لا تغيير للأفضل، هناك في الأغلب تراجعٌ عاماً بعد آخر، في حين يبدو أن تمادي السلطات في قمعها دليلٌ آخر على عدم اطمئنانها لهذا الجانب.
حرية الصحافة والتعبير في بلدان منطقة الخليج، المنطقة المتشحة باللونين الأحمر والأسود على خارطة مؤشر الصحافة العالمية، الأسوأ عربياً وفي مؤخرة التصنيف العالمي.
بيانات مؤشر حرية الصحافة
مع صدور مؤشر حرية الصحافة العالمية من مراسلون بلا حدود، تظهر دول الخليج محتلةً المراكز الأخيرة عالمياً أو ما بعد المائة في أحسن أحوال بعضٍ منها، وبصورةٍ تؤكد تصنيف مؤشراتٍ أخرى لها بالاستبدادية.
وبشأن تراجع حريات الصحافة في الخليج يتحدث لـ “مواطن” الكاتب وسجين الرأي السابق، عزيز القناعي، عن أسباب ذلك “تراجع حرية الصحافة في دول الخليج، هو أمر متوقع نظراً للدور الذي تقوم به الأنظمة المشيخية منذ إنشائها بتعزيز دور الرقابة على حرية الرأي والتعبير والفكر، مما ينعكس بالتالي على دور الإعلام الصحافي وهبوطه إلى درجات سلبية وهذا يرجع إلى عدة أسباب، هيمنة النظام السياسي الشمولي، خضوع الأنظمة للتيارات الإسلامية، ضعف مؤسسات المجتمع المدني وتدني مستوى الثقافة الديمقراطية”
أما الكاتب والناشط البحريني، بدر النعيمي، فهو يرى أن مؤشر حرية الصحافة العالمي يكشف هشاشة المنظومة الإعلامية الخليجية واستبدادية الأنظمة “فيما يتعلق بدول الخليج فالمؤشرات تكشف مدى هشاشة المنظومة الإعلامية في هذه الدول، فأسباب التراجع مرتبطة بشكل وثيق مع الطبيعة الاستبدادية لدول الخليج فهي لا تؤمن بحرية الصحافة أساساً، والإعلام والصحافة بالنسبة لها مساحة يجب احتكارها وتوظيفها لهندسة الرأي العام”.
ويعلق بشأن مؤشر حرية الصحافة “المؤشرات التي تصدرها الجهات الدولية مثل RSF ذات مصداقية عالية وإن كان عليها بعض الملاحظات من ناحية الانحياز ضد دول معينة”.
على خارطة المؤشر
المملكة العربية السعودية، رغم الإصلاحات الواسعة والخطاب المنفتح لولي العهد منذ العام 2017، لم ينعكس ذلك على مساحة حرية التعبير والصحافة، حيث يصف تقرير مراسلون بلا حدود وضع حرية الصحافة والتعبير في السعودية بأن دائرة القمع في توسع، حيث يضيف التقرير بأن عمليات القمع والرقابة الذاتية حتى على وسائل التواصل الاجتماعي.
تقرير مراسلون لا حدود يشير إلى الغياب التام للصحافة الحرة في السعودية ورقابة السلطات وقوانينها المتعلقة بقمع واعتقال الصحفيين تحت عناوين الخيانة والمس بصورة الدولة والملك أو تهديد الوحدة الوطنية إذا ما أبدوا رأيهم وانتقدوا النظام في قضايا مثل الحرب في اليمن والتطبيع مع إسرائيل.
الصحفيون وسجناء الرأي القابعون خلف القضبان أصبحوا ثلاثة أضعاف العدد الذي كان عليه في العام 2017. رغم ذلك أفرج النظام السعودي مؤخراً عن الناشطة النسوية لجين الهذلول ونشطاء آخرين بعد سنواتٍ من الاعتقال، في خطوةٍ قد يراها البعض محاولاتٍ خجولة للإصلاح أو هرباً من الضغط الدولي الذي شكلته التضامنات العالمية مع النشطاء.
