“يتكون أرخبيل جزر البحرين من 33 جزيرة” – هذا ما تعلمناه على مقاعد الدراسة، نتغنى في حصص التاريخ والجغرافيا بتاريخ البحرين وتراثها و”موقعها الاستراتيجي الذي جعلها هدفًا لأطماع مختلف القوى الإقليمية والاستعمارية”، على وصف كتب مناهج التاريخ والجغرافيا.
زرت مؤخرًا، وللمرة الأولى، مبنى المسافرين الجديد لمطار البحرين الدولي، وبطبيعة الحال كان المبنى ضخمًا ومبهرًا ومصممًا على طراز حديث وعصري بالمقارنة مع مبنى المسافرين القديم المتواضع. لكن أكثر ما لفت انتباهي وأنا أتجول لاستكشاف مرافق المطار الجديد كانت لوحة تجسد موروث “فن الفجري” المنتشر في عددٍ من دول الخليج، والمعروف ارتباطه بالبحر ومهنة صيد اللؤلؤ، وبجانب اللوحة بطاقة تصف أهمية فن الفجري لدى ثقافة الإنسان البحريني لما يحمله هذا الفن من تراث مادي يجسد تاريخ علاقته القديمة مع البحر.
لم أتمكن من استيعاب التناقض الفاضح بين ما تعبر عنه اللوحة من معانٍ تراثية وثقافية وبين الواقع المادي والاجتماعي المحيط بها.
البحر.. أين؟!
من المثير للاستغراب أن اللوحة معروضة في مبنى شُيد على أرض مردومة قبل حوالي 30 عامًا، هذا المكان كان خليجًا واسعًا أعطى لجزيرة المحرق شكلها الجغرافي التاريخي المترسخ في أذهاننا بعد مشاهدة خريطة جزر البحرين مئات المرات في دروس التاريخ والجغرافيا وعلى جدران أروقة المدارس.
أما اليوم، فخارطة البحرين ليست تلك الخارطة التي ترسخت في ذاكرتنا.
البحر هنا بين أكوام الرمال والدفان
إن مقارنة سريعة بين بعض الخرائط التي تعود إلى ستينيات القرن الماضي مع تصوير الأقمار الاصطناعية الحالي تكشف لنا تضخم مساحة جزر البحرين من 620 كم مربعًا في العام 1965 إلى 780 كم مربعًا في العام 2020، (أي تضخمت مساحتها حوالي 25%). وأصبح الخليج الفاصل بين غرب المحرق وشرقها المسمى بـ “دوحة عراد“، عبارة عن منتزه صغير (بالاسم التاريخي ذاته) تتوسطه بحيرة صغيرة تتصل بالبحر عبر قناة مائية لا يتعدى طولها إلا بضع مترات.
ما حصل بدوحة عراد مثال واحد على ما يحصل لسواحل جزر البحرين من تجريف لرمال البحر وردمه لتشييد المزيد والمزيد من المشاريع العقارية الاستثمارية والجزر الصناعية والسياحية وخصخصة الأراضي الساحلية الجديدة المردومة لصالح المتنفذين و”المستثمرين” من داخل البحرين وخارجها.
اقتلاع الجذور
البحر في البحرين لا يمثل متنفسًا اجتماعيًا وترفيهيًا فحسب، وإنما يعبر عن حالة وجدانية تاريخية مرتبطة بتراث مادي وحضاري يربط بين شعب البحرين وعمقه العربي والإسلامي. وعلى الرغم من أن البحر قد سبّب للإنسان البحريني الكثير من الشقاء والألم، إلا أنه لن يكون مستعدًا للتضحية به لاتصاله الوثيق به وبما منحه له من غذاء واتصال روحي وثقافي، ولعل استخدام الحصى البحري كمواد لتعمير المساكن والمدن، حتى فترة قريبة، مثال حي على ما قدمه البحر لبناء الإنسان.
الاغتراب يتمثل هنا في اقتلاع جذور الإنسان ودفعه للعيش بين المتناقضات الدائمة – كالعيش في أرخبيل جزر خالٍ من السواحل العامة – تحوله من إنسان قادر على التأثير في محيطه ويؤثر محيطه فيه إلى إنسان مغترب في وطنه.
