كانت ولا زالت الترجمة إحدى أهم الرئيسيات التي تعمد إليها الأمم والشعوب -جماعاتٍ وأفرادًا- للتعرف على الآخر، وكذا التعرف على مواقع الأمم بسُبُل أخرى غير تلك الجغرافية والنظر في الخرائط؛ فترجمة ما تجود به القرائح والمعائن لجمهور الأدب وزمرة المفكرين ومعاشر الكُتاب في أي أمة يعني أنك تتعرف عليها خير معرفة؛ إذ تنكشف عقولها وما يشغل بال مفكريها ومؤلفيها وقوتها الناعمة، وكذا تعرف هذه الأمة خير معرفة، وتسافر وتجول بين جبالها وتضاريسها وبحارها وسواحلها وأنت جالس مكانك، وتنخرط في مشكلات وخصائص هذا المجتمع، إلى الدرجة التي تشعر بأنك جزء منه.
فتُعد الترجمة أحد أهم الفنون الأدبية، ويقوم المترجم خلالها بالنقل من لغة إلى أخرى ومن ثقافةٍ وحضارة إلى ثقافة وحضارة أخرى، من أجل نشر العلوم والأفكار والإنتاجات المعرفية ومن أجل تبادل المعلومات بين المجتمعات الإنسانية.
والترجمة في الاصطلاح تعتبر أحد الأنشطة البشرية التي وُجدت منذ القدم، وتهدف إلى تفسير المعاني التي تتضمَّنها النصوص، وتحويلها من إحدى اللُّغات (لُغة المصدر) إلى نصوص بلُغة أخرى (اللُّغة المُستهدفة). أما الترجمة في اللغة تأتي على وزن “فعللة”، والمصدر هو ترجم “فعلل”، والجمع هو “تراجم”، واسم الفاعل منها هو “ترجمان”، ولتلك الكلمة أكثر من معنى ودلالة في اللغة العربية، فهي تعني التبيان والاستيضاح والتفسير، وفي مواضع أخرى تعني التعرُف على سيرة أحد الأشخاص، وكذلك تعني عملية تحويل الكلام إلى أفعال.
كان “فعل” و “نشاط” الترجمة قديما يتم بشكل تلقائي أو فطري، والإنسان اجتماعي بطبعه، فعند سفره إلى منطقة أو مكان يتكلّم بلسان وثقافة الآخر، فكان من الحتميّ أن يتعرف على لغة الآخر، وذلك بهدف التجارة، ومُقايضة السلع أو شرائها، ويجب ألا نغفل أهمية الترجمة فيما يخص الضرورات الاجتماعية وسُبُل التعايش حينها. والترجمة عِلم قديم متصل بتراثات الإنسانية كبقية العلوم، وذلك لأن معظم الحضارات القديمة ترجمت عن بعضها بعضًا، فنرى الحضارة اليونانية قد ترجمت ونهلت من معارف المصريين القدماء والثقافة الفرعونية الذين سبقوهم في ميادين عدة في العلوم والطب والفلك ..إلخ. وكذلك ترجم الرومان والعرب عن اليونانيين؛ ومن هنا لعب المترجمون والناقلون ووسطاء اللغة دورًا كبيرًا وواعيًا في نشر الفلسفة والمعارف اليونانية بين جمهور العرب والرومان.
