قضية حقوق المرأة في مجتمعات العالم الثالث ليست مجرد جدال ونضال حقوقي، يتجادل حولها مجموعات منظمة من المتنورين نساءً ورجالًا -مع مجموعات غوغائية غير منظمة- للحد من دونية المرأة باعتبارها كيانا بشريا مستقلا كامل الأهلية الحقوقية، قبل اعتبارها نصف المجتمع يتولد من أرحامهن النصف الآخر، ولكن هذه القضية وفي مجتمعاتنا، تسقط إلى الدرك الأسفل من الإسفاف، بحيث تمكن الغوغائيون بمؤازرة من جماعات الإسلام السياسي، من جعل كلمة حقوق المرأة في البنية القيمية لدى العقل الجمعي رديفة للانحلال الخلقي، والحرية الجنسية، والتعري دونما أن نغفل على شيطنة القضية على اعتبار كونها مناهضة للقيم الدينية وأنها من رجس ووساوس الشيطان، ومن أفكار المجتمعات الغربية المنحلة.
لكن التناقض الصارخ، لا يكمن في إنكار مثل هؤلاء الجماعات الرجعية لحقوق المرأة، بل الاعتقاد الكامل بأن جميع القوانين التي تحد من حقوق المرأة وتكرس لعبودية طوعية، إنما هي تكريم لها، وبذلك تصبح ازدواجية المعايير أساسا لقمع حقوق المرأة، وربط هذه الازدواجية الفكرية بنصوص مغلفة بالقداسة الدينية، يجعل من كل مناضل من أجل حقوق المرأة مناهضًا للدين والرب، ومناهضًا للمجتمع.
وفي السياق ذاته؛ أمام تعنت مطلق للاعتراف بسيادة المرأة على ذاتها وعلى حقوقها، نجد ظواهر اجتماعية أخرى في المجتمعات ذاتها تناقض تماما مبدأ دونية المرأة واعتبارها إنسانا من الدرجة الثانية، ونأخذ من بين تلكم الظواهر على سبيل الانتقاء لا الإقصاء للظواهر الأخرى، ظاهرة “تقديس الأم” من قبل هذه المنظومات والتي هي بدورها تحتقر المرأة، وأمام هذا التناقض، جاء هذا المقال لمعالجة هذه القضية، ومحاولة كشف اللبس عنها من خلال تقصي طبيعة العلاقة القائمة بين هاتين الفكرتين المتناقضتين، وكذلك محاولة كشف الأسباب التي أنتجت مثل هذه التناقضات الصارخة.
الأم المقدسة في المجتمع الجزائري
ما يرصده الملاحظون فيما يخص الشأن السوسيولوجي والثقافي لدى المجتمع الجزائري باختلاف تركيباته العرقية وتوجهاته الإيديولوجية والدينية، أن للأم مكانة جليلة تتسم بالقداسة، على الرغم من الوضع الدوني للمرأة، ولعل ذلك يتجلى في المزاج العام لمثل هذا الشعب، فجميع المنتجات الثقافية والإعلامية المكتوبة منها والسمعية والبصرية، تحتل فيها قضية تكريم الأم وتبجيلها قسما ليس بالهين الذي يمكن تجاهله، كذلك في مجال الإنتاج السينمائي والغنائي، نلاحظ أن أغلبية هذه المنتجات إما تركز في معالجاتها السوسيولوجية بشكل خاص على الأم ودورها الجلي في حياة الأسرة، وإما أنها تتطرق عرضيا لها.
