إن الطفل الصغير وبمجرد أن يرى نارا موقدة أمامه يهرول بكل شغف لبلوغها، وما أن يتحسسها بأصابعه البريئة حتى يبدأ بالصراخ باكيا… كذلك هي بعض الأفكار مثل شعلة من نار أو أخطر منها بكثير لها بريق جذاب للعوام لكنها تلسعهم بألسنتها وتحيل كل شيء حي رمادا تتناثره رياح الأسى والندم.
الدافع وراء كتابة هذا المقال ليس محاربة هذه الأفكار فهي في الأساس متجذرة في جميع أصقاع العالم وبذلك فهي جزء من هذا العالم وإنما يكمن الغرض في تنبيه الشعوب التي هي كالطفل الصغير تلهف وراء النار دون أن تشعر ذلك.
الحق في الإيمان
لا مشكلة في أن يكون المرء أصوليا يعتز بانتمائه وعاداته وتقاليده، يفتخر بدينه وأفكاره، لكن القبح يكمن في أن يتخذ من قيمه قانونا عاما يسير على الجميع من حوله؛ فالمناسب والمقبول لدى أسرة أو جماعة أو مجتمع أو أمة معينة ليس، بالضرورة، هو الأفضل لدى الآخرين.
من الجميل أيضا أن نلتمس حب الفرد لانتمائه والاعتزاز به لكن القبح يكمن في اعتقاده بأن أصله أرقى من الأصول الأخرى أو أن سلالته هي السيدة وأنّ غيرها مجرد غيوم، ومن الجميل كذلك أن يكون للإنسان دين يعتز به لكن القبيح هو أن يفرض على الآخر التدين بالطريقة التي يراها أو أن يعتقد بأن الجميع كافر باستثناء من يتبعون دينه.
جل المشكلات والتحديات التي حلت ببلداننا إنما تنبع من تشبث كل مجموعة أو طائفة بعاداتها وتقليدها ومذاهبها أو دياناتها ومحاولة فرض تلك القيم وتعميمها على الآخرين
ففي بلدان عريقة كبلداننا الثرية بالتنوع والموغلة في قدم تاريخها الطويل فإن التنوع من حيث الأجناس والألوان والأديان والعادات والتقاليد لشيء طبيعي، فبلد يتكون من أجناس مختلفة تجعل من مسألة التعصب العرقي شعلة من ألسنة النار والتي يكون لها بريقها في أعين المتعصبين إلا أن فرض السيطرة باسم العرق على حساب المكونات العرقية الأخرى حتما سيكون بداية لنهاية الوطن ولن يكون لنا وطن بعد ذلك.
فضلا عن الأجناس المتعددة فنحن نجد في الجنس الواحد ألوانا مختلفة وكل يظن أنه الأرقى والأفضل والأجمل وأن الآخر أقل منه شأنا وعليه أن يهمش وربما أن يقتل فالآخر دوني الأصل.
ولو تحولت هذه الأفكار الملتهبة إلى أقوال ومن ثمة إلى أفعال فسوف تحرق كل متر من بلداننا، وبذات المنطق فالتعدد الديني في بلداننا لشيء وارد وبالأخص مع الانفتاح والعولمة، فهي تضم عددا لا يستهان به من الأديان بدأ من اللادينيين والعدمين إلى أولئك المتعصبين المتشددين من اليهود والمسيحيين والمسلمين وغيرهم.
ورغم أن الإسلام هو الدين الأكثر انتشارا إلا أن التمييز والصراع الداخلي لهذا الدين هو بدوره أمر لا يستهان به من سنة وشيعة وسلفية وأحمدية وصوفية ولو حاولت كل فئة أن تكون المسيطرة على حساب الأخرى فحتما لن تكون لنا أوطان بل مجموعة من المقاطعات الملتهبة والمتصارعة.
