أحيانًا ينسى الناس في تعاملهم مع الأنشطة المجتمعية أو الثقافية لعائلة ساويرس أو غيرهم من رجال الأعمال أنهم يتعاملون مع عقلية تجارية بالأساس، وليس جمعية خيرية ولا اتحادًا للنقابات الفنية. يتسبب هذا النسيان أو عدم الإدراك للطبيعة التجارية لعائلة ساويرس -واحدة من أكبر وأنجح الإمبراطوريات الاقتصادية في مصر والمنطقة العربية- في الكثير من اللغط والارتباك وسوء الفهم.
كيف يفكر التجار؟ بحسابات المكسب والخسارة، إجابة بديهية. وما الذي يريده أي تاجر؟ المزيد من المكاسب بديهية أخرى، ولكن كيف يحقق ذلك؟ هناك طرائق متنوعة وفقا لرؤية كل تاجر هناك من يركز على جودة المنتج، وآخر يهتم بكفاءة التشغيل، وغيرهما من يجني مكسبه من سياسات التسعير، لكن إتقان كل ما سبق لا يضمن تحقيق المكسب؛ فالأمر يتوقف على أداة أساسية يحتاجها كل تاجر وهي “التسويق”.
تدرك عائلة ساويرس صاحبة الثروة المليارية مدى أهمية وفاعلية التسويق في عالمنا المعاصر؛ فمن خلال التسويق يمكنك حرفيا أن تبيع للناس الهواء في زجاجات، وفعليا نجحت حملات التسويق في تمكين الشركات الكبرى من تعبئة مياه الشرب في زجاجات بلاستيكية رديئة وبيعها بمكاسب طائلة في بلد النيل.
وقبلها بسنوات مكنت حملات التسويق الشركات ذاتها من تحويل المشروبات الغازية إلى رمز للانتعاش والسعادة وجعلها منتجًا أساسيًّا على طاولة الأسرة المصرية، ونظرا لأن عائلة ساويرس على حد علمي لا تستثمر مباشرة في بيع مياه الشرب أو المياه الغازية؛ فاختارت الاستثمار في الهواء عن طريق تعبئته وبيعه للجمهور من خلال بعض المهرجانات والأنشطة الثقافية.
فقاعة دعائية
في شهر سبتمبر عام 2017 انطلقت الدورة الأولى من فعاليات مهرجان الجونة السينمائي وسط دعاية كبيرة مدفوعة الأجر لم تحقق الصدى المنتظر؛ فالمهرجان الوليد لم يقدم أي جديد في عالم المهرجانات السينمائية، وبدا كفقاعة دعائية رديئة لمتنجع الجونة السياحي المعزول على شواطىء البحر الأحمر، حتى جوائز ومنح المهرجان المالية لم تكن مغرية لصناع السينما مقارنة بمخصصات المهرجانات السينمائية الخليجية السخية.
بلغة السينما “أنت تخسر يا شمس، وف كارنا ده اللي بيخسر بنسلخ وشه” هكذا أتخيل المشهد في اجتماع العائلة المالكة مع أعضاء الشركة المسؤولة عن تأسيس وإدارة المهرجان عقب الدورة الأولى، تحدث الملاك بغطرسة المارشال برعي في فيلم “شمس الزناتي”، بينما بدت أحلام ووعود فريق العمل في التلاشي بعد دورة مخيبة للآمال.
تدرك عائلة ساويرس أنه لا يصح الحكم على مشروع من دورته الأولى؛ فمعظم المشروعات لا تحقق أرباحًا في بدايتها
بحسابات المكسب والخسارة تدرك عائلة ساويرس أنه لا يصح الحكم على مشروع من دورته الأولى؛ فمعظم المشروعات لا تحقق أرباحًا في بدايتها. الأمر يحتاج مزيدًا من الوقت، لكن من الصعب تجاهل المؤشرات التي تمنحها لنا البدايات؛ لذلك تحملت العائلة تكلفة الدورة الأولى كاملة، لكنها لم تفعل ذلك في الدورات التالية.
وفقًا لتصريحات عمرو منسي المدير التنفيذي للمهرجان في مقابلة مع وكالة رويترز في سبتمبر عام 2018، بلغت ميزانية الدورة الأولى حوالي 60 مليون جنيه، تحملها الأخوين نجيب وسميح ساويرس كاملة، بينما في الدورة الثانية تم تخفيض الميزانية كما نجحت الشركة في اجتذاب مجموعة من الرعاة تحملوا نسبة 35% من تكلفة المهرجان. وأضاف منسي: “نتطلع لجذب المزيد من الرعاة، أو الحصول على دعم أكبر من الرعاة الحاليين إضافة إلى تطوير أفكار أخرى للتمويل حتى نضمن استمرارية المهرجان وتوفير موارد دائمة له”.
