معاناة حقيقية يمر بها العالم أجمع، جراء انتشار فيروس كورونا المستجد “كوفيد 19″، الذي ظهرت بوادره منذ أواخر عام 2019، وما زال مستمرا إلى الآن، بمتحورات ربما تكون أكثر شدة، لكن بالرغم من كل الآلام التي خلفتها الجائحة، إلا أنها لم تكن الأولى التي يشهدها الكوكب الأرض، بل عاشت العديد من الدول في الكثير من الأوبئة، ومنها بالطبع القابعة في الوطن العربي.
الأوبئة تحصد أرواح المصريين
ولنبدأ من العاصمة المصرية “القاهرة”، التي شهدت في مطلع القرن التاسع عشر العديد من الأوبئة، وعلى رأسها الكوليرا والجدري والطاعون، وفي ذلك يقول الدكتور عبدالخالق فاروق، في مؤلفه (الصحة وأحوال الفقراء في مصر): “عندما جاءت قوات الحملة الفرنسية (1798-1801) بقيادة نابليون بونابرت؛ وصحبت معها عشرات من العلماء والأطباء، جرى أول وأكبر وأكمل مسح صحي ومرضي في البلاد، وحددت الأمراض المنتشرة بين المصريين ووسائل العلاج والسحر البدائية، التي كانت مستخدمة في علاج تلك الأمراض والأوبئة”.
ووفقا لـ”فاروق”، قدر أطباء الحملة الفرنسية نسبة المصريين الذين يموتون سنويا بسبب انتشار وباء الطاعون بحوالي 7% من إجمالي السكان، أما الأطفال أقل من 3 سنوات، فقد كانت نسبة الوفاة بينهم حوالي 60% سنويا، مشيرا إلى أنه “عندما تولى محمد علي حكم مصر عام 1805 لم يكن عدد المتعلمين يزيد عن ۲۰۰ شخص؛ لكن في نهاية عهده عام 1848 بلغ عدد الملتحقين بمراحل التعليم المختلفة حوالي 9 آلاف شخص”.
قدّر أطباء الحملة الفرنسية نسبة المصريين الذين يموتون سنويا بسبب انتشار وباء الطاعون بحوالي 7% من إجمالي السكان، أما الأطفال أقل من 3 سنوات، فقد كانت نسبة الوفاة بينهم حوالي 60% سنويا
وعن طبيعة الأمراض التي انتشرت آنذاك، تقول رشا عدلي في مؤلفها (القاهرة: المدينة والذكريات): “الوباء الأكثر رهبة وخوفا وبطشا هو الكوليرا، الذي تتابعت زياراته على مصر، خلال أعوام 1831، 1848، 1850، 1855، 1865، ولم يكن معروفا خلال زيارته الأولى للبلاد عام 1831، فترة حكم محمد علي (1805-1848)، لذلك حصد الكثير من الأرواح”.
وعلى إثر ذلك، أشار مسيو ميمو، قنصل فرنسا العام بالإسكندرية آنذاك، على محمد علي بإنشاء “الانتدانتس سانتير”، وهي إدارة صحية لمتابعة الأوبئة، والعمل على عدم انتشارها، وأقامت الحجر الصحي في البلاد الساحلية، مثل الإسكندرية والسويس والعريش ودمياط، وقررت مدة حجر للسفن القادمة عن طريق البحر، حتى يتأكد أنها خالية من أي وباء.
في السياق ذاته، يؤكد عصام عبدالفتاح، في كتابه (أيام محمد علي: حكاية رجل سبق عصره.. عبقرية الإرادة وصناعة التاريخ)، أنه كان من ثمار البعثات التي أرسلها محمد علي إلى الخارج، اتباع المنهج العلمي في التعامل مع المشكلات الصحية؛ إذ أجرى تطعيما ضد الجدري، كنوع من الحماية من هذا المرض، ووفر العلاج المجاني للطبقات الفقيرة.
وعن الإجراءات التي اتخذتها دولة محمد علي آنذاك، يوضح بسيوني زكي سالم، في كتابه (تاريخ وتطور الرعاية الصحية الأولية في مصر)، أنها مرت بعدة مراحل؛ إذ إنه في عام 1833، أقيم مكتب كورنتينا (حجر صحي) في العريش شمال شرق مصر، لمراقبة القادمين برا من سوريا، ثم عين الطبيب الفرنسي كلوت بك مفتشا لعموم الخدمات الطبية البحرية والبرية ومفتشا للطب البيطري.