العادات والتقاليد
إن العادات والتقاليد هي نمط وطريقة عيش مجموعة من الناس فهي تتغير من مكان لآخر ومن زمن لآخر؛ فطقوس الزواج تختلف من شرق البلد إلى غربه وكذلك من شماله إلى جنوبه، إن كل الجماعات التي تنادي إلى الأصولية والحزب الواحد هي جماعات حاملة لألسنة النار التي هي لعنة من الشيطان فهم يظنون أنهم مصلحون في حين أنهم المفسدون “وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن المصلحون ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون”.
إنما الوقائع والتجارب المريرة التي شهدتها معظم الدول التي تتشارك ذات الفكر الأصولي المتطرف، تشترك كذلك في الخراب والدم، من القاعدة في الشرق إلى بوكو حرام في أفريقيا، فكلها تجليات لذات المناخ الثقافي، فهم لا يشعرون، إذ صدق رب القرآن عندما وصفهم بعدم الشعور، إنه الوصف الأكثر دقة، فطبعا لا يشعرون بسبب عُمي عقولهم عن التفكير الجاد والمنطقي بل أن جل تفكيرهم نمطي، نفعي، غريزي، شخصي، فهم يحملون أفكارهم المتعصبة ويريدون أن يؤمن الجميع بها وكأن الآخر معدم من الأفكار وكأن الآخر لا يمتلك دينا يدين به، وكأن الآخر لا يمتلك حَسبا ولا نسباً ولا حتى عادات وتقاليد وهذا ما يسمى بالانغلاق إنه التقوقع على الذات ورفض الآخر شخصا وفكرا، في محاولة لفرض السيطرة على الآخر وفرض الرأي عليه دون محاولة لفهم هذا الآخر ولا حتى إقناعه.
إنما الجماعات الظلامية المنتشرة في بلداننا هذه الأيام هي جماعات متقوقعة تحمل شعلة من النار لتحرق بها الأوطان وهم بذلك يظنون أنهم يحملون شعلة النور والسلام لكن “لا يشعرون”. إن وجود مثل هذه الأفكار (الأفكار الرجعية والشمولية) ووجود مثل هذه الجماعات (المتعصبة) التي تتبنى مثل هذه الأفكار ليس بالشيء الغريب بسبب طبيعة الإنسان الأنانية الذي يسعى للتملك وفرض رأيه لكن الأغرب هم أولئك الشبان اليافعين الذين يضحون بحياتهم وشبابهم على مذبح أفكار جهنمية مُقنعة بأقنعة براقة مفاده الطريق نحو الجنة. طبعا هم لا يشعرون بأنه الطريق نحو الجحيم، جحيم الأرض الذين هم يخلفونه بأنفسهم من ورائهم.
هل الحرية فجور وانحلال
إن طبيعة هذا الخطاب المنتهج في المقال، يرد عليه من طرف الجماعات المتعصبة على أنه دعوة إلى التشبه بالغرب الكافر والانحلال الأخلاقي ونشر دور الدعارة والشرب وتحرير المرأة وتجريدها من الحجاب وخلط الإناث مع الذكور. طبعا هذا ما سوف يقولون وما يجول في خاطر كل إنسان يعيش على أرض أوطان موبوءة بالرجعية والشمولية، وحتى من يقرأ هذا المقال؛ وذلك بسبب الانحطاط اللغوي الشديد الذي نعيش فيه؛ فقد أفرغت الكلمات من محتواها وأصبح لكل كلمة ألف معنى كأننا صنعنا قاموسا من مطاط.
إن الانحطاط اللغوي الذي نعيشه، يعد من بين أهم أسباب انحطاطنا حيث صارت كلمة “حب” مرادفا للعيب والضعف ولا يجب الكلام عنها أو بها بينما عبارات “الكره” فهي التي تدل على القوة والإيمان أصبحت كذلك “الحرية” مرادفة لـ”الزندقة” و”الكفر” في حين أنها حق كل إنسان في أن يكون.
