهم”.
من أبرز المفارقات التي يرصدها الكتاب كذلك أن معظم الدول الإفريقية تتعاقد مع مستشارين وخبراء محليين ودوليين وتحصل منهم على الاستشارة والحلول الأفضل لمشاكلها، وبالتالي الأمر ليس متعلقًا بالجهل أو بالمعرفة ولكن يتعلق بخيارات السلطة الحاكمة وانحيازها “إن الدول الفقيرة تعد فقيرة لأن أولئك الذين يستحوذون على السلطة يتبنون اختيارات تعمل على إحداث الفقر؛ ليس عن غير قصد أو نتيجة للجهل وإنما عن عمد”.
يستعرض الباحثان تجربة غانا في عهد رئيس الوزراء كوفي بوسيا في سبعينيات القرن الماضي، وكيف أهدر موارد الدول من أجل تحقيق بعض المكاسب السياسية ودعم مناطق جغرافية وفئات اجتماعية عن أخرى “كانت سياسته الاقتصادية التي تبناها، ليس بسبب أنه كان “جاهلًا” وأعتقد أن هذه السياسات كانت تمثل سياسة اقتصادية مناسبة لتحقيق التنمية والتطور، لقد تم اختيار هذه السياسات لأنها تمثل نظامًا سياسيًّا يمكن “بوسيا” من تحويل موارد الدولة لمجموعة قوية ومؤثرة من الناحية السياسية”.
نتيجة هذه السياسات تم إهدار كم هائل من الموارد، ثم عانت غانا من عجز في ميزان المدفوعات، وتراجع كبير في احتياطي العملات الأجنبية، مما اضطرها لتوقيع اتفاقية للاقتراض من صندوق النقد الدولي، وتبني سياسات تقشفية نتج عنها تراجع كبير لقيمة العملة المحلية، وارتفاع في الأسعار ومعدلات التضخم، واضطرابات سياسية واجتماعية كبيرة “لقد مارس صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي والمجتمع الدولي برمته، ضغوطًا على (بوسيا) حتى يقوم بتنفيذ الإصلاحات المتضمنة في الاتفاقيات المبرمة. وكانت النتيجة المباشرة لإجراء تخفيض قيمة العملة المحلية هي اندلاع أعمال شغب وحالة من الغضب والاستياء في العاصمة الغانية أكرا، والتي تصاعدت بصورة لا يمكن السيطرة عليها حتى أُطيح (ببوسيا) من قبل الجيش، وهي الحركة التي قادها الكولونيل أشيامبونج، والذي قام على الفور بإلغاء إجراء تخفيض قيمة العملة”.