كما أن مكانة الأم العالية لدى هذه المجتمعات تتضح في الممارسات الاجتماعية (التقاليد والأعراف)، فالأم تشكل مركز الأسرة والرابط المتين الذي يجمع أفرادها برابطة الأمومة، وبذلك يصبح مفهوم الأسرة مرتبطا بشكل كبير بدور الأم أكثر منه بدور الأب، فالأم هي المُباركة، وجميع أفراد المجتمع لا توفيق لهم من دون بركات الأم ورضاها –حسب المعتقد الشائع-، وأن أي سلوكيات يقوم بها أفراد المجتمع من شأنها إلحاق الضرر المادي أو المعنوي بالأم ، يودي بأولئك الأفراد إلى سقطة مدوية في أواسط المجتمع، إذ يخسر الفرد احترامه ومكانته في المجتمع، وبذلك فإن للأم دورًا جوهريًّا وإن كان غير مباشر في تشكيل طبيعة ونمطية المعاملات والتفاعلات بين أفراد المجتمع، لترتقي الأم بذلك إلى دور أعلى يتمثل في توجيه سلوكيات المجتمع والرقابة عليها، باعتبار أن الأم سلطة أخلاقية ومرجع قيمي للفرد والمجتمع.
إلا أن سردنا المقتضب للدور المقدس للأم في المجتمع الجزائري، ليس على سبيل النقد، بل على سبيل التقديم لمحاولة فهم التناقض القيمي الحاصل ما بين تقديس الأم واحتقار المرأة بشكل عام، وكأن الأم كيان منفصل عن المرأة، وفي العنصر الموالي سنتطرق لعلل هذا التناقض، من خلال كشف بعض الأسباب الكامنة وراء تقديس الأم في المجتمع الجزائري.
في علل تقديس الأم في المجتمع الجزائري
دعونا نبدأ في بادئ الأمر، بإعطاء صيغة دقيقة للموضوع، قبل استعراض علل تقديس الأم، إذ علينا أولا أن نضع المفهوم الجوهري للموضوع في نطاقه العام، إذ إن مفهوم الأم ككيان بيولوجي وسيكولوجي، غالبا ما يكون مرهونا ضمن سياق مؤسساتي كالأسرة أو المجتمع خاصة في المجتمعات المحافظة كالمجتمع الجزائري، هذا فيما يخص السياق السوسيولوجي للمرأة، بينما في سياق آخر؛ السياق الجندري: فإن الأم تقع ضمن قسم الجنس الأنثوي (النساء)، والنظرة العامة للمجتمع الجزائري عموما للنساء هي أنهن بشر من الدرجة الثانية، وفي المحيط السوسيولوجي ذاته، تسود ظاهرة ازدراء (كره) المرأة والتي يعبر عنها باللغة اليونانية بعقدة الميسوجينية، والتي مفادها كره الرجال للنساء لأنهن نساء، أي الكره من أجل الكره.
ففي الغالب فإن الكراهية مرفوضة حتى وإن كانت وراءها أسباب ودوافع معقولة، فما بالكم إن كان الكره غير مبرر، وتتجلى الميسوجينية، في العديد من الأوجه مثل: احتقار النساء، التحرش الجنسي، العنف ضد النساء واعتبار المرأة أداة جنسية حتى في إطار الزواج.
وبناء على الاعتبار المنطقي السابق الذي يفيد بكون الأم أحد الصفات التي تتخذها المرأة في المجتمع، فإن مسألة التناقض ما بين احتقار المرأة والتقديس المرأة (الأم)، لابد من أن تعالج ضمن هذه العلاقة المتناقضة، ومن أجل إدراك طبيعة هذه العلاقة، لابد في بادئ الأمر أن نستعرض بعض العلل أو الأسباب (دوافع) المجتمع الجزائري لتقديس الأم وهي:
1. النموذج الانقسامي (الأم/العاهرة): يتمثل هذا النموذج في تصور المجتمع على أن المرأة إما أن تكون أما مقدسة لها كامل الأهلية الأخلاقية والاجتماعية، أو كونها عاهرة (فاقدة الأهلية الأخلاقية والاجتماعية)، وكل فرد من أفراد المجتمع لا يعترف بالمرأة ككيان إلا إذا كانت أمًّا له ففي تصور مثل هذه المجتمعات التي تعاني من هذا النموذج الانقسامي (الجزائري نموذجا) فالمرأة دونية بطبيعتها، ومنقوصة الشرف والكرامة في ذاتها دون الحاجة لأن يكون هناك مبررات واقعية تثبت ذلك، فمجرد كون المرأة ليست أمًّا فهي بالضرورة عاهرة أو منقوصة الكرامة.