رغم ذلك، يرى الكاتب الكويتي عزيز القناعي بأن السعودية تمضي في عملية تغيير تحسن من أوضاع البلد “أعتقد أن المملكة العربية السعودية اتخذت خطوات اجتماعية في مجال حقوق الإنسان بعد انفتاحها الأخير، وتبين ذلك بعد الإفراج عن الناشطة السيدة لجين الهذلول ومحاكمة قتلة عدنان الخاشقجي وتغيير عدة قوانين فيما يخص حقوق المرأة ومدنية الدولة”.
أما بدر النعيمي فيشكك في مدى جدية هذه الإصلاحات والإفراجات عن بعض النشطاء، إذ يقول: “الإفراجات الأخيرة، وإن كانت خطوة جيدة تصب في صالح الحراك الحقوقي بإرجاع النشطاء إلى الساحة مجدداً ليواصلوا في خدمة القضية، اقتصرت على شخصيات معينة وتحديداً تلك التي تشكل مصدر حرج إعلامي لأمريكا والدول الأوروبية وعلاقتها الوطيدة مع السعودية. لا ينبغي أن نعول على توسع الإفراجات لتطول المزيد من النشطاء أو حتى أنها خطوة نحو الإصلاح فهي مجرد تحرك لمراضاة الإدارة الأمريكية الجديدة”.
ويعبر القناعي أيضاً عن أسفه لغياب هذه الإصلاحات في المنظومة السياسية للمملكة “.. كم كنت أتمنى أن يحظى الجانب السياسي وإصلاحاته بالإشارة في الخطابات السياسية لزعماء المملكة، وخصوصاً في لقاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الأخير”.
جارتها عُمان، والتي أصبحت تواجه الكثير من المشاكل الاقتصادية، وعقب تولي سلطانها الجديد للحكم، خيب السلطان الجديد آمال العمانيين بإصداره نظاماً أساسياً جديداً للحكم في البلاد تجاهل دورهم فيه أو مطالب الشباب العماني.
وفي وقتٍ سابق أعاد النظام العماني إصدار قانونٍ جديدٍ للنشر في البلاد يضع المحتوى الإعلامي تحت الرقابة الأمنية ويحد قدرة الصحافة الحرة على الانتشار في البلاد.
تقرير مراسلون بلا حدود عنون الوضع العماني بسلوك النظام المتعلق بإيقاف الصحف المستقلة، مشيراً إلى أن الرقابة الذاتية في عمان أصبحت القاعدة في البلاد.
السلطان العماني هيثم بن طارق وسلفه، شخصياتٌ غير قابلةٍ للنقد، وبالتأكيد سينتهي الأمر بالناقدين بالإخفاء أو الاعتقال والخضوع لأحكامٍ قاسية حد وصف المؤشر.
هذا وأشار مؤشر حرية الصحافة لإيقاف السلطات العمانية لشبكة مواطن ومجموعة صحفٍ مستقلةٍ أخرى في العام 2017.
الجدير بالذكر أن السلطات في عمان والسعودية قامت بحجب “مواطن” مؤخراً بداية العام 2021، ثم قامت السلطنة بحجب منصة كلوب هاوس في وقتٍ لاحق، في سلوكٍ وصفته مراكز حقوقية خليجية بالاستمرار في استهداف الصحافة الحرة والمستقلة وخوف الأنظمة منها.
الإمارات أيضاً ليست في معزلٍ عن وضع حريات الصحافة والتعبير في منطقة الخليج، إذ يشرعن قانون الجرائم الإلكترونية 2012 فيها الاستهداف القمعي الممنهج لقطاع الصحافة والصحفيين الإماراتيين. الرقابة الأمنية في الإمارات على مساحات التعبير في وسائل التواصل الاجتماعي تُوصف بالمشددة، حيث يتحدث مؤشر حرية الصحافة عن وقوع مدونين وناشطين على وسائل التواصل تحت طائلة القوى الأمنية نتيجة توجيههم انتقادات للحكومة أو أدائها.
الاعتقال والتعرض لسوء المعاملة في مراكز الاحتجاز والمعتقلات هي ما ينتظر الصحفي المستقل أو ممارسي حرية التعبير في الإمارات في طريقهم لنيل أحكامٍ قاسية تحت تهم تشويه سمعة الدولة.