وفي عام 1837 صدرت لائحة التفتيش الصحي على المدارس، وعين طبيب جراح مصري لكل مديرية لملاحظة وعلاج التلاميذ، وصدرت أول لائحة للكورنتينا والنظافة بالقاهرة بعدها بـ7 سنوات، ثم أقيم أول مجلس كورنتينا بالقاهرة عام 1845.
تطبيق نظام "الكورنتينا" في مصر
ويشير خالد فهمي، في كتابه المعنون بـ(كل رجال الباشا)، إلى أن نظام “الكورنتينا”، كان يفرض بصرامة على الأماكن المصابة بالطاعون، سواء كان مدينة أو مستشفى أو حتى موضع محدد داخل المدينة، بالإضافة إلى أن الأجساد لم تكن تدفن في المقابر القديمة التي تعتبر قريبة بشكل خطر من المدن، لأسباب صحية، ولكن في مواضع معينة بعيدة مخصصة لهذا الغرض.
ويؤكد الدكتور عبدالخالق فاروق، أن محمد علي استعان بأطباء فرنسيين للرعاية الصحية لجيشه الذي بلغ عدده في عام 1825 حوالي 150 ألف رجل، معظمهم تقريبا من المصريين، موضحا: “ولعل هذا ما دعاه إلى إنشاء أول مجلس صحي لتوفير الرعاية الصحية لأفراد جيشه عام 1820، وأدخل التطعيم ضد مرض الجدري، وأنشأ مجلس شورى الأطباء بالمحروسة (القاهرة) عام 1825، وأول مدرسة للطب عام 1828 في أبوزعبل، ثم مجلس الصحة والطب الخصوصي عام 1831، تحت رئاسة الطبيب كلوت بك.. واهتم بإرسال بعثات علمية لفرنسا والدول الأوروبية شملت طلابا لتعلم علوم الطب الحديث”.
ولم يتوقف التوسع في المجال الصحي بمصر عند ذلك، بل إنه في عام 1881 أثناء حكم الخديوي توفيق (1879-1892)، تشكل مجلس الصحة البحرية والكارنتينات، كما أُنشئت في عام 1886 أول مصلحة للصحة العمومية، لمتابعة الحالة الصحية في البلاد ومحاربة الأمراض، بحسب “فاروق”.
الكوليرا تفتك بعمال السكة الحديد في الأردن
وننتقل بالحديث إلى الأردن، التي عانت أيضا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين من انتشار الكوليرا (الهواء الأصفر)، وفي ذلك يقول الدكتور أحمد بركات الطراونة، في مؤلفه (الأوضاع الاجتماعية في لواء الكرك): “لقد تعرض لواء الكرك (جنوب الأردن) لعدد من الأوبئة الفتاكة والأمراض السارية والكوارث الطبيعية، وأن الرحالة الإنجليزي سيلاه مرل قد أشار عند مروره بالمنطقة سنة 1294/1877هـ إلى انتشار وباء الكوليرا بين الناس بشكل واسع”، وعليه اتخذت الدولة إجراءات وقائية للحد من انتشاره.
وبحسب “الطراونة“، ظهر الوباء في لواء الكرك سنة 1320/1902، وأشارت وثائق محكمة شرعية عمان (عاصمة الأردن) إلى انتشار الوباء بعمان في السنة ذاتها، وكانت الكوليرا قد تفشت بين عمال سكة الحديد الحجازية بالقرب من الدولة، وفتكت بأعداد كبيرة منهم؛ إذ كان يموت في اليوم الواحد ما بين 13-15 فردا.
الجدري يهزم البحرين
لم يختلف الأمر في العديد من الدول العربية الأخرى، ففي البحرين انتشر وباء الطاعون أواخر القرن التاسع عشر، ومنعت السفن الأهلية من مغادرة الجزيرة، ولكن هذا الأمر لم يدم طويلا؛ لأن المنامة تعتمد كثيرا على إيران من ناحية تزويدها بالمواد الغذائية.
ويقول نادر كاظم في كتابه المعنون بـ(طبائع الاستملاك)، إنه في مايو ويونيو عام 1905، حدث الانفجار الثاني للطاعون في البحرين، وكان محصورا عمليا في مدينتي المنامة والمحرق، وقد حدثت في كل منهما 400 حالة، نصفها مميت، مشيرا إلى أن الجدري كان يتردد وقوعه في منطقة الخليج بصورة وبائية، وكان منتشرا في منتصف القرن التاسع عشر بصفة عامة، وأثار الرعب الشديد بين سكان الخليج.
