لما كانت بلاد الصين وإقليم شرق آسيا قد عرفت ظهور الثمار المبكرة للحضارة الإنسانية منذ فترة موغلة في القدم، فقد كان من الطبيعي –والحال كذلك- أن تشهد ميلاد بعض الأديان التقليدية، تلك التي تناغمت مع الطبيعة الحضارية- الزراعية لتلك المجتمعات، وعكست وجهة نظر شعوبها في الكون والموجودات. ومن أهم الأديان التقليدية التي ظهرت في تلك الأصقاع البعيدة، كل من تعاليم الكونفوشيوسية التي عرفتها الصين، وطقوس الشنتو التي احتضنتها جزر الأرخبيل الياباني، وعلى الرغم من مرور عشرات القرون على ظهور تلك الأديان، إلا أنها لا تزال حاضرة في العديد من مظاهر الحياة الدينية والفكرية عند شعوب شرق آسيا.
كونفوشيوس: الحكيم الصيني الأشهر
في القرن السادس قبل الميلاد، عاش الحكيم الصيني كونفوشيوس، الذي تنسب إليه تعاليم الكونفوشيوسية، ذات الحضور القوي والمؤثر في الصين عبر القرون.
الاسم الحقيقي له هو كونغ فو تزو، أما تسمية كونفوشيوس فهي التسمية الأكثر شيوعًا، والتي عُرف بها هذا الحكيم في الترجمة اللاتينية، بحسب ما يذكر الباحث السوري فراس السواح في كتابه “موسوعة تاريخ الأديان“، فإن نسب هذا الحكيم كان يعود إلى طبقة النبلاء، ولكن الفقر حل بأسرته في صغره، ورغم أن والده قد توفي في السنة الثالثة من عمره، فإن كونفوشيوس قد تمكن من تحصيل تعليم عالٍ، وبدأ يجتذب التلاميذ والطلبة إليه في عشرينياته، وكان يعمل في وظيفة كاتب يحصي مقادير الحبوب المقدمة كقرابين دينية، ولما سادت الفوضى في موطنه الأصلي في ولاية سونغ، انتقل من مكان لآخر وارتقى في السلم الوظيفي، إذ عُين في وظيفة قاضٍ، كما اختير بعدها ليصبح وزيرًا للأشغال، ووزيرًا للعدل.
وبعد حياة طويلة، تقدر بالثلاثة وسبعين عامًا، توفى الحكيم الصيني الأشهر، بعد أن خلف عددًا كبيرًا من الكتب التي تُنسب إليه، ومن أهمها: التحولات، والمزامير، والتاريخ، والموسيقى. وتؤكد الدراسات الحديثية أن الكثير من تلك الكتابات قد دونت في مرحلة تاريخية أعقبت وفاة كونفوشيوس.
ما هي الكونفوشيوسية؟
تعرف الكونفوشيوسية على كونها مجموعة من العقائد والأفكار التي تهتم -بالمقام الأول- بتحقيق الرقي الاجتماعي والأخلاقي، وذلك من خلال الالتزام بالأخلاق الشخصية الإيجابية، ويتحدث عالم الأديان الروماني ميرسيا إلياد في كتابه “تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية“، عن الظروف التاريخية التي عاش فيها كونفوشيوس، وكيف أثرت كثيرًا في إنتاج أفكاره الأخلاقية، فيقول إن الحكيم الصيني كان يعيش في مرحلة تاريخية غارقة في الفوضى والظلم، وكان يتألم من فرط ما يشعر به من التعاسة والشقاء، وبالتالي فقد أدرك أن الحل الوحيد للمجتمع يتمثل في الإصلاح الجذري للحكم، من خلال تربية وتعليم جيل من الموظفين المتنورين، ولذلك نراه وقد أولى اهتمامه الأكبر بقضية التعليم، وتمكن من بث أفكاره الإصلاحية في العشرات من التلاميذ النابهين، والذين تمكنوا بدورهم من نقلها إلى الأجيال الجديدة، وهكذا، حتى اتخذ ملوك أسرة الهان في القرن الثالث قبل الميلاد قرارهم باعتماد الكونفوشيوسية كمذهب رسمي للدولة، ومن ثم عرفت أفكار كونفوشيوس طريقها إلى التنفيذ والتأثير على نطاق واسع.