البحر في البحرين لا يمثل متنفسًا اجتماعيًا وترفيهيًا فحسب، وإنما يعبر عن حالة وجدانية تاريخية مرتبطة بتراث مادي وحضاري يربط بين شعب البحرين وعمقه العربي والإسلامي.
البحر يصبح فكرة تسويقية
في العام 2007، تم الانتهاء من بناء مشروع «مرفأ البحرين المالي» ليكون الواجهة الجديدة للعاصمة المنامة، وهو مجمع تجاري مكون من عمارتين مغطاتين بالزجاج بتصميم يحاكي “تراث البحر” عبر تشكيلهما على هيئة شراعي سفينة، يعد اليوم من أهم معالم البحرين يظهر في جميع منشورات السياحية والصور والأفلام.
قصة هذا “المرفأ المالي” تلخص لنا قصة البحر في البحرين. فلتشييده تم إزاحة مرفأ السفن الأصلي المطل على الواجهة البحرية الرئيسة للعاصمة ليحل محله هذا المشروع الجديد الذي سوق كـ “مركز الأعمال الأول في البحرين”.
من المفارقة أن يسوّق لمثل هذا المشروع على أساس تجسيده لتراث وتاريخ البحرين عبر تصميمه المعماري المحاكي لأشرعة السفن وتسميته بـ “مرفأ”، وتزين أروقته الداخلية بصور ولوحات للبحر ومهنة صيد اللؤلؤ، وهو مشروع استثماري يستبدل مرفأ السفن الأصلي، والذي هو أجدر بالتعبير عن التراث.
في الواقع، المرفأ عقار يحوي مكاتب للمصارف العالمية والإقليمية وشركات التأمين والوزارات الحكومية ومقرًا للبورصة. هذا وقد تم استنساخ التجربة في بناء “مركز البحرين التجاري العالمي” المصمم بشكل يحاكي أشرعة السفن ومغطى بالزجاج الأزرق.
من المفارقة أن يسوّق لمشروع «مرفأ البحرين المالي» على أساس تجسيده لتراث وتاريخ البحرين بتصميم محاكي لأشرعة السفن، وهو مشروع استثماري يستبدل مرفأ السفن الأصلي، والذي هو أجدر بالتعبير عن التراث.
وقد عمدت حملات التسويق لإنجاح هذه المشاريع الضخمة إلى تلاقح الماضي والتراث مع الحاضر والمستقبل المتمثل في الفرص الاستثمارية والنمو الاقتصادي، وبالتالي يتحول البحر إلى فكرة رمزية يستعان بها لإنجاح مشروع استثماري وجذب المستثمرين، وبات فكرة تختزل في البرامج التلفزيونية التراثية واللوحات الفنية والفعاليات الثقافية الرسمية والنصب التذكارية وأسماء الشوارع العامة.
ولكن هل نجحت الفكرة؟ هل يشعر الإنسان البحريني أن هذه الاستثمارات كفيلة بأن تغنيه عن تراثه؟
التحولات المادية في الأرض والعمران والبشر، من سنة الحياة، ولكل عصر متطلباته واحتياجاته، إلا أن عملية التعمير و”التنمية”، في دول تطبق نموذجًا متقدمًا للنيوليبرالية مثل البحرين، تسير وفق احتياجات رأس المال، وليس احتياجات البشر، أو بالأدق، تسير وفق احتياجات الطبقة الحاكمة لتسريع مراكمتها للمال والسلطة. وهنا تصبح المشاريع النيوليبرالية وسيلة لإعادة هندسة المجتمع وتوجيه تفكيره والتحكم بخياراته.
عمدت حملات التسويق لإنجاح المشاريع العقارية إلى تلاقح الماضي مع الحاضر المتمثل في الفرص الاستثمارية والنمو الاقتصادي، وبالتالي يتحول البحر إلى فكرة رمزية يستعان بها لإنجاح مشروع استثماري، وبات فكرة تختزل في المسلسلات التراثية والنصب التذكارية.
الأرض والاستبداد والخصخصة
“أفكار الطبقة الحاكمة هي، في أي عصر، الأفكار السائدة في المجتمع”.