وتطورت الترجمة كـ “علم” له أسسه وشروطه ونظرياته وتقنياته، وأصبح كفرع ملاصق و”لازمة” متفردة تختلط بالعلوم والآداب واللغات جميعها لتنفرد بطورٍ أكاديميّ ملاصق لنظريات المعرفة، ومع تطور وسائل الاتصالات والتكنولوجيا وسرعة تدفق المعلومات ونقلها بين الأمم في ثوانٍ، أصبحت الترجمة تتخلى تدريجيًا عن صبغتها الأكاديمية، وقيودها المشروطة، على أنها كانت لا تستطيع القفز خارج حدود “النظرية” و”الممارسة الأكاديمية” إلى أن أصبحت ضرورة يومية لكل فرد، بغض النظر عن كون المُترجم “مختصًا”، أو كونه يستخدم أداة كوسيط لنقل “المعنى” ومعرفة الأفكار العامة في نسختها الأصل دون البحث عن مكافآت لها؛ إذ إن الدقة وجودة ما يُنقل لا يحُل في شروط وعي المترجم كما كان قديمًا. فالمهم مجاراة سرعة انتقال المعلومة والأفكار ومعرفة ما يفكر فيه الآخر. فأصبحت الترجمة تتم على نطاق أوسع، والسبب هو كثرة وسائل الاتِّصالات بين الدول والمُجتمعات، فنحن الآن يُمكننا التَّواصُل مع أشخاص في دول تبعد عنَّا بالآلاف من الكيلو مترات من خلال شبكة الإنترنت، وما تحتويه من تطبيقات قضت بشكل كبير على الوسائل التقليدية مثل البريد والفاكس ..إلخ.
والترجمة عِلم قديم متصل بتراثات الإنسانية كبقية العلوم، وذلك لأن معظم الحضارات القديمة ترجمت عن بعضها بعضًا
وتنقسم الترجمة في تصنيفها العام إلى قسمين: الترجمة الفورية والترجمة التحريرية. فالترجمة الفورية أو الشفهية تعنى بالتواصُل الفوري بين شخص أو عدة أشخاص وآخرين، وتوسعت استخدامات الترجمة الفورية في الوقت الحالي؛ للتواصُل البناء بين مُمثِّلي الشعوب في جميع المناحي، سواء الاقتصادية، أو السياسية، أو الرياضية…. إلخ. ومع الاتصال السريع وحركات السفر والتواصل الإلكتروني عبر تقنيات الصوت والمرئيات والتطبيقات أصبحت تمثل الترجمة الشفهية رقمًا هامًا في التواصل الاجتماعي.
أما الترجمة التحريرية فهي الأكثر تعقيدًا وتفرعًا، وتشتمل على عدة أنواع؛ كل له خصائصه وشروطه وفق المادة المًترجمة، ونحصر أنماطها -بالاطلاع وتتبع عدة مصادر- كالآتي:
- الترجمة الإدارية: وتعد الترجمة الإدارية أحد أكثر أنواع الترجمة أهمية، فيضطلع فيها المترجم بترجمة ونقل كافة الأوراق والمستندات والوثائق الرسمية التي تتعلق بالأعمال الإدارية، ويجب أن يكون المترجم على اطلاع بكافة الأعمال الإدارية، وعارفا بها.
- الترجمة التجارية: وتعتبر الترجمة التجارية فرعًا رئيسيًا من أفرع الترجمة، وفيها يقوم المترجم بترجمة النصوص والمعاملات التجارية، ومؤخرًا أصبح هذا النوع من الترجمة يلعب دورًا هامًا في الدعاية والتسويق، وكذا في التعريف باسم العلامة التجارية التي تمثلها تلك النصوص. وتطور هذا النوع من الترجمة أخيرًا ليشمل فيما يعرف بـ “الترجمة التسويقية/ الترويجية”. وهي تعنى بترجمة المواد الإعلانية والتسويقية والترويجية، ويجب أن يكون لترجمة مثل هذه المواد تأثير قوي على الجمهور المستهدف لجذبه وإقناعه بالمنتجات أو الخدمات المعروضة عليه، أي على المترجم أن يكون مبدعًا في ترجمته لخلق هذا النوع من التأثير.
- الترجمة الحاسوبية/ التقنية: وهي أحدث أنواع الترجمة، والتي كانت نشأتها متوازية مع تطور التقنيات ووسائل الاتصال وتفرع التطبيقات الإلكترونية التي تسهل من مهام الحياة اليومية، والتي يقوم المترجم من خلالها بترجمة كافة المصطلحات المتعلقة بعالم الحاسوب والتكنولوجيا، والمترجم التقني لابد له وأن يكون لديه إلمام جيد واطلاع متوسع في فروع التكنولوجيا وعلوم الحاسب.