عائلة كورليوني
يعتمد نموذج عمل مهرجان الجونة السينمائي على مفهوم الدعاية غير المباشرة، بمعادلة بسيطة يخصص منتجع الجونة سنويًا بندًا أساسيًّا ضمن قائمة المصروفات تحت عنوان “الدعاية والعلاقات العامة” لا تضمن هذه المصروفات عوائد مالية مباشرة، لكنها تنعكس بصورة إيجابية على كفاءة معدلات التشغيل وسمعة المنتجع.
لكن ماذا لو استثمرنا هذه الأموال في مهرجان سينمائي يحضره مئات من النجوم وأنصاف النجوم المصريين والعرب من العاملين في صناعة السينما والإعلام بدون أن تدفع إدارة المنتجع مقابلًا ماديًّا لهم، فقط ستتحمل تكلفة تنقلاتهم وإقامتهم لعدة أيام؟ وفي المقابل يقدمون سنويًا فقرات دعائية مجانية غير مباشرة للمنتجع، ولعائلة ساويرس بوصفهم رعاة الفن والثقافة.
بدت الفكرة مثالية وزهيدة الثمن للدون الكبير؛ فالمشروع قائم على مكاسب متبادلة للعائلة والفنانين، وجمهور المنتجع هو من يتحمل التكلفة في النهاية؛ فقريبًا سيتمكن زوار المنتجع من مشاهدة صورة حية من فيلم “The Godfather” على شاشات عرض كبيرة في قلب مدينة الجونة، لذلك تسامحت العائلة مع أخطاء الدورة الأولى في مقابل التمتع بلذة الصورة المتخيلة للعائلات الأمريكية الكبيرة، بكل نفوذها وسلطوياتها المالية والخيرية.
دعاية الأزمة
بالتزامن مع فعاليات الدورة الثانية من المهرجان قرر المخرج والمنتج محمد خضر أن يضرب كرسيًّا في الكلوب ويخرج كواليس وصراعات المنظمين على الملأ، متهمًا ثلاثة من مؤسسي المهرجان وهم: الفنانة بشرى رئيس العمليات والمؤسس المشارك لمهرجان الجونة السينمائي، وكمال زادة المؤسس المشارك والمدير العام، وعمرو منسي منظم الفعاليات الدولية والرئيس التنفيذي لشركة آي إيفنتس، بسرقة فكرة المهرجان منه وذكر خضر أنه صاحب فكرة مهرجان الجونة ونشر صور من السجلات التجارية الخاصة بتسجيل الشركة بينهم.
الضجة الإعلامية التي أحدثتها اتهامات خضر، أخرجت المهرجان من عزلته، وجعلته مادة يومية على صفحات الجرائد ووسائل التواصل الاجتماعي، ورغم ما تركته من أثار سلبية في سمعة المهرجان ومنظميه، إلا أن العاملين في مجال التسويق يمكنهم الاستفادة حتى من الدعاية السلبية، وأحيانًا يسعون لصناعتها؛ لقدرتها الكبيرة على أحداث صدى هائل لم يكن ليتحقق بوسائل الدعاية المعتادة، مراهنيًا على أن الآثار السلبية تنسى مع الوقت ويمكن استبدالها بحملات دعائية غير مكلفة تعزز من الصورة الإيجابية.
منذ هذه اللحظة التقطت عائلة ساويرس ومنظمو المهرجان فكرة الدعاية السلبية، وأصبحت الأزمات والصراعات الوهمية هي العنوان الأبرز للمهرجان المعزول؛ بالتزامن مع كل دورة جديدة لمهرجان تتصدر ملابس الضيوف وتصريحاتهم المثيرة للجدل مواقع السوشيال ميديا، كما تطرح للنقاش أسئلة وأفكارًا من نوعية ما مدى جدوى المهرجان على صناعة السينما المصرية، وهل المهرجان مخصص للفساتين والتصوير على السجادة الحمراء أم لمشاهدة الأفلام؟
وهي تساؤلات جادة ولها كامل الاحترام لكنها في غير موضعها؛ فالمهرجان أسس كأداة تسويقية للمدينة الساحلية، وللأسف مع تكرار هذه النقاشات صارت مادة ساخرة، وتحولت إلى حملات تسويقية للمهرجان؛ فالصراعات والمشادات والصياح الجماهير الرافض للمهرجان على منصات التواصل الاجتماعي تترجم إلى عوائد مادية يدفعها الرعاة لإدارة المهرجان المتصدر للتريند، كما تحظى عائلة ساويرس بمساحات إعلامية وإعلانية مجانية في معظم الصحف والقنوات الفضائية بفضل هذه الصراعات.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.