في مايو ويونيو عام 1905، حدث الانفجار الثاني للطاعون في البحرين، وكان محصورا عمليا في مدينتي المنامة والمحرق، وقد حدثت في كل منهما 400 حالة، نصفها مميت
وانتشر الجدري في البحرين عام 1891، ورافقته موجة خطيرة من الإنفلونزا، تسببت في موت المواطنين، وعاد مرة أخرى عام 1927 وكاد يفتك بالكثير من الأهالي، وفقا لـ”كاظم”، الذي يوضح أن هذا المرض كان يتواجد بالدولة في كل عام، بجانب “الجذام”، الذي عانت منه حالات صغيرة ومتفرقة.
ويؤكد المؤلف أن الكوليرا كانت زيارتها حدث متوقع في أي وقت، ويليها الطاعون، وعليه خاضت المؤسسات والأجهزة الطبية في البحرين معركة ضارية ضد الأمراض الوبائية التي ذكرت آنفا، إلى جانب الحصبة والتيفود والملاريا.
ويلخص المؤرخ البريطاني لوريمر، في كتابه (دليل الخليج)، معاناة المنامة مع الكوليرا، بقوله: “هاجمت البحرين في عامي 1821 و1871، وفي يوليو وأغسطس عام 1893؛ إذ أعلن عن حدوث 700 حالة من الجزر، وفي مايو 1904، وقيل إن أكثر من 1200 حالة وقعت آنذاك، الأمر الذي نتج عنه هروب كثير من السكان إلى أجزاء أخرى من الخليج”، لافتا إلى أن أول انفجار لوباء الطاعون بها كان في مايو ويونيو عام 1903.
وبالطبع كانت هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى انتشار هذه الأمراض، وهو ما تحدث عنه خالد البسام، في مؤلفه (حكايات من البحرين)؛ إذ يقول: “كانت كغيرها من بلدان الخليج تعاني من انتشار الأوبئة والأمراض بكثرة، بسبب انعدام الرعاية الصحية وسوء التغذية والجهل وغيرها، وكانت أوبئة الطاعون والكوليرا تمر عليها بين سنة وأخرى، حتى راح الأهالي يحسبون السنوات التي لا يصابون فيها بهذه الأمراض، ويعتبرونها سنوات خير”.
الكوليرا.. إصابة 300 شخص يوميا في سلطنة عمان
بالعودة إلى الوثائق والمراجع التاريخية، نجد أن جميعها تشير إلى أن منطقة الخليج عانت بشدة من الجدري والكوليرا، ومنها ما حدث في ساحل عمان (الإمارات قبل الانفصال عن السلطنة)؛ إذ تقول رفيعة غباش في مؤلفها (الطب في الإمارات العربية المتحدة: النشأة والتطور): “يسجل التاريخ أنه في عام 1897 انتشر الجدري بكثرة في ساحل عمان المتصالح، وهو بذلك قد سبق وباء الكوليرا الذي انتشر في عام 1899 بسلطنة عمان”.
وفي هذا السياق، يشدد المؤرخ العماني نصر بن خلفان البوسعيدي، في كتابه (حكايات في تاريخ عمان)، على أن مرض الكوليرا، في السلطنة كان من أكثر المآسي المرضية إهلاكًا، مشيرا إلى أن بداية انتشاره كان في العشرينيات من القرن التاسع عشر، بعد أن وصل إلى موانئ مسقط عن طريق السفن التجارية وبحارتها القادمين من الهند، خاصة أنها أصيبت بالمرض المذكور عام 1817.
في عام 1897 انتشر الجدري بكثرة في ساحل عمان المتصالح، وهو بذلك قد سبق وباء الكوليرا الذي انتشر في عام 1899 بسلطنة عمان
لم ينته الأمر عند ذلك، بل هاجم وباء الكوليرا السلطنة مرة أخرى، عام 1865، لكن العدوى أتت هذه المرة من خلال إحدى السفن القادمة من لامو بزنجبار (أفريقيا)؛ إذ كان على متنها 35 فردا حاملين المرض، وبسرعة كبيرة ومخيفة انتشر في عمان، وبلغ عدد الوفيات في العام المذكور 600 شخص بمسقط وحدها، و1700 حالة في مدينة صور (تقع في المنطقة الشرقية بالسلطنة)، بحسب “البوسعيدي”.