الترجمة القانونية: تعتبر من أعقد أنواع الترجمة لما تحتاج من مهارة فائقة بين دهاليز اللغة والاطلاع على القانون ونظريات الحقوق والتشريعات. وقد أصبح هذا النوع من الترجمة يمثل قيمة كبيرة وهامة داخل أروقة المُجتمعات في مختلف الدول، والحاجة إليها تزداد يومًا بعد آخر؛ نظرًا للتعامل والتواصل بين الألسنة المختلفة، ومن ثم يلزم ذلك التعرف على القوانين والعقود والبنود التي تُؤصل الحقوق فيما بين مُواطني الدول، وهي أحد أنواع الترجمة التي يقوم خلالها من خلالها المترجم بترجمة النصوص والوثائق القانونية، ويجب أن يكون المترجم الذي يقوم بهذا النوع من الترجمة على اطلاع على كافة الأمور القانونية، أو يجب أن يكون دارسًا للقانون بشكل جامعيّ أو أكاديميّ. وتتصل أيضا الترجمة القضائية بالقانونية، وهي نوع من الترجمة المرادفة للترجمة القانونية، ويُستخدم مصطلح الترجمة القضائية للإشارة إلى الترجمة التي تختص بمجال القضاء والأحكام القضائية.
الترجمة الأدبية: تُعتبر الترجمة الأدبية ذات صعوبة بالغة عن غيرها من أنواع الترجمة، فنجد أن المترجم مُطالب بنقل معانٍ من لغة إلى أخرى، وكذلك وصف التجربة الشعورية والأحاسيس التي عاشها المؤلف الأصلي والموقف الضمني للجملة التي ينقلها بما تحمله من سيميائات وما ورائيات، وبالتبعية عندما تتنقل تلك الرموز والمواقف من المواطنين في بلد المؤلف الأصلي، إلى مواطني أمم أخرى بالطريقة التي جعلته يرتقي ويتفوق ويظهر في موطنه ويُصبح ذا صيت واسع، لهي جد تحدٍ خطير. ومن هذا المُنطلق ينبغي على المترجم أن يتحرى الدقّة؛ من خلال ما يتمتَّع بها من مهارة وخبرة وإلمام واسع بما تحمله اللغة الأصلية، وكذلك لغة النقل من ثقافات ورمزيات خاصة.
الترجمة الدينية: وحينما تحدثنا عن الترجمات الأدبية ونقل النصوص الأدبية وتراثات تشكيل السلوكيات والتقاليد لدى الشعوب، فيجدر بنا الانتقال إلى ترجمة النصوص المقدسة والدينية. وهي ذات قيمة كبيرة عند المبشرين بالديانات والراغبين في نشرها في ربوع العالم، وكذلك التعرف على القواعد والشرائع المتعلقة بتلك الديانة بالنسبة للمُنتسبين لها في مناطق أخرى، فعلى سبيل المثال ترجمة الأحاديث والأسس والوصايا التي يقوم عليها الدين الإسلامي والمسيحي، وكذا ترجمة الحِكم والقيم التي تحملها الديانات الآسيوية مثل الشنتوية والزرادشتية والبوذية إلى كافة أنحاء العالم.
- الترجمة العلمية: وهي من بين أنواع الترجمة المهمة، ويلزم للترجمة العلمية مقومات تختلف عن غيرها من التراجم؛ نظرًا للحاجة إلى الإلمام بالمُصطلحات العلمية، ومُحاولة إيجاد بدائل لها في اللغة المُستهدفة، وخصوصًا أن هذا النوع من الترجمة يتميز بالتعامل مع نصوص لا سقف لها في التجديد التقني وظهور المصطلحات الحديثة والتكنولوجية يومًا بعد يوم. فلا بد للمترجم العلمي من المتابعة اليومية الدؤوبة لكافة ما تجود به المجتمعات التقنية وما يطرأ على الساحة التكنولوجية من مستجدات.
