بين الأمس واليوم، كان يصاحب التحركات الإسرائيلية العدوانية بحق الشعب الفلسطيني ردود فعلٍ شعبيةٍ ساخطة وغاضبة على امتداد خارطة العالم العربي في مظاهراتٍ اعتادت المنطقة مشاهدة أحداث شغبٍ بجوار السفارات الإسرائيلية أو الأميركية في المنطقة.
في سباق التطبيع وطموحات نتنياهو بتصفية القضية الفلسطينية، أربع دولٍ عربية أعلنت اعترافها الرسمي بدولة إسرائيل، فيما تقف غائبةً عن مشهد الأحداث في غزة وتل أبيب والقدس المحتلة.
وعلى أصوات أجراس العودة، يحلم فلسطينيو الخارج بالعودة لأرضهم ويواجه فلسطينيو الداخل صلف الاحتلال وسياساته العنصرية بحق أبناء الأرض، فيما تغيب الآن حتى هتافات الغضب عن الشوارع العربية التي أصبحت أكثر انقساماً على نفسها ومساومةً على قضية فلسطين.
في الأمس كان من الممكن أن تكون تهمة تأييد الاحتلال الإسرائيلي هي الخيانة العظمى، أما اليوم ويواجه مؤيدو القضية قيوداً في مساحات التعبير المختلفة، من حقهم في التظاهر في بلدانهم إلى التعبير على بعض وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن تضامنهم مع الأطفال الفلسطينيين الذين تحصدهم آلة الموت الإسرائيلية.
وبين جدل التأييد والمساومة على القضايا الوطنية في قبالة القضية الفلسطينية وسباقات التطبيع وصمت الحكومات، ما يزال الجدال الشعبي في أوجه بين اختلاف توصيف طبيعة القضية لتأييدها أو الوقوف حياداً معها.
قضية إنسان الأرض
كقضيةٍ يراها الكثيرون عابرةً لحدود فلسطين التاريخية، تتحمل القضية الفلسطينية تفسيراتٍ من زوايا أيديولوجية مختلفة، بين القومية والطائفية والدينية، والأخرى الإنسانية، الأمر الذي يثير الانقسام في الداخل الفلسطيني قبل الخارج.
ناشطون عرب يرون بأن القضية الفلسطينية صراعٌ دينيٌ كما تقدمها جماعات الإسلام السياسي يجعل العرب أولى بالنظر إلى شؤونهم الداخلية بدل الدخول في صراعاتٍ ميثولوجية لا وزن لها سوى مزيدٍ من الأزمات الداخلية والإقليمية، فيما يخالفهم آخرون في رؤية القضية من هذا المنحى.
فارس العلي، الصديق الكاتب والشاعر الجميل الذي عاش تجربةً سياسيةً مريرة في الربيع اليمني كمثقفٍ يرفض كل صور الرجعية الدينية والقبلية، وشابٍ يحلم بمدنية الدولة والمجتمع حتى تكسرت أضلاعه في مواجهات العنف التي لقيها المتظاهرون العُزّل في صنعاء إبان احتجاجات الربيع العام 2011.
يبدأ فارس حديثه معي في “مواطن” بعيداً عن أسئلتي ليقول “قبل أن أجيب عليك، بعيداً إلى حد كافٍ عن الانتماء، فلسطين قضية يمكن لإنسان الأرض التضامن معها، هذا ليس موقفاً دينياً أو قومياً قدر ما هو متلازمة إحساس التوطين فينا بضرورة الاعتراف بعلاقة المكان ومعطيات الانتماء المصيرية وتكويناته تجاه وطنه وبالتالي تأتي المواقف التي رفضت أنا بداية هذه الجملة تأطير رأيي من خلالها، وهنا أبدأ الإجابة على أسئلتك”.
واحدة من أهم تباينات الحديث عن القضية الفلسطينية في الأوساط العربية والدولية هي التوصيف الطبيعي لحقيقتها أمام السير التاريخي لمشاريع التحرر والمقاومة، فتباينات توصيف حقيقة القضية الفلسطينية ودوافع التعاطف معها لا تقف فقط على تظافر دعمها وإنما لتتحول في دوافع انقسام وتبدل المواقف تجاهها وتجاه المحتل.