أحمد منصور، مدونٌ إماراتي، يقضي فترة سجنه المقدرة بعشرة سنوات وغرامة مليون درهمٍ إماراتي تحت التهمة السابقة التي وصفتها السلطات الإماراتية بالهادفة للإضرار بسمعة البلاد بعد نشر منصور تغريداتٍ على حسابه في تويتر.
المجتمع الدولي
وأمام النتائج السنوية الصادمة لمؤشرات حريات الصحافة والديمقراطية والمشاركة السياسية في منطقة الخليج التي لا يبدو بأنها تبدي تحسناً، فضلاً عن تراجعها في بعضها، لا يزال الناشطون الخليجيون يرون بأن دور المجتمع الدولي مازال مساوماً أكثر منه ملزماً السلطات الخليجية بقيم الديمقراطية.
يقول بدر النعيمي “المجتمع الدولي أمام مسؤولية كبرى للعمل على إيجاد أرضية مشتركة يمكن من خلالها دعم الصحفيين ووقف التجاوزات بحقهم، إلا أنه لا يمكن التعويل عليه للقيام بأي تحرك جدي إلا في حالات معينة تمس مصالح الدول الكبرى فيما يخص علاقاتها مع دول الخليج..”.
ويستشهد بدر على مساومات الدول العظمى في مسائل حريات الصحفيين وأمنهم، بقضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي وتعاطي الإدارتين الأميركيتين معها “.. قضية جمال خاشقجي خير مثال على ذلك فاستخدمت إدارة ترامب قضية مقتله كورقة مساومة مع السعودية لكسب مصالح اقتصادية وبعد الانتهاء من ذلك حاولت غلق الملف، والمشهد يتكرر اليوم مع إدارة بايدن بإعلاء صوتها تنديداً بالجريمة وبالأخير تم غلق الملف لحفظ علاقتها مع السعودية”.
لا مكان للمعارضة
قطر، والتي جاءت في المرتبة 128، هي نسخةٌ أخرى من أنماط الديكتاتورية الخليجية، حيث يصف مؤشر حرية الصحافة ما يحدث في الداخل القطري بالبقاء طي الكتمان، رغم تبني الدولة لشبكة الجزيرة الإعلامية التي تدعم التحركات الديمقراطية والصحافة في بقية بلدان المنطقة والعالم.
تصف منظمة مراسلون بلا حدود العوائق تجاه الصحفيين المحليين بالترسانة القانونية القمعية والرقابة الحكومية مواجهين ذات التهم والعقوبات التي تواجه أقرانهم في بقية دول منطقة الخليج.
في الكويت، قانون الصحافة يثير قلق لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والذي قالت عنه بأنه يتضمن تقييدات مشددة على حرية التعبير.
الرقابة الحكومية على وسائل التواصل الاجتماعي ومحاسبة ناشطيها تحت تهم تهديد استقرار البلاد أو الإساءة للعائلة الحاكمة أو الدين أو الدول الحليفة، فيما صدرت أحكامٌ وصلت لعشرات السنوات بحق ناشطين كويتيين.
تداعيات الربيع
رغم اتساع مساحة المشاركة السياسية في مملكة البحرين مقارنةً ببقية دول الخليج منذ وقتٍ مبكر، إلا أن أحداث الربيع العربي والمظاهرات المطالبة بإسقاط النظام البحريني العام 2011 كانت كفيلةً بتحول أساليب تعامل النظام الملكي مع المعارضة.
تحت تهم التخريب والإرهاب والتخطيط لقلب نظام الحكم، يواجه الصحفيون البحرينيون أحكاماً قضائية قد تصل للمؤبد أو الحرمان من جنسيتهم، فيما يصف التقرير اقتران اسم البحرين بعدد الصحفيين المحتجزين فيها.
صحفيو الخارج
الصحافة الخليجية في الخارج أيضاً ليست في مأمن، إذ تفيد تقارير منظمة مراسلون بلا حدود بأن سلطات الأنظمة الخليجية تستغل أموالها ونفوذها لتحقيق وصولٍ للصحفيين في الخارج والرقابة عليهم، كان أهم مصاديقها اغتيال النظام السعودي للصحفي جمال خاشقجي واختراقه لهاتف الملياردير الأميركي مالك صحيفة الواشنطن بوست، جيف بيزوس.
