الفن: صراع العاطفة والذاكرة والتأريخ:
ليست السينما فنًّا يقتصر على متعة الفرجة أو التصوير ولا حتى مجرد التأريخ لكن ما يميزه أبعد من ذلك بكثير فهو فن له قدرة هائلة على إعادة تشكيل صورة العالم في ذاكرتنا البصرية، وصورتنا عن أنفسنا من خلال الفيلم أو من خلال المادة المقدمة.
هو عمل دؤوب من أجل التقاط مختلف قطع أحجية الصّور المقطّعة أو القصة المقطعة والمشاعر المقطعة والتاريخ المقطع هو إعادة تركيب وتفكيك للعالم كما يبدو في ذاكرة الناس أو في ذاكرتنا الخاصة أو في الذاكرة الجمعية.
ورغم أن التكنولوجيا المستعملة في صناعة الأفلام وكثافة الأفلام المقدمة قد تغرقنا في بحر من المواد الاستهلاكية التي ننبهر بها لبرهة ثم ننساها، إلا أنه لا يمكن لمتفرج حقيقي ألا يميز فيلما جيدا من بين المئات غيره بغض النظر عن جودة الصورة والصوت، وخاصة الناس المهووسين والمسكونين بالحكايات، وهذا ما سيحصل لك وأنت تشاهد حربًا باردة للمخرج البولندي بافل بافليوكوفسكي الذي يأخذك لعوالم ساحرة بالأبيض والأسود لتغوص معه في قلب الحكاية.
حكاية الفن الذي حاول أن ينسى ويلات الحرب ويغني للحياة الأخرى الممكنة رغم بؤس الواقع، الفن بعيون أهله وأصواتهم التي تشبه الجبال والأرياف التي خرجت منها، إنها حكاية الذاكرة الخاصة التي ترجمت عبر العاطفة الممزوجة باللحن، هي قصة التأريخ الذاتي الذي من خلاله نحاول أن نؤرخ لأنفسنا. محاولين أن نبقي أثرًا أن نكتب قصتنا الذاتية في الذاكرة خوفا من العدم والفناء في محاولة للمضي قدما في عوالم الخلود المزعومة قبل أن يلتفَنا النسيان والفراغ.
لزمن غير بعيد سيطرت قصص الحب على عالم السينما وباعت من خلالها شركات الإنتاج الكثير من الأفلام وسوقت لنماذج العلاقات العاطفية لسنوات طويلة لكن راهنًا فقدت هذه القصص الألق الذي كانت تحظى به خاصة في عوالم أصبح الحب فيها مسألة سهلة دعمتها مناخات الحريات الفردية والسياقات العالمية التي كرستها الديمقراطيات لمدرسة مابعد الحداثة ومدارس الحقوق الليبرالية ومواقع التواصل الاجتماعي راهنا.
لكن أن ينسج مخرج ما قصة حب ذات طراز كلاسيكي وتحظى بهذا الألق الذي في ظله ركب مخرجنا الأبعاد التاريخية وأرّخ للسياقات العالمية التي في إطارها حصلت أحداث الفيلم فهذا إبداع يجعلنا نتأكد أننا أمام مخرج من طينة استثنائية ولا يمكن أن يغيب طابع الإبداع في كل تفصيلة من تفاصيل الفيلم من الموسيقات إلى زوايا التصوير إلى الشخوص المختارة إلى الديكور.. إلخ.
تنقسم العملية السينمائية عادة إلى عدة وحدات أو عدة عمليات تنقسم بين عدة شخوص، وتعد كتابة السيناريو من أهم الحلقات فالسيناريو أو القصة أو الحكاية هي التي ستتعلق بها أو تتركب على أساسها مختلف العمليات الأخرى من إدارة تصوير ومونتاج وديكور وملابس في محاولة تحقيق الحكاية.
ويعد دور المخرج دائما هو الربط والتنسيق بين مختلف هذه الحلقات ليحاول تحقيق النص ولذلك فإن المخرج والسيناريست أكثر شخصين عليهما أن يجلسا طويلا للحديث حول النص والاتفاق بين المخرج أو محقق العمل هو الفيصل في الصورة التي تصلك على الشاشة في نهاية المطاف.
وأنت تشاهد فليم "Cold War" لأول مرة لا يمكن أن تشك للحظة واحدة أن المخرج إما أن يكون هو من كتب السيناريو وإما أن السيناريست والمخرج على علاقة قريبة وطيدة من الصداقة والاتفاق الفكري والأيديولوجي.
وفعلا نكتشف أن مخرجنا هو صاحب السيناريو الذي يؤرخ فيه لقصة والديه التي عايش جزءا منها ونقل من خلالها ويلات الحرب والهشاشة التي خلفها النظام الشيوعي في عهد ستالين في المستعمرات التابعة للاتحاد السوفياتي خاصة بولند.
ويبدو هذا الأثر واضحًا في التركيبة الفيزيولوجية وبسيكولوجية للناس في تلك الفترة من الشعور بالمراقبة الدائمة والخوف الدائم والقلق من القرارات المسقطة التي يضطر الفنانون في تلك الفترة إلى تنفيذها لتبييض صورة النظام الشيوعي الستاليني الذي كانت الكثير من المستعمرات ترزح تحت وطأته كما هو الحال بالنسبة لبولندا في فترة الحرب الباردة.