2. أحادية الرعاية الأسرية: في المجتمع الجزائري، تعتبر الرعاية والتربوية الأسرية من مهام المرأة وحدها، وأن تدخل الرجل في الرعاية والتربية يعد ضعفا وإهانة له، وبذلك تتفرد الأم برعاية الأطفال، الشأن الذي يعزز من تقوية رابطة الأمومة لدى الأطفال، وبذلك يتولد نوع من التبعية العاطفية تجاه الأم وخاصة وأن هذه الأخيرة في الغالب تملأ الفراغ العاطفي الذي يتركه الأب، وبذلك تصبح الأم محور الحياة لدى الأطفال، وبذلك يتعاظم دورها مع مرور الوقت لتكتسب بذلك صفة القدسية، التي يفضيها الأطفال على أمهاتهم، فالأم لدى هذه المجتمعات هي الأصل وهي الملجأ العاطفي الوحيد.
3. عقدة الطفل الصغير (الابن- الطفل): يعيش الطفل الجزائري أزمات نفسية عميقة تؤثر بشكل كبير في سلوكه العاطفي، فمن جهة تتفرد الأم برعاية الطفل بشكل مطلق ومبالغ فيه في بعض الأحيان، ومن جهة أخرى يعيش الطفل ذاته في أسرة ورثت أمراضا سوسيولوجية من المجتمع والتي من بينها احتقار النساء، فيعيش الطفل شاهدا على احتقار أمه من طرف الأسرة (غالبا الأب)، ومن طرف المجتمع، ويعاين جميع تلك التداعيات التي تفرزها ظاهرة احتقار المرأة من عنف أسري وانعدام للحرية الشخصية، فتنمو في داخل الطفل الصغير مشاعر الكره تجاه الأب والأسرة والمجتمع انتقاما لأمه والتي كما سبق وأشرنا أنها تشكل محور حياة الطفل،
ومع مرور الزمن ونضوج الطفل، يتولد لديه شعور آخر تجاه أمه ألا وهو الشفقة والعطف، لتمتزج تلك المشاعر مع بعضها بعض لتولد حبا جامحا للأم وتقديسا لها ولدورها وبذلك يصبح تقديس الطفل لأمه أحد أشكال الدفاع عنها ورد للجميل واشباع لعقدة نفسية مردها الطفولة والتي تتمثل في فشل الطفل في حماية أمه من الأسرة والمجتمع.
4. الموروث السماوي (الإبراهيمي): لقد أسهمت الأديان الإبراهيمية أو السماوية بشكل كبير في تعزيز دور الأم في المجتمعات في ظل احتقار للمرأة، إذ إن هناك انقسامية أو ازدواجية في هذه الموروث.
الشق الأول منه ينقص من قيمة المرأة باعتبارها مخلوقةً من ضلع أعوج، من ضلع آدم وبذلك تعتبر المرأة في العموم جزءًا من الرجل، وأنها كيان غير مستقل، ووجود المرأة لا يمكن تصوره خارج مفاهيم الأسرة من قبل المجتمعات المتدينة، وأن تبقى المرأة تحت سيطرة النظام الطبقي الأبوي، أي رب الأسرة سواء كان أبا أو زوجا أو أخا (وان كان الأصغر عمرا)، وهناك العديد من المؤشرات والنصوص التي تفصل في ذلك، إلا أنها لا تدخل في صميم موضوع هذا المقال.
الشق الثاني يتمثل في اعتبار الأم كيانُا مغايرًا للمرأة، إذ إن هذا الموروث الروحي الديني –وهنا أشير بشكل أدق إلى الموروث الصوفي- باعتباره المذهب الغالب لدى المجتمع الجزائري ومجتمعات شمال إفريقيا، يحمل شحنات عاطفية إيجابية تجاه الأم ككيان منفصل عن المرأة، ويربط الأم بصميم العقيدة والإيمان فالتدين الحق لا يكتمل من دون ولاء الفرد المطلق للأم وطاعتها والإحسان إليها، وهناك العديد من النصوص والممارسات المتوارثة التي تثبت ذلك، يمكن التطرق إليها في مقال منفصل.