الترجمة الاقتصادية والمالية: وتختص الترجمة الاقتصادية بالمُعاملات التجارية بين الدول وبعضها البعض، سواء بشكل مباشر، أو من خلال الشركات متعددة الجنسيات، أو عن طريق البورصات العالمية… إلخ، لذا ظهرت وانتشرت الترجمة الاقتصادية من أجل تحقيق التوازن في ضوء المصالح المُشتركة بين رجال الأعمال في الدول المُختلفة. وتتعامل الترجمات الاقتصادية والمالية أيضا مع النصوص التي يكون مجالها الأمور المالية والوثائق المصرفية والعملات الأجنبية والتقارير المالية، وغالبًا ما يحتاج المترجم لمعرفة كافية في هذا المجال والمصطلحات المستخدمة فيه، لأنه عادة ما تكون النصوص الاقتصادية غنية بالمصطلحات الاقتصادية والعبارات والتعابير الثابتة والمصطلحات الجديدة في هذا المجال.
الترجمة الأكاديمية: ويعد هذا النوع أحد أهم وأبرز أنواع الترجمة، وفيه يقوم المترجم بترجمة الوثائق والأوراق الأكاديمية، وفي هذا النوع من الترجمة يجب أن يقوم المترجم بترجمة الكلام كما هو في الوثيقة الأصلية دون أن يسبق حرفٌ حرفًا، أو تتقد كلمة على كلمة، ويتطلب هذا النوع من الترجمة معرفة المترجم بكافة المصطلحات الأكاديمية وكيفية استخدامها.
الترجمة الطبية: تعد الترجمة الطبية من أنواع الترجمة المهمة، وفيها يقوم المترجم بترجمة النصوص الطبية من لغة إلى أخرى، ويجب أن يكون المترجم على دراية كاملة بالطب، حتى يقدر على ترجمة المصطلحات ونقلها بشكل صحيح، فالترجمة الطبية لها ظروفها الخاصة التي لا تعتمد على التأويل والبحث عن بديل عشوائي للمعنى؛ إذ إن الدقة مطلوبة بشكل أكبر من بقية أنواع الترجمات، وكذا الخطأ يضر كثيرًا بالنص المترجم ويؤدي إلى نشر المعلومة بشكل خطأ.
الترجمة التربوية: تعد الترجمة التربوية أحد أهم وأبرز أنواع الترجمة، وفيها يقوم المترجم بترجمة مقالات ودراسات في المجال التربوي، وهي تتعلق بشكل كبير بميادين العلوم الإنسانية ولها اتصال غير مباشر وتفاعلي مع الترجمات الدينية.
الترجمة الإعلامية: وهي نوع من الترجمة الذي اقتضته متطلبات العصر الحالي، وذلك في ظل انتشار العشرات من وسائل الإعلام، سواء التقليدية التي تتمثَّل في الصحف والمجلات، أو الإلكترونية التي تتمثل في شبكة الإنترنت والمواقع والتطبيقات التي توجد بها، وكذلك القنوات الفضائية التي لا حصر لها في الفترة الراهنة، ويتم تناقُل الأخبار بسُرعة كبيرة بين شتى البلدان، لذا زاد الاهتمام بالترجمة الإعلامية في الوقت الرَّاهن.