فيلم أكبر من مجرد قصة حب هو إدانة مباشرة للنظام الستاليني في فترة الحرب الباردة:
لم يتوانَ النظام الستاليني في فترة حكمه من استعمال الثقافات المحلية لتبييض صورة النظام الشيوعي ولترسيخ ثقافة هجينة غريبة عن الجانب المحلي للمستعمرات، تبدأ القصة بإحياء التراث المحلي لجلب الجمهور وسرعان ما يحل محلها فن السلطة والنظام الذي يكرس تواجد السلطة داخل المستعمرات.
ويظهر ذلك في الفيلم من الإحراج الذي وضع فيه فيكتور إذ لم يكن له الخيار ليختار أن يؤدي أغنيات تمجد النظام بل إن مجرد مناقشته للمقترح كان علامة إدانة له ولم يكن أمامه إلا الهرب نحو فرنسا التي كانت تعد ملجأ يطيب فيه العيش، فيها هامش من الحرية بمعناها الليبرالي اليوم من حريات النشاط خاصة في المجال الفني بالإضافة إلى انتشار الحرية الجنسية خارج الأطر الرسمية والعقود المدنية وبداية ترسيخ الحريات الفردية.
وبين هذا الخيار الذي دفع إليه فيكتور بطل الفيلم وبين الخوف من المغامرة والمجهول واختيار الأسهل بالنسبة لزولا يضع المخرج البلدين بولندا وفرنسا على قائمة المقارنات بين بلد تنمو وتزدهر فيه الحريات الشخصية وآخر يكون حتى النفس فيه مراقب وهو الذي يعد إدانة واضحة للنظام الستاليني ومن خلاله إدانة للحروب التي تترك آثارًا مروعة في أنفس البشر والمبدعين.
كل هذا وأكثر ينسجه بافيل في أنتلجنسيا مختلفة ممزوجة بالموسيقى ليخط أسلوبه الخاص في عالم السينما بالأبيض والأسود على مشارف القرن الواحد والعشرين إذ أصبحت ألوان وجمالية الصورة هي الأساس الأول للتسويق التجاري للفن الهابط ليقف مخرجنا ليقول “الحكاية أولا… الحكاية آخرًا”.
وطبعًا، فهذا لا ينفي أبدا أن للتصوير في حرب باردة كانت له جماليته الخاصة، خاصة اختيار زاوية الكاميرا والألوان التي تشعر المتفرج بالحنين وربما هو الذي يشعر به مخرجنا وهو يسرد قصته ويؤرخ بها لنفسه ولجزء كبير من تاريخه الشخصي والجمعي كمواطن بولندي.
فرقة مجموعة مازوفيا: الهامش متصدرا المشهد:
تعد فرقة مازوفيا من أهم الفرق في بولندا وفي العالم التي انشغلت في بداياتها بجمع وإعادة التراث الغنائي البولندي. بدأت الفرقة نشاطها الرسمي بعد إصدار وزارة الثقافة والفنون مرسوما في 1948 بهدف إنشاء فرقة شعبية ترتكز عروضها على الأغاني التراثية ورقصات قرية المازوفيا.
وراح منظمو الفرقة يطوفون في القرى من أجل البحث عن مواهب فنية شابة لتنضم للفرقة، وبالفعل نجحت المهمة في جمع الأصوات التي ستصدح بالأغاني وبدؤوا مراحل التدريبات الصوتية والرقص.
وقدمت الفرقة عام 1950 أول عروضها على المسرح البولندي في وارسو حيث الغناء الشعبي والرقص واستعادة روح بولندا من جديد هذا باختصار تاريخ بدايات فرقة الـ”مازوفيا”، والذي استلهمه بافليكوفسكي وأعاد تقديمه و تشكيله في حربه الباردة.
نجح بافيل في التأريخ لنفسه عبر حكاية والديه فقد ذكر بأن القصة حقيقية، كما أرخ لجزء من مواطني بلده خاصة الفنانين والمبدعين الذين عانوا من ويلات الاستعمار الذي لايختلف عن استعمار رأسمالي أو شيوعي فقد كانت آثار الحرب بادية على سمات ووجوه الناس وهو الأمر الذي بدا ظاهرا على ملامح البطلة التي حتى في أشد لحظات نجاحها وازدهارها وسعادتها، كانت نظرة الحزن الدفين التي تحتل عينيها ترافقها طوال خط الزمن في الفيلم.
الشيء نفسه ينطبق على البطل الذي نجح من خلال الحزن الذي يسكن ألحانه التي يسكبها على جمهور تواق للحرية كما ينطبق على كافة شخوص الفلم وهكذا أنتج بافيل أنتلجنسيا تعبق بالحنين مرصعة بوريقات تاريخية تلخص مأساة الشعوب التي مرت عليها الحرب وخلفت في أعماق الناس جراحا لا تندمل.