فيما يخص الدين، فقد حافظ كونفوشيوس على المعتقد الصيني الشعبي الذي يذهب إلى ألوهة السماء “تين“، واعتبرها الحضور الروحي والمصدر الأول والقوة الأخلاقية العظمى، وصرح بلزوم إتمام الأضحيات والطقوس التقليدية، لأنها تشكل جزءً من الحياة للإنسان الشريف، كما قال ذات مرة إنه قد تلقى أمر التكليف بالدعوة من السماء وهو في سن الخمسين من عمره. رغم ذلك نجده لم يهتم بالعالم الغيبي، ولم يعط وجهات نظر صريحة فيما يخص الماورائيات، ولما سُئل ذات يوم عن الأرواح، أجاب قائلًا “إذا لم يستطع المرء خدمة البشر فكيف له أن يخدم الأرواح؟“، أيضًا أجاب بالطريقة نفسها على سؤال عن الموت، إذ قال “إذا لم تستطع معرفة الحياة، فكيف تستطيع معرفة الموت“؟
تمحورت مجهودات كونفوشيوس الرئيسة حول الإنسان، وكيفية ارتقائه بنفسه، فعلى سبيل المثال، أعلن الحكيم الصيني بوضوح أن الإنسان المتسامي هو الإنسان الحكيم، والمحب، والشجاع، والذي يقف في خشوع في حضرة السماء ويستوعب مشيئتها، كما أكد مرارًا على ضرورة ابتعاد الإنسان عن شهواته، ووجوب اتباعه للسبل القويمة، وفرق بين الإنسان المتسامي والإنسان الغرائزي، فالأول يوجهه البر، ويتطور في اتجاه تصاعدي، أما الثاني فتوجهه المنفعة المادية، ويتطور في اتجاه تنازلي.
كونفوشيوس تحدث كثيرًا عن فضيلة الـ”جن“، والتي تعني الإحسان، وتدل على المروءة والإنسانية، وطاعة الآباء، وكل ما يجعل الإنسان كائنًا أخلاقيًا، وعندما سأله أحد تلاميذه عن التعريف الدقيق لتلك الفضيلة، فأجاب: “أن تكون المتحكم بنفسك، وأن تستهدي بأصول آداب السلوك، هذه هي المروءة، بينما ينشد إنسان الـ”جن” بناء شخصيته، فإنه ينشد في نفس الوقت بناء شخصيات الآخرين، وبينما يلتمس أن يكون عالي الشأن وناجحًا فإنه يتمنى أن يكون الآخرون رفيعي الشأن وناجحين“.
وشغل منصب الحاكم مكانةً مهمة في فلسفة كونفوشيوس الأخلاقية، إذ ركز الحكيم الصيني على دور الحاكم والمسؤولية الكبيرة المُلقاة على عاتقه ليضمن الحفاظ على النظام المجتمعي، وأعلن أن الحاكم يجب أن يكون مقتصدًا في الإنفاق، وأن يكون محبًا لرعيته، وأن يعمل جاهدًا لتحسين مستواهم المعيشي، كما يجب عليه أن يوفر لهم التعليم الجيد. وفي السياق نفس، أكد الحكيم الصيني على أن النبالة والامتياز ليسا فطريين، وأنهما ليسا مرهونين بالأصول الاجتماعية فحسب، بل إنهما مرتبطان بالتربية، “فالإنسان النبيل يصبح نبيلًا بالتأديب وببعض المؤهلات الطبيعية“، كما أشار كونفوشيوس إلى أن أكبر المشكلات التي تواجه الدولة، هي تلك الناجمة عن تزايد السخط والاستياء، ومن هنا –وبناء على كل ما سبق من آراء سياسية- فإن الكثير من الباحثين يعتقدون أن أفكار كونفوشيوس قد سبقت عصره، وأنها قد مثلت تحولًا ثوريًا في عصر كان السادة الإقطاعيون يملكون فيه الأرض والناس معًا.
وسرعان ما تعرضت أفكار كونفوشيوس للزيادة على يد الأجيال التي أعقبته، ومن ذلك الإضافات التي قام بها حفيده، تزو تسو، في القرن الخامس قبل الميلاد، عندما دون كتاب “عقيدة التوسط“، والذي أسهب فيه الحديث عن الماورائيات والأرواح، للدرجة التي أصبحت فيه الكونفوشيوسية بعد هذا النص “دينًا، وميتافيزيقيا، وفلسفة أخلاقية واجتماعية”، بحسب السواح في كتابه سابق الذكر.