ترجمة براءة الاختراع: وهي الترجمة التي يكون مجالها ترجمة براءات الاختراع والملكية الفكرية، ويجب أن يكون المترجم الذي يعمل في هذا النوع من الترجمة متمكنًا من الصياغة العامة لبراءات الاختراع واللغة المستخدمة فيها، فغالبًا ما تكون ذات قالب محدد ومعروف عالميًا. لكن يجب أن يكون المترجم ماهرًا في ترجمة وصف الاختراع وصفًا دقيقًا وترجمة الأسباب التي دفعت المخترع للتقديم للحصول على براءة الاختراع محاولًا من خلال ترجمته إقناع المسؤولين بأهمية الاختراع وتميَزه.
وليس بجديد أن نعلم أن الترجمة عملية مركبة ومعقدة، إذ فيها ما هو لغوي، وما قد يخرج عن إطار اللغة ويتجاوزها إلى ما وراء الكلام؛ أي إلى الموقف الذي يندرج فيه الإبلاغ، والسياق الثقافي والحضاري الذي كُتِب في إطاره النص الأصلي من جهة، والسياق الحضاري الاجتماعي الذي يجري فيه النص الجديد المنقول والمترجم. ومن هنا يخرج النص الأصلي من فرديته وخصوصيته ومن حيز الكمون من جهة، إلى إطار المشاعية وحيز الواقع من جهة ثانية.
الترجمة عملية مركبة ومعقدة، إذ فيها ما هو لغوي، وما قد يخرج عن إطار اللغة ويتجاوزها إلى ما وراء الكلام
وهنا نرى قضايا تتصل بالمترجم وما ينبغي أن يتحلى به من معرفة ودراية وإلمام، وأخريات تتعلق بالبلاغ والبيان أو النص المراد نقله وترجمته، وثالثة تتعلق بإشكالية النقل بين اللغات ومن أصلٍ بعينه إلى وسيطٍ آخر إلى الوقوف على حد إمكانية/ استحالة ترجمة النص. وهنا تجدر الإشارة إلى الخدمة التي قدمها حقل “الدراسات اللغوية” -في كافة جامعات ومباحث العالم بظهور علم اللغة كفرع متفرد وقائم بذاته- في إثراء نظريات الترجمة بعد التقصير الكبير الذي جنته – أي الترجمة- في الإطار البحثي والنظري، ومن هنا بدت إشكالات الترجمة كقضايا ومناظير كأهم الأولويات التي صلحت موضوعًا للدرس داخل علوم اللغة واللسانيات. فلئن كانت الترجمة قديمة قدم الحضارة، ولئن كان التعاطي مع قضاياها ونظرياتها ليس بالأمر الجديد، فإن عمل المترجم والمجهود الذي يبذله وتفانيه فيما ينقله لم يكن يحظى باهتمام شديد إلا بوضع الترجمة في إطارٍ نظري خارج حدود الممارسة، والإطار النظري هنا يقصد به الإطار الدراسيّ المنهجيّ خصوصًا في النصف الثاني من القرن العشرين.
وأولى الإشكالات الشائعة التي تطرحها أكاديميات وتنظيرات حقل الترجمة، هو عملية النقل نفسها. هل تتوقف عند حدود المعنى أم الدلالة؟ فهناك العديد من الأفكار والتشعبات التي تعتبر فعل الترجمة أمرًا مستحيلاً، ومنها ما يقول إنها عملية ممكنة. ومنها ما يوصي بالالتزام الحرفي في النقل، ومنها ما يتيح للمترجم من الحرية في النزوع عن اللغة الأصلية إلى الدرجة التي تجعله يقترب من إصابة الأهداف داخل اللغة الجديدة التي تحمل مكنونات النص الأصلي. في هذا الإطار يجب أن نستدعي الطرح الشهير للسانيّ الفرنسي المعروف جورج مونان، فالترجمة لدى “مونان” نظرية تنص على أن اللغة هي التي توجه وتصنع وتحدد وتثبت الطريقة التي ننظر بها إلى العالم، في مقابل طروحات أخرى تنتهج موقفًا جامدًا يتزعمه العديد من اللغويين الذين يتبعون منهجا شكليا لا يتناول اللغة إلا في وضعها الحالي والتي لا تعطي أية استحقاقات إلى عامل الزمن وتأثيراته. في حين أن “مونان” والمتساهلين من الغالبية يرون نظرة الإنسان إلى العالم واللغات ليست جامدة، وكما أنه توجد علاقة جدلية بين العالم واللغة، هناك أيضًا علاقة جدلية بين لغة وأخرى. وهنا تأتي أهمية دراسة إمكانية الترجمة من لغة إلى أخرى باعتبارات نظام هاتين اللغتين والتحليل اللغوي الوصفي وتاريخ الاتصال بين اللغتين. فهم يخالفون رأي اللغويين المتزمتين، فالترجمة هنا ليست نقلا للمادة الصوتية أو المظهر المادي للرموز اللغوية “الدال”، وإنما هي نقل للمعنى أو “المدلول”.