الكاتبة والناشطة النسوية إيمان البشاري ترى أن أسباب تراجع الشعبية للقضية الفلسطينية هو تقادم الزمن عليها وتمييعها في توصيفات طبيعة القضية حيث تقول “من أسباب تراجع شعبية القضية الفلسطينية أن الجيل الذي شرد واضطهد من قبل الكيان الغاصب قد مات وماتت معه ذكريات التهجير والاعتقال والكفاح واغتصاب الأرض ،ومن الأسباب أيضا اختفاء الحس القومي الذي كان طاغيا عند كثير من العرب، وإفلاس رجال الدين الذين جعلوها قضية دينية مرهونة بخرافة مقدسة”.
تضيف إيمان “إن وراء الأصوات المحايدة والمؤيدة لإسرائيل تفكير نفعي مؤقت زائل بزوال الفائدة أو كما يسمونه (واقعية سياسية)”.
يكمل فارس حديثه حول لغط التوصيف وتبايناته لحقيقة طبيعة القضية الفلسطينية: “فلسطين بلد عربي مقدس مثل مكة القِبلة الاسلامية، و للأسف لا نتذكر من هذا التضامن سوى التعصب الذي يجعلنا بين موقفين ربما يبدوان متشابهين من القومي إلى الديني، هذا ما سيجعل لزاما على موقفٍ أين كان في آسيا وأوروبا وإلى أمريكا، أن يوحدهم شعور إنساني تجاه شعب يتعرض لنفي وجوده من أرضه بغض النظر عن التقولات التاريخية غير المثبتة”.
وأمام عقدة القداسة هذه يتحول التوصيف العربي للقضية الفلسطيني لعائقٍ أمام تضامناتٍ أوسع وأكبر هي الوجه الحقيقي للقضية الفلسطينية من رؤية فارس، التضامن الإنساني لشعوبٍ يوحدها شعور الوطن للتضامن مع شعب يمحى من أرضه.
تطبيع الاستبداد وتطبيع الاحتلال
الكاتب والروائي الكردي السوري، جان دوست، في مقالٍ له على حائطه في فيسبوك وهو يعتقد بعدالة القضية الفلسطينية يرى أن مفهوم التطبيع مع إسرائيل مفهومٌ فضفاضٌ لا يعني قطع كل ارتباطٍ به الانتصار للقضية الفلسطينية، فالتطبيع مع الطغاة والحكام المستبدين العرب الذين يقمعون شعوبهم ويتاجرون بالقضية الفلسطينية هو أبشع من التطبيع مع إسرائيل، ويستعرض قضية الشعب الكردي المقموع والمقسم بين عدة دولٍ في المنطقة كقضيةٍ أخرى لا تقل إنسانيةً عن قضية شعب فلسطين، وحكومات الاستبداد هي العائق الأول أمام انتصار قضية فلسطين.
أما علوي المشهور فيقول في حديثه: “أعتقد بأن هنالك الكثير من القضايا الملحة في العالم العربي وليس القضية الفلسطينية لوحدها، ومعالجة مشاكل التخلف والفساد والاستبداد في دولنا العربية سيسهم في تحرير وانتصار القضية الفلسطينية”.
ويقول علوي في حديثه حول دور المشاعر الشعبية تجاه القضية الفلسطينية لشعوب المنطقة بقوله: “لا يمكن التعويل على حكومات استبدادية لا تمثل شعوبها في تحقيق الاستقلال للفلسطينيين أو أن تقف معهم مواقف مشرفة وداعمة لهم، فلا يمكن أن ننتظر من مجتمعات لا تتمتع بأبسط الحريات أن تخرج للتعبير عن أرائها وترفض الظلم والاستبداد وتناصر المظلومين”.
يضيف علوي المشهور: “ما لم تصل الشعوب العربية أعلى الهرم السياسي في السلطة فستبقى رؤاهم ومشاعرهم تجاه القضية الفلسطينية بعيدةً من التحقق على الواقع في السياسات التي تتخذها بلدانهم”.