ومع نهاية القرن التاسع عشر، وتحديدا عام 1899، عاد الكوليرا بشكل أشد فتكا؛ إذ كانت إصاباته يوميا تتجاوز الـ300 حالة، وكانت زيارته الرابعة للسلطنة عام 1904 وانتشر في المناطق الداخلية، ما أجبر الكثير من الأهالي إلى النزوح باتجاه العاصمة، وتلتها “الخامسة” عام 1910.
الإعدام رميا بالرصاص لمحاربة الكوليرا!
وفي هذه الأثناء، اتخذت السلطنة بعض الإجراءات لمواجهة المرض الفتاك، منها ما نقله محمد فتحي عبد العال في مؤلفه “تأملات بين العلم والدين والحضارة”، عن الطبيب الأمريكي بول هاريسون، الذي ذكر في كتابه (رحلة طبيب في الجزيرة العربية)، أنه عندما زار عمان عام 1926، كان مرض الكوليرا مستشريا بها إلى الحد الذي يهدد بإفناء السلطنة، ما دعا الحاكم وقتها أن يصدر تهديدا للسكان إذا ضبط أي شخص يشرب ماء غير مغلي معرضا حاله والآخرين للمرض، فإنه يعدم رميا بالرصاص عند شروق الشمس، مؤكدا: “وبذلك توقف الوباء في السلطنة، كما لو كان قد استؤصل بفأس، ولم تظهر أية حالة جديدة أخرى”.
ولم تفلت العراق من معاناة الكوليرا، لكنها عانت من أيضا بعد أن انتقل إليها قادما من إيران، بعد أن حضر من الهند عام 1846، يقول الدكتور علي الوردي في مؤلفه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) في الصفحات 1-8 من الجزء 2): إنه في 23 آب/أغسطس من العام المذكور، وكان موافقا لليوم الأول من شهر رمضان، ظهرت بوادر الوباء في بغداد، فساد الرعب بين الناس، وارتفعت أسعار مواد التحنيط والتكفين.
وبعد أقل من 15 يوما تبين أن الكوليرا قد حصدت أرواح 4318 نسمة من مختلف الأعمار، وتناقص عدد السكان حتى وصل إلى أقل من 35000 نسمة، ولم يكد يمر عليه سوى أشهر معدودة، حتى ظهرت بوادر وباء جديد منه، وكانت البداية في مدينة البصرة، وأخذ يسري نحو الشمال تدريجيا، وحين بلغ مدينة الحلة أخذ يفتك فيها، بمعدل يتراوح بين ثمانية وعشرة يوميا.
ووفقا لـ”الوردي”، وصل الوباء إلى بغداد، وكان معدل إصاباته اليومية 30، يموت نصفهم تقريبا، وكان للحكومة آنذاك طبيب فرنسي يدعى الدكتور دروز، حذر من الكوليرا قبل مجيئها، وطلب مبالغ من المال لإعداد بعض الأدوية اللازمة له، غير أنها لم تهتم بطلبه، ولم تتخذ أي إجراء للوقاية من المرض.
ويشير المؤلف إلى أنه في صيف عام 1889 ظهرت الكوليرا بالعراق، وكانت شديدة فعم بلاؤها مختلف الأنحاء، وبلغ عدد الموتى في مدينة بغداد وحدها ما يزيد على 130 يوميا، وهرب الموسرون والحكام الأجانب منها كعادتهم في كل وباء، وخيموا بعيدا في البراري، واستمر الوباء 30 يوما، ثم أخذ يتضاءل شيئا فشيئا.
الحمى الإسبانية تهاجم أطفال السعودية
وبعيد عن الأمراض المذكورة، التي عانى منها الخليج، ظهر مرض آخر بالمملكة العربية السعودية، خلال شتاء عام (1918-1919)، وبحسب جون فيلبي في كتابه (العربية السعودية من سنوات القحط إلى بوادر الرخاء)، عرف هذا العام في نجد بـ”سنة الرحمة”، لكثرة من مات فيها، خصوصا بين الأطفال والرضع.
وفي عام 1939 انتشر وباء الجدري، فراح ضحيته الكثير من نجد وغيرها من بلدان الجزيرة العربية، ونزح العديد من المرضى إلى العاصمة طلباً للعلاج، ويروي حافظ وهبة في كتابه (خمسون عاما في جزيرة العرب)، أن الملك عبدالعزيز (1876-1953) أدخل النظام الصحي الحديث في نجد والأحساء؛ بالإكثار من الأطباء وإنشاء المستشفيات المستقلة لمعالجة المرضى، ونظام التطعيم ضد الجدري.