النيوليبرالية مشروع سياسي يحمل إيديولوجيا وأهداف محددة تخدم مصالح الطبقة الحاكمة، وإن قدم نفسه كمشروع غير سياسي وغير مؤدلج يحقق التنمية للجميع ويدعم مسار التطور الديمقراطي.
وأيا كان البلد الذي يطبق فيه، هو مشروع استبداد يدفع الطبقة الحاكمة لترى في نفسها دور المهندس الذي يحق له هدم وإعادة رسم وبناء وتغيير كل ما يراه أمامه من البيئة إلى الإنسان، متسترة بثوب مبادئ الحرية وتسويق روافد التنمية، إلا أن ميدان الأفكار دائمًا ما يشهد صراعًا لا سيما في وقت الأزمات.
كان اعتصام المتظاهرين في أعقاب الانتفاضة الشعبية في العام 2011 أمام «مرفأ البحرين المالي» شهادة حية على أن هذا المبنى وما يمثله هو سبب معاناتهم، ليوجهوا أصابع الاتهام نحو السياسة الممنهجة التي تسعى لإفقارهم وقمعهم.
وكان اعتصام المتظاهرين في أعقاب الانتفاضة الشعبية في العام 2011 أمام «مرفأ البحرين المالي» شهادة حية على أن هذا المبنى وما يمثله هو سبب معاناتهم، ليوجهوا أصابع الاتهام، وبشكل دقيق، نحو السياسة الممنهجة التي تسعى لإفقارهم وقمعهم.
لا بد من النظر إلى أبعاد هذه الخطوة التي لم تكن تعبيرًا عن الرفض لشخص رئيس الوزراء السابق خليفة بن سلمان آل خليفة فحسب (الذي اشترى المشروع بقيمة دينار بحريني واحد)، بقدر ما كانت تعبيرًا عن رفض الخضوع لعملية اقتلاع الجذور وتهميش كل ما هو “محلي” من لغة وتراث وبشر، مقابل تحويل البلاد إلى مدينة ملاهٍ لرأس المال العالمي (والخليجي على وجه الخصوص).
الباحث البريطاني ديفيد هارفي يصف ظاهرة ردم البحار بـ “إنتاج المساحات من أجل رأس المال” أي أن الرأسمالية دائمًا بحاجة للبحث عن مساحات وأسواق جديدة لمواصلة النمو الاقتصادي التراكمي، وحينما لا تكون هناك أسواق جديدة لاستثمار فائض رأس المال فيها، يتم “إنتاج” مساحات جديدة خصيصًا لهذا الهدف.
وعليه، فقد وفرت سواحل جزر البحرين للمستثمر الخليجي والبحريني فرصة ذهبية، وخططت الطبقة الحاكمة لاستغلالها عبر بيع الأراضي الساحلية والبحار إلى القطاع الخاص وبأسعار رخيصة، على أن يتم تطويرها إلى مشاريع عقارية استثمارية تدرّ عليهم الأموال. وفي البحرين كما في الخليج، يتم نقل ملكية الأراضي العامة من ملاكها الفعليين «القيادة الرشيدة» إلى «القيادة الرشيدة» أو من ينوب عنهم، لكن هنا بصفتهم مستثمرين.
البحر للأغنياء فقط
كان مشروع “تطوير” ساحل بلاج الجزائر وتحويله إلى مشروع تجاري، تحت إدارة شركة «إدامة» المملوكة لصندوق الثروة السيادي لحكومة البحرين «ممتلكات»، ضربة جديدة لحق الناس في المساحات العامة، حيث تم اشتراط الحجز المسبق عبر تطبيق إلكتروني وشراء قسيمة دخول لاستخدام مرافق الساحل، ومن المخطط أن تشمل المرحلة الثانية للمشروع تشييد فنادق فاخرة أيضًا. لم يكن الزائر بحاجة لتذكرة دخول للساحل الأكبر على مستوى البحرين قبل ذلك، فقد كان مساحة عامة مفتوحة للجميع.
شهدت وقتها وسائل التواصل الاجتماعي جدلًا حول قرار خصخصة الساحل وفرض رسوم على الزوار بين رافض للقرار ومبرر له، انطلاقًا من فكرة أن فرض الرسوم سيساهم في تحسين الخدمات ويمنع “سوء الاستخدام” الذي شهده الساحل سابقًا. النيوليبرالية لا تعتمد دائمًا على توجيه الجمهور إعلاميًا، وإنما تتبلور وتنتشر الأفكار في أوساط المجتمع من خلال تشييد المشاريع العقارية البراقة وتقديمها كواجهات ونماذج لمحاسن نموذجها الاقتصادي السياسي.