أما الإشكالية الأخرى الأكثر أهمية لما تمتلكه من تداخل مع الممارسة العملية لفعل ونشاط الترجمة، تسمى بإشكالية “الخانات الفارغة”، وهي تتعلق بتجاوز المستوى اللغوي إلى المستوى الإنشائي. فمما لا شك فيه أن نقل مجال من مجالات الحياة في ثقافة من الثقافات أو حضارة من الحضارات لا يكون يسيرًا إن لم يحظّ بمكافئ له في اللغة المنقول إليها، مثال “مسميات الخبز المتعددة لدى الفرنسيين”، أو مسميات الثلج المتعددة لدى شعوب “الإسكيمو”.
وهنا نرى العديد من الكلمات التي يمكن ترجمتها، ولكن لا يوجد مثيل لها في اللغات الأخرى؛ وهنا يعمد المترجم إلى اقتباس الكلمة واستحضارها مباشرة من لغتها الأصل إلى النص المنقول، أو الاعتماد على التقاربات اللفظية من استخدام كلمات ومصطلحات تؤدي نفس المعنى. والطرح الأخير طبعا يستمد جدواه وأهميته من قريب أو بعيد وفق موقع المترجم من طرح الاستحالة/الإمكانية للترجمة من لغة إلى أخرى.
وتعد إشكالية “الإيحاءات” أو “الظلال” أشهرها وسط المترجمين؛ سواء كانوا ممارسين أو لسانيين وأكاديميين، ويتفق جميعهم في أنها أكثر الإشكالات صعوبة داخل حدود النص المنقول. فالتوريات والمعاني المصاحبة تعاكس مقصد المعنى المباشر. فالمعنى المباشر يمثل ربطًا بين الرمز ومدلوله، وهي بالطبع دلالة طبيعية يرجعنا إليها القاموس. أما بخصوص المعنى المصاحب فهو ما تكتسبه اللفظة من إيحاءات في وقت من الأوقات أو لدى جماعة لغوية معينة، ومهما يكن الأمر فالدلالات المصاحبة هي جزء لا يتجزأ من اللغة. إلا أن الأمر يزداد صعوبة يزداد تعقيدًا في حدود الترجمات الأدبية للنصوص النثرية والشعرية، وهنا ليس من فراغ أن نعي مقولة الجاحظ: “الشعر لا يُترجَم”، أو ما قاله أديب فرنسا مونتسيكو في كون ترجمة المواهب العظيمة تعد تشويها لها.