إنما المقصود بكلمة “تحرر” هو انفتاح الإنسان على كل الأجناس والثقافات والأديان وتقبل الآخر شكلا وفكرا، إن التحرر هو احتفاظ كل شخص بأفكاره وطريقة عيشه وحياته دون أن ينازع الآخر المختلف أو يحاول فرض رأيه عليه، كما أن التحرر هو تبادل الأفكار ومناقشة العقائد والعادات المختلفة دون صراع ودون غل وحقد أو كره أو احتقار، كذلك ضمان حق الفرد في تغيير أفكاره وقناعته، وفي بلد كبلداننا هذه لا يمكن جمع الشعب كله على فكرة واحدة ودين واحد أو توجه فكري واحد، إنه من الصعب بمكان جمع أفراد الأسرة الواحدة على رأي واحد بخصوص وجبة العشاء فما أدراك بأن تجمع شعبًا قوامه الملاين على فكر واحد.
إن القرن الواحد والعشرين قد حطم جميع الجدران الواقعة كحجاب بين الشعوب فأصبح الإنسان على دراية بأفعال الآخرين ودياناتهم وطريقة تفكيرهم وكذلك هو شأن الآخر. وفي هذه الحالة فإن إصرار كل فرد على أفكاره ومحاولة فرضها على الآخر سيؤدي حتما لانقراض الجنس البشري وزواله، لذا فالحل السحري لهذا المأزق هو التحرر ولعل التحرر هو أول ما طالب به رب الإسلام عندما قال “لكم دينكم ولي دينِ” وبالتالي فقد دعا إلى احتفاظ كل واحد بعقائده وأفكاره مع ضمان حق الفرد في تغيير قناعاته وأفكاره، والحق أيضا في الدعوة والترويج لها بالطرق الأخلاقية المشروعة.
حتما إن التحرر ليس كفرا وكذلك ليس إلحادا وإنما هو الطريق المثلى للعيش الهانئ بعيدا عن الصراعات الطائفية والتعصب للرأي. ولو أن الشعب الأمريكي لا يزال يتصارع على كون الشعب أرثوذوكسيا أو بروتستانتيا لما تحركوا قيد أنملة إلى الأمام ومازالوا يتصارعون لكون أحدهما أبيض والآخر أسود لما عرفنا أن هناك بلدا اسمه أمريكا ولو استمروا في صراعهم حول كون الإنسان من الهنود الحمر أو أوروبيًّا مهاجرًا لما كانت أمريكا الرقم الأول والأوحد في القرن الواحد والعشرين.
إن سبب رقي الشعب الأمريكي وقوته ليس في قوة كامنة في ذاته أو في الكونغرس ومجلس الشيوخ بل هو تصالح الشعب مع نفسه ووضع هدف أعلى مشترك وهو أمريكا، إن أخذ العبرة من الآخرين لشيء جميل وليس بالعيب والحرام، إن شعوبنا لابد لها أن تتصالح مع نفسها، وأن تضع هدفًا أسمى وهو الإنسان والعمل من أجل الوطن لا من أجل الأيديولوجيات والاعتقادات والأحزاب.
بين الأصالة والتطرف
إذا كان التأصل هو اعتزاز الفرد لكونه نفسه واعتزازه بعاداته وتقاليده وكذا بلده فإن التطرف هو كره الآخر لكونه نفسه، وكراهيته لعاداته وتقاليده ودينه وبلاده. إن المتطرف ليس هو الذي يحب كونه نفسه بل هو الذي يكره الآخر لشخصه، وهو الذي يريد أن تسير الأمور كما يهوى ويرغب وفقا لما يمليه عليه ضميره. وفي الختام فإن هذا المقال لا يدين التطرف فحسب بل هو أكثر من ذلك يدعو إلى الانفتاح العقلي وإزالة كل دوافع الخلاف والشقاق مع احتفاظ كل فرد بقيمه الخاصة، لا يمكن أن نلزم الآخر بفعل شيء لا يمكننا أن نلزم به أنفسنا لذا على كل فرد أن يحترم الآخر شخصا وفكرا مهما كان مختلفا، كي يقوم هذا الآخر بدوره باحترام وجودنا، وهذا ما يعرف بالمصالحة من أجل المصلحة الشخصية لكل فرد، وبالتالي ضمان المصلحة الجماعية لكل فرد.