- أنا ماموتش؛ ولكن اعتزلت الفن في ظل الأجواء الحالية.
- الرقابة على المجال الإبداعي حاليا تخنق المجال.
- فن يعني حرية، أي خدش للحرية لا يدع لك الإمكانية لعمل فن يشبع الناس.
- مقدرش أتعامل مع الجمهور الموجود حاليا، هذا تيار آخر يبحث عن التسلية، والسينما تقدم له هذه التسلية.
- قراري اعتزال العمل الفني ليس ضغطًا على أحد على الإطلاق، وهذه هي سنة الحياة.
خمسة تصريحات موجزة وحاسمة، أعلن من خلالها المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد موقفه من السياق الحاكم لصناعة السينما، موضحا أنه لا يستطيع التعامل مع سياسات الإنتاج السينمائي الحالية، ونوعية الأفلام الرائجة حاليا، أفلام “التسلية” كما وصفها.
التصريحات الصادمة لجمهور ومحبي سينما داوود عبد السيد تزامنت مع بداية عام جديد، وقبل أيام من ذكرى ثورة 25 يناير؛ لتعزز مشاعر الفقد والخسارة والألم، مستدعية شريطًا طويلاً من الذكريات الشخصية والصور العائلية المرتبطة في كثير من تفاصيلها بالسينما وأشرطة الفيديو.
بدأت علاقتي بأفلام داوود عبد السيد مبكرا، كنت في سن الحادية عشرة، حين شاهدت للمرة الأولى فيلمه “أرض الخوف” على شريط فيديو أحضره أخي الأكبر، كنا في سهرة عائلية ببيت أحد أقاربي في بلدة أبي، لم أفهم الفيلم حينها، لكنه ظل عالقا في ذاكرتي بحكم حبي لأحمد زكي، ومحبة أخي للفيلم.
تعامل أخي مع “أرض الخوف” بحماس كبير كأنه اكتشاف شخصي، يحكي كيف شجع أصحابه على دخول الفيلم ليفاجأ بقاعة السينما شبه خاوية، بينما الجمهور مزدحم على أفلام الكوميديا. كان أخي غاضبًا في البداية من الجمهور، لكنه وجدها فرصة لمشاهدة الفيلم في قاعة سينما هادئة بلا ضجيج.
استلمت راية محبة داوود عبد السيد ومخرجي الواقعية الجديدة من أخي، وتكررت مشاهداتي لأرض الخوف في مراحل عمرية مختلفة، في مرحلة الشباب والثورة كنت أرى فيه رحلة الإنسان في الأرض بصورتها المباشرة في الميثولوجيا الدينية، والآن أرى فيه وجهًا آخر كأنه سيرة شخصية لجيلين؛ جيل الستينيات الذي ينتمي له داوود عبد السيد، وتبدأ معه أحداث الفيلم بالتزامن مع مظاهرات الطلبة عام 1968، أما الجيل الآخر فهو جيل ثورة 25 يناير عام 2011.
استلمت راية محبة داوود عبد السيد ومخرجي الواقعية الجديدة من أخي، وتكررت مشاهداتي لأرض الخوف في مراحل عمرية مختلفة
يجمع الجيلين العديد من السمات المشتركة على مستوى الأحلام، والهزائم، والانكسارات. الإيمان المطلق بقيم ومعانٍ وتجارب في لحظات محددة، والشك والكفر بها بعد ذلك. أجيال الأحلام الكبرى والهزائم المروعة، بعد أكثر من عشر سنوات من ثورة 25 يناير 2011 أدرك جيدًا المشاعر التي مر بها بطل فيلم “أرض الخوف”.
الآن أعرف عن تجربة قسوة الإحساس بالتيه، والوحدة، والقلق الوجودي، أن تعيش عالقا بين عالمين، دون أن تعرف إلى أي منهما تنتمي، مطاردًا بكوابيس وأسئلة يحيى أبو دبورة بطل فيلم أرض الخوف: “الفترة الأخيرة بقيت أحلم بكوابيس وأصحى خايف مش عارف ليه. بقيت أحس إن محكوم علي بالوحدة متعلق في الهوا لا قادر أمسك حاجة إيديا ولا فيه أرض تحتي. بقيت أسأل نفسي سؤال: أنا ليه بقيت كده؟ مجرم وقاتل وخارج عن القانون، كل اللي كنت برفضه واحاربه. وافقت عليه بقرار واحد!”.
بعد “أرض الخوف” شاهدت اثنين من أفلام داوود عبد السيد في قاعات السينما، وهما “رسائل البحر” و”قدرات غير عادية” لم يكن عدد الجمهور كبيرًا، لكنه كان كافيًا. جمهور متنوع على مستوى الأعمار والطبقات من محبي الفن السابع؛ لذلك لم أفهم تصريحات مخرج فيلم “مواطن ومخبر وحرامي” على أنه تعالي أو رفض للجمهور، بقدر ما هو توصيف لواقع جديد وتغيرات كبرى طالت كل شيء، المجتمع وليس منظومة صناعة السينما، واقع فرض قواعد مختلفة تماما للعبة على كافة المستويات من الحريات السياسية، والتوجهات الاقتصادية، والعلاقات المجتمعية ككل.