5. القيادة من الخلف (المرأة المتسلطة): على الرغم من احتقار المرأة لدى غالبية المجتمع الجزائري إلا أنه دائما ما تكون هناك استثناءات، وحالات نشاز، وهنا لا نقصد انتفاء ظاهرة احتقار المرأة فهذه الظاهرة متوغلة في البنية القيمية لدى هذه المجتمعات، وإنما تلك الحالات –والتي تتزايد مع مرور الوقت- حيث تأخذ الأم –المرأة- زمام السلطة في الأسرة، ويتراجع دور الأب ليكون دوره ثانويا في تسيير شؤون الأسرة، وفي هذه الحالة تصبح خسارة الأب مزدوجة، إذ يفقد مميزاته كرب للأسرة وسيد لها، ويفقد كذلك دوره في رعاية الأطفال، بفعل استبعاد الأم له، وبذلك تكون الأم هي التي تقود الأسرة ولكن من الخلف، إذ تحافظ على الرجل (زوجها) في الواجهة كإستراتيجية لمواجهة ضغوطات المجتمع، وبذلك يصبح الطفل، أمام أم تقدم الرعاية الكاملة له دون تدخل للأب، وكذلك أمام سلطة ونفوذ منقطع النظير للأم وأمام هذه السلطة تتنامى لدى الطفل مشاعر الحب والولاء بفعل تفرد الأم للرعاية، ومشاعر الخوف والرهبة من سلطانها، فيتعاظم دور الأم للقدر الذي تصبح مقدسة في نظر الطفل، ومقدسة في نظر المجتمع على المدى البعيد.
إلا أنه يجب الإشارة إلى أن هذا العامل -سلطة المرأة- لا يؤدي دائمًا إلى تقديس الأم، ففي بعض الحالات التي يطغى فيها الدور السلطوي للأم على دورها في الرعاية، تتشكل عقد نفسية لدى الطفل تُسهم في تنمية مشاعر سلبية تجاهها، ومشاعر سلبية تجاه المرأة بشكل عام على المدى البعيد، تعمل على تعزيز ظاهرة احتقار المرأة.
احتقار المرأة وتقديس الأم: طبيعة العلاقة
تعد جدلية العلاقة ما بين احتقار المرأة وتقديس الأم، أحد أشكال التفكير الانقسامي وازدواجية المعايير، تظهر الازدواجية جلية في تقديس دور الأم على الرغم من كونها امرأة ينظر إليها كإنسان من الدرجة الثانية، ولذلك فإن هناك معيارين للحكم على المرأة، الأول يتمثل في تقديسها بدور الأم والآخر يتمثل في احتقارها باعتبارها غير أم (زوجة، أخت، امرأة غريبة)، وهي انقسامية من خلال إضفاء مفهومين متضادين للشيء نفسه (الشخص) بناء على دوافع وتأثيرات سوسيوثقافية
فنفس الكيان (المرأة)، يتم إضفاء مفاهيم الشرف والكرامة والقدسية لها كأم، ومفاهيم الانحلال والعهر والدونية باعتبارها أنثى وهذان المفهومان متناقضان وهنا يكمن الانقسام، أما جدلية العلاقة؛ والتي يقصد بها التأثير المستمر لظاهرتين على بعضهما بعضًا فتتجلى في كون احتقار المرأة أحد أبرز الأسباب التي تؤدي إلى تقديس الأم باعتبار ذلك أحد أساليب الموازنة النفسية (إشباع لعقدة النقص) التي تقوم بها الشعوب التي تحتقر المرأة، وكون تقديس الأم أحد العوامل التي تُسهم في احتقار المرأة، إذ أن التقديس المبالغ لدور الأم وتنامي سلطانها (السيطرة المبالغ فيها) قد يولد مشاعر سلبية تجاه المرأة الشأن الذي يعزز من تنامي عقدة الميسوجينية أو كراهية المرأة.