وفي السياق نفسه، تم إزالة الكبائن البحارة والصيادين من على ساحل المحرق في العام 2016 لإفساح المجال لـ “تطوير” الساحل وبناء عمارات سكنية تجارية ومرافق سياحية. ولتبرير موقفها وتجييش الرأي العام لصالحها، قامت الجهات الحكومية بتوظيف الخطاب العنصري الطبقي بوصف الكبائن بـ “العشوائيات”، واتهام أصحابها البحارة بالقيام بـ “ممارسات غير أخلاقية”، وهو ذاته الخطاب العنصري الطبقي الموظف حول العالم.
من غايات الخطاب العنصري تحريف المفاهيم والحقائق بحيث يصبح ردم البحار وجرف رمالها والقضاء على مصائد الأسماك وتشييد العمارات الاستثمارية على أنقاضها هو حماية للبيئة وتحقيقًا لرفاهية المجتمع، بينما من يريد كسب رزق متواضع من عرق جبينه بممارسة مهنة أجداده أو قضاء يوم ممتع مع عائلته في الهواء الطلق هو تدمير للبيئة وتعطيل للتنمية.
في البحرين وصل تحريف الأفكار إلى أن أصبح ردم البحر وتشييد العمارات الاستثمارية على أنقاض مصائد الاسماك هو حماية للبيئة وتحقيقًا لرفاهية المجتمع بينما من أراد كسب رزق متواضع بممارسة مهنة أجداده أو قضاء يوم مع عائلته على الساحل هو تدمير للبيئة وتعطيل للتنمية
وتتحول على إثرها ثقافة البحر إلى ثقافة استهلاكية تستهدف الشرائح الثرية من المجتمع والسياح الأجانب، حتى باتت السواحل المسجلة للاستعمال العام تمثل فقط 6% من إجمالي المساحة الساحلية للبحرين (اعتمدت مواطن في تحديد المساحة الحالية على صور الأقمار الصناعية التي تقدمها مجانًا خرائط جوجل). فالسواحل الخاصة والقصور والمنتجعات الحديثة التي توفر مختلف أنواع الأنشطة البحرية وسبل الترفيه هي السائدة على طول خارطة البحرين، وما بقي من السواحل العامة اليوم هي في الأساس الأراضي المدفونة لصالح المشاريع الاستثمارية التي لم يتم “تطويرها” بعد.
ما تبينه السياسات الحكومية وخطابها هو أن الساحل ليس للفقراء والفئات الشعبية، لأنهم يسيئون استخدامه ويلوثونه ويمارسون الرياضات الشعبية وصيد الأسماك بطريقة “غير حضارية”. فالسواحل البحرية في نظر الطبقة الحاكمة يجب أن تستغل اقتصاديًا وتكون مساحة للأنشطة الاستهلاكية وجني المال وممارسة الأنشطة البحرية العصرية وباهظة الثمن التي لا يتقنها ويحسن استخدامها إلا الأثرياء.
ماذا عن مستقبلها؟
من يطلع على تصوير الأقمار الاصطناعية قد يصاب بالصدمة ويشكك في ذاكرته – كيف كان شكل البحرين قبل ردم البحار؟ يجيب على هذا السؤال مشروع «خرائط البحرين» – وهو موقع تفاعلي يمكّن المستخدم من مقارنة الخرائط التاريخية مع تصوير الأقمار الاصطناعية ليبين الحدود القديمة ومواقع ردم البحار وانحسار الحزام الأخضر.
مع ذلك، «بحريننا» التي نراها في تلك الخرائط لا تعدو أكثر من كونها فكرة مزروعة في ذاكرتنا الشعبية. ماذا عن مستقبلها؟ أي بحرين نريدها لأولادنا؟ تلك التي تلتحم مع ماضيها وجغرافيتها وبيئتها وناسها؟ أم البحرين التي تصارع طبيعتها وناسها من أجل تقدم حضاري مزعوم؟