وهنا أيضا يذكر غيثان بن جريس، في مؤلفه (عسير في عصر الملك عبدالعزيز – دراسة تاريخية للحياة الإدارية والاقتصادية)، أنه في عام 1930 قدم من عدن اليمنية، طبيب هندي يدعى “عطاء”، جالبا معه بعض الأدوية واللقاحات ضد الجدري، وعند وصوله إلى أبها حقن موظفي الإمارة والجنود، وطلاب المدرسة السعودية الأميرية.
ومن المملكة ننتقل إلى الجارة الكويت، التي تشير العديد من المراجع إلى أنها تعرضت في عام 1963 إلى مرض السل، وبعدها بـ3 أعوام إلى الجدري، ووصلت نسبة الإصابات بالأول إلى 5% من إجمالي عدد السكان، لكن تمكنت الدولة من السيطرة على المرض ومحاصرته، واتخذت إجراءات فعالة، كان على رأسها عزل المناطق الموبوءة وإجراء عمليات التطعيم.
الطاعون ينهش في جسد الجزائر
وإذا ابتعدنا عن منطقة الخليج، وذهبنا نحو شمال القارة الأفريقية، وتحديدا الجزائر، فلن نجد الأمر أفضل حالا، بل إنه كان أشد سوءا، خاصة أن هذه الدولة عانت من انتشار العديد من الأمراض منذ القرن السادس عشر، كان على رأسها الطاعون والجدري والتيفوس والملاريا.
وبحسب دراسة أجراها علامة صليحة، بقسم التاريخ في جامعة الجزائر، حملت عنوان (تاريخ الأوبئة في الجزائر: الطاعون، الجدري، اليفوس، الملاريا)، فإن بداية ظهور وباء الطاعون في هذه الدولة كان عام 1552، ثم استوطن بها وفتك بسكانها، خاصة أنه وجد عوامل ساعدته على التمركز، من بينها المستنقعات المنتشرة حول المدن الساحلية والداخلية.
ويؤكد “صليحة” أن أخطر السنوات التي عرفت فيها الجزائر وباء الطاعون، عامي 1817 و1818، حين أودى بحياة 13030 شخصا، من بينهم 2048 في مدينة الجزائر لوحدها ولمدة شهر فقط، بمعدل 150 وفاة في اليوم، ثم سنة 1822، التي بلغ فيها عدد الضحايا 2272.
ولم يعد الطاعون للظهور مجددا إلا في فترة العهد الاستعماري، في السنوات 1852-1853 ومن 1899 إلى 1904، حينما أصاب كلا من عمالة الجزائر ووهران والمدن الساحلية؛ إلا أن خسائره كانت قليلة مقارنة بالسنوات السابقة، بسبب الرقابة الشديدة على الموانئ البحرية بعمالة الجزائر، التي تكاد تكون الطريق الوحيد لإدخال هذا الوباء إلى البلاد.
اقرأ أيضا: أطباء يروون كيف تعايشوا مع الوباء
وتشير الدراسة إلى أن الطاعون عاد من جديد وازدادت حدته بعودة العوامل المسببة له، مع ظروف الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، لكثرة التنقلات عبر الموانئ الجزائرية للمجندين وللمؤونة.
أما عن الجدري، فأعاد المؤرخون تاريخ وجوده في الجزائر إلى أكثر من 3000 سنة، ويوضح علامة صليحة، أنه “انتشر بشكل واسع خلال الفترة العثمانية بالجزائر، وكان يزور البلاد دوريا كل 4 أو 5 سنوات، وكانت أخطرها سنوات 1803 و1804 حين أودى بحياة ما بين 2000 إلى 3000 شخص في مدينة الجزائر فقط، فكان وباء تلك السنة السبب المباشر لإدخال التلقيح ضد الجدري إلى الجزائر”.
وتطرق الباحث في دراسته إلى الحديث عن وباء التيفوس، منوها إلى أن أول إعلان عنه في الجزائر بشكل واضح كان سنة 1861 في منطقة بلاد القبائل (شمال شرق الجزائر)، بتسجيل حوالي 330 حالة، بمعدل وفيات وصلت نسبته إلى 50%.