الكاتب والروائي عبد الرحمن الخضر وهو يرى بأن المشكلة ليست مقتصرةً على موقف الشعوب العربية قبل الموقف الوطني في فلسطين، وهو يتحدث عن الحل المتداول لحل القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي: “دائماً ما يرددون (حل الدولتين)، لم يفكر أحد في حل الدول الثلاث، سيفتح الجميع أعينهم متأخرين ليجدوه وحده ممكناً هناك” في إشارةٍ منه للانقسام الحاصل جغرافياً وسياسياً وأيديولوجياً بين الضفة الغربية وغزة وامتدادات فصائلها خارج فلسطين ومن ورائهم اللاعبون الإقليميون.
الانقسامات الشعبية
بالتأكيد، يمكن بمراجعة محتوى وسائل التواصل الاجتماعي العربية حصول العلم بداهةً بمستوى التضامن الشعبي العربي بملاحظة وجود تفاوتٍ كبيرٍ في المواقف تجاه القضية الفلسطينية بالتزامن مع الجدل الساخن حول أحداث الشيخ جراح والقدس وصواريخ حماس على تل أبيب وقصف الكيان الوحشي للمدنيين في غزة.
الكاتب والشاعر فارس العلي يرى في ضوء ذلك أنه مهما كان طبيعة التضامن الشعبي العربي مع القضية الفلسطينية فإنه لا يغير من واقع الاحتلال الإسرائيلي وعدالة القضية الفلسطينية وأحقيتها.
يقول فارس حول رأيه هذا: “لا أحب الكلام كسياسي لأنهم كثيرا بلا أخلاق وليشفع لي القارئ هذا الاستخدام التعبيري لموقفي كشاعر أولا و ككاتب بمعناه غير التخصصي تماماً، لكن شعبية قضية فلسطين تراجعت أو تقدمت هي في الأخير مبنية على ردود فعل في إطار إما ديني وإما قومي وبالتالي نعود للسؤال الدائري نفسه، هل للفلسطينيين كشعب حق الاحتفاظ بأرضهم، السؤال نفسه الذي تتضامن معه منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية والشعوب العربية والعالمية وباقي الانتصارات التي تحققها إسرائيل تفاصيل لا معنى لها و إن وجدوا عظمة أو معثورة ضائعة ليهودي في فلسطين”.
علوي المشهور، وهو ناشطٌ عماني على وسائل التواصل الاجتماعي يدعم القضية الفلسطينية ويوجه خطابه لآلاف المتابعين على حسابه، يرى أنه رغم وجود هذه الأصوات السلبية الموقف من القضية الفلسطينية، إلا أن حراك الشارع الفلسطيني الأخير أثار الشارع العربي بصورةٍ أكثر مما كانت تثار سابقاً، ويرى بأن هذه الأصوات أصبحت هي من يقمع ويمنع من التعبير عن آرائه في وسائل التواصل، حيث يواجه الكثيرون قيوداً على التعبير عن آرائهم في الشأن الفلسطيني على مواقع مثل فيسبوك وانستغرام.
يقول علوي “لو سألتني هذا السؤال قبل فترةٍ لكنت قلت لك بالتأكيد لم يعد هنالك حضور للقضية الفلسطينية، ولم تعد القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية أو حتى لأحرار العالم، لأنها كانت غائبة لحدٍ كبيرٍ في العقد الماضي، لكن الأحداث الأخيرة أعادت القضية للمشهد وأحيتها، فما يحصل الآن صرخة في وجه كل الدول المطبعة والمتخاذلة وأولئك الذين اعتقدوا بأنه لم يعد هنالك مجالٌ للمقاومة، لذا قد نتوهم أن الأصوات المحايدة أو المعارضة للقضية الفلسطينية هي كبيرة”.
يضيف المشهور: “في الواقع الفارق الآن هو أن هذه الأصوات المعارضة للقضية الفلسطينية لم يكن لها في السابق منبر للتعبير على العكس منه الآن في وسائل التواصل الاجتماعي، بل إن افتراض وجودها كان بمثابة العار، أما الآن فأصبح الكل قادراً على التعبير في وسائل التواصل، ولكن بالتأكيد وجهات النظر هذه لا زالت تمثل أحاداً ولا تمثل شريحةً واسعة من أبناء المجتمع”.