من شاهد حوار داوود عبد السيد مع الإعلامية قصواء الخلالي خلال برنامج “المساء مع قصواء” المذاع على قناة سي بي سي المصرية، أو قرأ حواره مع الناقد الفني حسام فهمي في موقع إضاءات، يدرك بوضوح أن قرار الاعتزال لا يتعلق كذلك برفض مفهوم التسلية في حد ذاته، الذي هو جزء أساسي من صناعة السينما والفنون بشكل عام، بقدر ما يتعلق برفض أن تكون التسلية هي المعيار الوحيد المسموح بتقديمه، رفض التسلية المدجنة الفارغة من كل شيء وأي معنى المخصصة لطبقة اجتماعية محددة.
قال: “من القادر اليوم على دخول السينما؟ في الماضي القريب كانت تذكرة السينما بخمسة جنيهات، سينمات الأحياء انتهت، الآن فقط سينما المولات، تكلفة خروجة السينما الآن لأربعة أفراد تقترب من ألف جنيه. الجمهور الذي يدفع هذا المبلغ له اهتمامات وهموم مختلفة عما أراه عند الطبقة الوسطى”.
وأضاف: “أنا لا أتحدث كي أخرج فيلمًا، لا يهمني اليوم أن أصنع فيلمًا، أتحدث فقط من أجل السينما المصرية، من أجل المواهب التي في السينما، من أجل الجمهور المصري المعزول عن دخول صالات العرض، والذي يكتفي حاليًا بمشاهدة الأفلام والمسلسلات من البيوت”.
تكلفة خروجة السينما الآن لأربعة أفراد تقترب من ألف جنيه. الجمهور الذي يدفع هذا المبلغ له اهتمامات وهموم مختلفة عما أراه عند الطبقة الوسطى
داوود عبد السيد Tweet
يبدو أن سوق السينما يعيش مرحلة مفصلية، تشبه مرحلة السبعينيات والثمانينيات التي رصدها داوود في فيلميه “الصعاليك” و”أرض الخوف”؛ مرحلة من الاضطرابات والصراعات الحادة بين عالم ونمط حياة قديم يتلاشى بكل قيمه وأفكاره وتصوراته وطبقاته الاجتماعية، وعالم آخر ونمط حياة جديد يتشكل.
خلال هذه المرحلة تحول بطلا فيلم الصعاليك من لصوص صغيرة في ميناء الإسكندرية، إلى أسماك كبيرة في مجتمع المال والأعمال، وخلال ذات المرحلة رصد يحيى أبو دبورة بطل فيلم أرض الخوف التغيرات الكبرى في عالم التجارة المحرمة بدخول لاعبين جدد بتوجهات، وآليات عمل، وبضاعة مغايرة تمامًا
“الملاحظ أن هناك تجارًا جددًا قد تم رصدهم والتبليغ عنهم وعن شخصياتهم، لا ينطبق عليهم الشكل التقليدي لتاجر ومهرب المخدرات، بل إن القادمين الجدد يأتون من أنشطة أخرى مشروعة، ويدخلون المجال من أعلى السلم، وليس من أسفله، وهو ما يحدث لأول مرة. إنني أنبه لتغير أساسي يحدث في السوق”.
ربما يحاول داوود بقرار الاعتزال أن ينبهنا للتغيرات الكبرى التي تحدث في المجتمع ككل، وليس في سوق السينما فقط؛ فالوكلاء الجدد في سوق السينما، ليسوا أفرادًا صعدوا سلم الصناعة من أسفله وتربطهم شبكة من العلاقات الاجتماعية مع زبائنهم/جمهورهم أي كانت طبيعة البضاعة المباعة ومدى شرعيتها، كما أن آليات العمل قديمًا كانت تحتمل وجود هامش إنساني، ومساحة للخطأ والصواب، وخط رجعة، بينما في عالم الوكلاء الجدد لا مكان لكل ذلك؛ فنحن أمام كيانات ومؤسسات كبرى لا وجود لأي هامش إنساني في آليات عملها.
بخبرة السنين يدرك داوود عبد السيد أن عودته لم تعد ممكنة، وأنه لن يستطيع العمل في ظل الواقع الجديد للسوق، المبدع الذي كانت أعماله تخرج للنور على فترات متباعدة، وتغرد خارج السرب مراهنة على الزمن وهامش من الأمل والأحلام لم يعد موجود حاليًا؛ لا على المستوى العام ولا الشخصي، اختار أن يقول كلمته ويمضي.