تقارير صحفية غربية نقلت ترجمتها “مواطن” تحدث فيها ناشطون عن محاولات السلطات العمانية ثنيهم عن نشاطاتهم مقابل مكافآتٍ مادية وعفوٍ يتعلق بالعودة لبلدانهم.
لا نلمس تغيرًا
رغم استمرار استياء المنظمات الحقوقية الدولية والنشطاء الخليجيين من تدهور وضع الحريات في الخليج، إلا أن السلطات لا تلقي بالاً لمطالب المنظمات والنشطاء، فيما تأتي مؤشرات الحريات والمشاركة السياسية أسوأ من العام الذي قبلها، حيث يغيب تأثير المجتمع الدولي على السلطات الخليجية في تحقيق تحسنٍ في مساحات الحرية والتعبير.
يعلل ذلك عزيز القناعي بقوله “لا يلمس المواطن الخليجي أي تأثير بخصوص هذا الأمر نظراً للقوة السياسية للأنظمة القائمة على التعتيم وتقديم أدلة غير حقيقية حول توافر حرية الصحافة. كما يخاف غالبية الصحافيين في منطقة الخليج من مواجهة الأنظمة وأجهزتها الأمنية والقوانين الجزائية التي تمنع أي تواصل أو تقديم معلومات تكشف حقيقة مجال حرية الصحافة”.
هل تفشل خطط الإصلاح؟
وأمام واقع الحريات في الخليج واستبدادية أنماط الحكم فيها، يرى البعض بأن خطط التنمية الاقتصادية والتحول الاقتصادي الذي تتطلبه العقود القادمة من تحولات الاعتماد على الطاقة النظيفة وتراجع الطلب على النفط تستلزم تحقق تنميةٍ سياسية حقيقية تكفل حريات الشعوب الخليجية ومشاركتها في السلطة والرقابة.
الاستثمارات التي تسعى الدول الخليجية لجذبها في رؤاها المستقبلية لتحقيق تنوعٍ في مصادر الدخل القومية، في قبالة استبدادية الأنظمة الحاكمة وتركز السلطة بيد الفرد، الأمر الذي يزيد مخاوفها من حدوث موجات تحولاتٍ سياسية كتلك التي حدثت مطلع العقد الماضي، الربيع العربي.
أما بدر النعيمي فيرى من جهته بأن دول الخليج تحقق بيئات استثمار مستقرة ومربحة، إذ يقول: “المستثمر” بطبيعته ينظر إلى البيئات الاقتصادية المستقرة والتي تؤمن له الأرباح، ودول الخليج تؤدي هذا الدور بتحكمها على مفاصل الاقتصاد – فهي التي تقود عملية “الإصلاح الاقتصادي” وتحدد ملامحها وسرعتها. سياسات الخليج النيوليبرالية مصممة لتربيح المستثمرين الأجانب وشركاؤهم المحليين”.
الكاتب عزيز القناعي يضيف في حديثه بأنه يأمل أن تترافق نجاحات التنمية الاقتصادية بأدوار مراقبة شعبية برلمانية، إذ يقول: “رغم غياب البعد الديمقراطي عن الأنظمة الخليجية، إلا أن بعض الدول استطاعت المضي قدماً في مجال التنمية الاقتصادية، وهو دور يعبر عن رؤية مستقبلية لتلك الدول، ولكن أمنياتي أن يتلازم مع تلك التطورات مراقبة شعبية برلمانية ومحاسبة للفساد وزيادة مؤشرات الشفافية، وهذه الأدوات لا يمكن أن تحدث أو تقوى إلا من خلال وجود نظام ديمقراطي يعزز الحريات الاقتصادية والإبداع الفكري لاستقطاب المستثمرين ومنافسة الدول المتقدمة”.
ومع تصاعد الأزمات المحيطة بدول مجلس التعاون الخليجي ومحاولتها تفاديها، يبقى الجدل حول قدرتها الاستمرار في النجاة في وقتٍ تستمر فيه بتجاهل الدور الشعبي وحقه في التعبير والمشاركة السياسية والرقابة على السلطة، في مقابل تماهي مصالح المجتمع الدولي مع سلطات الخليج، تبقى حرية الصحافة الفرس الأقصر للاستبداد.