سباقات التطبيع
الإمارات، البحرين، السودان والمغرب، دولٌ عربية كانت عناوين التطبيع مع إسرائيل المحتل للأراضي الفلسطينية دونما حلٍ نهائيٍ للقضية العام 2020، في صورةٍ رآها بعضهم سعيًا لتصفية القضية وإنهائها، وحضور إسرائيل في دولٍ على امتداد خارطة العالم العربي والسباق مستمر لتجميل المحتل وشرعنة احتلاله.
يقول فارس العلي أن سباق التطبيع هذا ليس إلا محاولة الدول العربية ركوب موجة الحداثة الاقتصادية وإعادة التموضع في معسكرات المنطقة: “يد إسرائيل الطبيعية امتدت لموقع المصالح وبالتالي حداثية اقتصادية تحاول التملص والتخلص من التزاماتها تجاه الموقف بالنسبة للعرب وهاهم يتهافتون ليكونوا بلدانا تمثل الرؤية العلائقية الحديثة بالحياة غير أن كل هؤلاء ليسوا سوى مستخدمين لبرنامج مرسوم منذ قرن مضى لنفس فكرة الاستعمار ونظرية التشرد التي نتعاطف مع يهوديتها داخل الأفلام والروايات المؤلمة لتشرد شعب اليهود ونكسته…”.
ويضيف أن هذه المواقف المتناقضة والمتضادة العابرة للحدود لها أثرٌ في تاريخ المزايدة والمتاجرة بالقضية الفلسطينية: “..وَلَكَمْ زايد الكثير بقضية فلسطين لإدرار الدخل من مؤسسات ومنظمات أيديولوجية حاكمة استعرت بتمظهرات لا تقدم لفلسطين شيئاً قدر ما تربح وجودنا وسط أفخاخها الإعلامية الأيديولوجية، مثلها مثل إسرائيل، وبالتالي تخلقت هذه المواقف العابرة لحدودها السياسية والقومية والدينية والأخلاقية حتى، درجة أنك لن تصبح جزءًا ثابتًا من أي موقف وهو ما يعيشه الموقف العربي وغير العربي بمواقف رومانسية غاية في السخرية”.
أما علوي فيقول: “الكيان الصهيوني ما يزال يحاول الانتصار في معركته مع الشعوب العربية، فنتنياهو صرح أكثر من مرة بأن العقبة أمامه هي شعوب دول المنطقة، ولذلك رأينا حملات شعبية تبرهن على ذلك، يجب أن نستمر في ذلك مهما طبعت الحكومات وأن نشعر هذا الكيان بأنها طارئ وغريب لا مكان له في هذه المنطقة وأنه إلى زوال”.
ويضيف: “نتنياهو انطلاقاً من فهمه لمواقف الشعوب العربية، فهو يدفع إلى عدم ظهور هذه المشاعر على وسائل التواصل بأن لا تظهر كمية التضامن الشعبي، ليس فقط في العلام العربي وإنما في العالم أجمع، إنها نموذج يذكرنا بدولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وهذه الدولة خسرت رغم كل تقدمها وقوتها والدعم الذي تتلقاه”.
وبين أحلام الإنسانية ووحشية العدوان وتساؤلات حول جدوى أفعال المقاومة المسلحة أمام صلف المحتل وحجم الخسائر في أرواح المدنيين، يبقى النقاش محتدماً في معسكر مؤيدي القضية الفلسطينية في دعوةٍ لإيجاد طرق موضوعية أخرى للمقاومة والتحرر وكسب أصوات إنسان الأرض.
يقول فارس العلي عن ذلك: “(القدس عروس عروبتنا) كما قال النواب العظيم، لكن ليس بقصده وإنما بمعنى القضية الإنسانية التي لا يجب أن يتخلى عنها الضمير الإنساني.. كيف لبلد أن يفر من بين تكوينك وكيف للتراب أن ينكرك!”