أما ما يخص إشكالية “الحس الفني“، فهي ترتبط بشكل كبير بالترجمات الإبداعية خصوصًا في حقل ترجمات الأدب، فهي تتطلب حسًا فنيًا مرهفًا من قِبَل المترجم، فدوره هنا لا يقتصر على معرفته باللغتين، اللغة الأصلية واللغة الهدف للنص فحسب، بل علیه أن يتعدى ذلك إلى المعرفة بالفكرة الرئیسیة للنص، لأن المترجم ينبغي أن یكون كاتبًا بالدرجة الأدبية على اختلافها كالشعر والمسرحیة والقصة القصیرة والروایة. لابد هنا للمترجم الأدبي أن يكون على دراية بتقنيات وأنواع الأجناس الأدبية، وكذا الاتجاهات الأدبية والفكرية والفلسفية التي تنتمي إليها النصوص، وكذلك ما يخص علوم النفس والمجتمع التي تهيئ له الفرص لأن ينقل النص في ضوء ظروفه التي كتبت فيها، بالإضافة إلى النقل الصريح الذي يخدم الهدف من التجربة الشعورية والإبداعية التي يتفرد بها النص. ومن الخطأ هنا اعتبار الترجمة عملية تلقائية أو ميكانيكية يتم فيها استبدال الكلمات والعبارات بأخرى مقابلة في اللغة الأخرى، إذ يتطلب على المترجم أو الناقل أن يكون على معرفة ودراية بكافة جوانب النص الأصلي ومعرفة قصد الكاتب وأهدافه من إنتاج النص.
وأهم الإشكالات التي تتناولها الترجمة والتي تتعلق بنوع الترجمة بشكل أكبر، هي إشكالية “الشكل والمضمون والمنهج”، فهنا تختلف النصوص التقنية والنصوص العلمية عن النصوص الأدبية والقانونية، فمثلا مترجم النصوص العلمیة یتناول نصوصًا محددة، وجلّ جهوده تتعلق بالحفاظ على صحة المحتوى في اللغة، أما جهود وعمل المترجم الأدبي فتظهر في مستويات عديدة، مثل “نقل النص الأدبي نقلاً أمینًا یولي الأدیب مقاصده، وللعمل الأدبي جمالیاته، وللقارئ خلفیاته. فالأديب يمتلك معجمًا من الألفاظ والاصطلاحات يتفرد بها، بالإضافة إلى المعاني الموجودة في القواميس، وهنا تتعامل اللغة مع أكثر من سقف يجعل عملية الترجمة فعلاً يتجاوز نقل الفكرة إلى نقل المكنونات والمشاعر بمزاوجة لغة القاموس ومصطلحات ومقاصد المؤلف. ولهذا فترجمة النص الأدبي لا تعني فقط البحث عن المقابل في القاموس؛ ولكن الأمر یتعلق بعمق الإدراك والفهم لمقتضیات الإبداع النصي. وإذا تمثلنا تلك الحالة في خصوصيات الترجمة القانونية، فنجد تيسيرات اللغة والتعامل مع مستوياتها كنظيرتها في ترجمات الأدب هدفًا رئيسيًا لدى المترجم ليجعل النصوص والبنود مفهومة للقارئ العادي، بالإضافة إلى تعامله مع السياقات الجامدة والثابتة مما تمتلكها النصوص العلمية والتقنية.
وبالطبع عندما نتعامل مع إشكالات الترجمة التي أفردنا الخمس المشهورين منها أعلاه، فإننا عندما نتناول بحثًا عن الترجمة لابد والتطرق إلى الصعوبات التي تكتنف عمل المترجم خارج إطارات ومستويات اللغة والخصوصيات الثقافية للنص الأصلي والمنقول. فتوجد الكثير من الصعوبات التي تواجه عمل المترجم وقد أسلفنا الذكر في أن الفضل يعود إلى تفرد علوم اللسانيات بقضايا وأطروحات نظريات الترجمة في إلقاء الضوء على ما يقع داخل حدود الممارسة العملية والنظرية لفعل “الترجمة”.
أهم الإشكالات التي تتناولها الترجمة والتي تتعلق بنوع الترجمة بشكل أكبر، هي إشكالية "الشكل والمضمون والمنهج"، فهنا تختلف النصوص التقنية والنصوص العلمية عن النصوص الأدبية والقانونية
فعندما تحدثنا عند ضرورات الإلمام الثقافي والاجتماعي بالنصوص ومؤلفيها، تجدر بنا الإشارة إلى الإلمام اللغوي والنحوي من لغة الأصل واللغة الوسيط. فتعتبر القواعد النحوية الخاصة باللغة المصدر من بين صعوبات الترجمة؛ نظرًا لاختلاف اللغات في ذلك؛ فنجد اللغة العربية تبدأ في الغالب بالفعل، ثم الفاعل، ثم المفعول به، ثم الوصف، أو الحال، وذلك على عكس اللغة الإنجليزية مثلًا، فهي تبدأ بالفاعل، ثم الفعل، ويجب على المترجم أن ينساق وراء قواعد اللغة المُستهدفة مع عدم الإخلال بالمعاني في اللغة الأصلية. فالإلمام بقواعد النحو في اللغة المصدر يجب على الباحث أن يكون ضليعًا في قواعد النحو المتعلقة باللغة المُستهدفة، فلا يوجد معنى لمترجم مُتعمِّق وخبير في لغة معينة، ولا يمتلك المعرف باللغة المُستهدفة؛ لذا يُعَدُّ ذلك من بين صعوبات الترجمة، ويجب على المترجم الناجح أن يلمَّ بذلك؛ حتى لا يشوب النص المترجم سلبيات.
كذلك الفترة الزمنية التي كتب فيها النص الأصلي لها تأثير في عملية الترجمة؛ نظرًا لاختلاف الألفاظ من زمن لآخر في ذات اللغة، فعلى سبيل المثال نجد أن اللغة الإنجليزية القديمة تميل في بعض مفرداتها إلى اللغة اللاتينية. والحديثة والمعاصرة نراها تتجدد بشكل يومي ومستمر تتطلب من الباحث أن يكون متابعًا جيدًا لمستجدات اللغة وما يطرأ عليها من تغييرات تتعلق بالظروف التاريخية والتقنية التي تفرز واقعًا جديدًا يؤثر على سقف اللغة بالطبع.
إن عمل المترجم يستدعي معرفته بأنماط الترجمة الأخرى حتى ولو قام بالتخصص في إحداها، ومن هنا تأتي أهمية المنهج الذي يتبعه المترجم حسب نوع النص الذي يقوم بترجمته، والشاهد هنا أهمية الاطلاع على النصوص المشابهة المُترجمة وملاحظة التناصات وسمات المكافئ اللغوي، وكيف تتم ترجمتها، بالإضافة إلى شكل وقالب النص بعد ترجمته فيما يستمده من خصائص اللغة الهدف.
اقرأ أيضا: طه حسين في مرآة الاستشراق الروسي
وكذلك نرى أن الموسوعية فرض عين على المُترجِم، والبلاغة قبل اللغة مهمة حتى لا يظل النص كامنًا في طور جموديته مهما تميزت لغة النص من جفاف بياني وبلاغي، كما هو الحال في النصوص القانونية والعلمية. ونقول أيضًا أن الإيفيه والكليشيه والصورة البيانية هي أم النجاح عند نقل النص، وليس فقط إتقان اللغة المنقول منها كما يعتقد غالبية شباب الباحثين والمترجمين، الذين نقدر جهودهم، إلا أننا نرى نصوصهم المُنتجة مبتسرة ينقصها الكثير حين ترجمتها، وتفتقد روح وثقافة السياق والتناص حين موازنتها بموازين الإبداع إن اعتملت فقط بشروط النقل فقط دون إضافة البصمة الإبداعية والتعامل مع روح اللغة التي تحمل النص المنقول.
وفي النهاية نقول إن الترجمة فعل إنساني في المقام الأول، وهي خدمات تُسدي للبشرية مهما كانت أغراض الترجمة، وما يوجد من ناقل أو مترجم إلا ويواجه الصعوبات والإشكالات في بث الحياة من جديد في النص المنقول من أصله، وتقديمه إلى اختبارات الحياة مرة أخرى بعد أن أثبتت نجاحها وتفردها في أمة من الأمم.