هذا التطور الذي لحق بالكونفوشيوسية، تزامن مع ظهور مجموعة من النصوص المنحولة المنسوبة إلى كونفوشيوس في القرن الأول قبل الميلاد، وقد احتوت تلك النصوص على معجزات وتعاويذ وتمائم وتنبؤات، وتم تصوير كونفوشيوس في تلك النصوص ككائن إلهي يقوم بفعل الكثير من المعجزات والأمور الخارقة للعادة، من ذلك، القصة التي تحكي عن ميلاد الحكيم الصيني، فتذكر أنه عندما خرج للحياة كان يوجد في فمه قطعة من حجر كريم، وأنه قد نُقش عليها أنه الملك غير المتوج، والذي تم تعيينه بأمر من السماء.
لم يقتصر هذا التطور على القصص الإعجازية فحسب، بل أثر كذلك في النظرة إلى كونفوشيوس ذاته، إذ أحيط قبره بالاهتمام والتبجيل والرعاية، وصار من المعتاد أن يذهب الأباطرة لزيارته وتقديم القرابين والهدايا والنذور إليه، كما لُقب بالعديد من الألقاب التشريفية المهيبة، ومنها: الجليل والحكيم، والمكتمل الصفات، وحكيم الأزمنة الغابرة. وفي السياق نفسه، تم ترقية أحفاده إلى مرتبة الأشراف، وحظوا بعناية ورعاية الدولة.
تأثرت عبادة كونفوشيوس كثيرًا بانتشار البوذية في الصين، ففي الوقت الذي بنى فيه البوذيون معابدهم وصنعوا التماثيل الضخمة لبوذا، قام الصينيون بتقليدهم، فأقاموا المعابد الضخمة لحكيمهم وحفروا صورته على التماثيل، وبلغ هذا الأمر مداه في عام 630م على يد الإمبراطور تاي تسونغ، عندما أصدر مرسومًا يلزم فيه كل ولاية في الصين بأن تشيد معبدًا رسميًا لكونفوشيوس. وبناء على ما سبق، يمكن أن نتفق مع ميرسيا إلياد عندما يقول “بصريح العبارة، إن كونفوشيوس ليس رئيسًا دينيًا… ولكن بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أثر كونفوشيوس بعمق على الديانة الصينية“.
الشنتو: الكامي التي تسري في جميع الكائنات
إذا كانت الكونفوشيوسية هي المنظومة الفكرية الأكثر تأثيرًا في الفكر الديني الصيني عبر تاريخه، فإننا نجد –وعلى الجهة المقابلة- أن الشنتو هو الدين الأكثر انتشارًا في جزر الأرخبيل الياباني على مر القرون.
يُعرف الشنتو بأنه الدين التقليدي لليابانيين، وهو يرجع إلى أصول مغرقة في القدم، وعلى العكس من الأديان الصينية كالتاوية والكونفوشيوسية اللذان نعرف مؤسسيهما، فإننا لا نعرف مؤسسًا محددًا للشنتو. بحسب ما يذكر فراس السواح في كتابه، فإن اليابانيين القدماء قد سموا دينهم بالشنتو، نسبةً إلى الكلمة الصينية تاو، فالشنتو مكونة من مقطعين، وهما شن تاو، بما يعني الطريق الأقدس.
أهم المفاهيم المركزية الموجودة في الشنتو، هو مفهوم “الكامي”، وهو مفهوم غامض إلى حد بعيد، وقد حاول بعض الكهنة تقريب معناه، فقالوا: “إنه كل ما يقع خارج المألوف، ويثير في النفس الروع والرهبة، لما يمتلكه من قوى غير عادية“.
بحسب تقاليد الشنتو، فإن الكامي لها أشكال متعددة، فمنها الكامي الخيرة التي تُقام لها الطقوس والصلوات، ومنها أيضًا الكامي الشريرة، تلك قد تجلب الأذى للإنسان، ولذلك فمن المُتعارف عليه أنه قبل الشروع في بناء بيت أو أي بناء آخر، فإن البنائين يحضرون كاهن شنتو ليمارس بعض الطقوس في مكان البناء، بهدف تهدئة الكامي المؤذية الموجودة في هذا المكان.
الخبرة الدينية عند الشنتو، لا تعتمد على نصوص أو قصص بعينها، بل تتوقف –بالمقام الأول- على التعامل الشخصي المباشر، وقديمًا كان يتم تأدية الطقوس في أحضان الطبيعة، ولا سيما تحت شجرة الساكاك المقدسة، وكان النساء هن اللاتي يقدن تلك الطقوس، أما الآن فتؤدى الطقوس في المقامات الدينية ذات الأشكال المعمارية المتنوعة، ويشرف عليها الكهنة الذكور.
من أهم الطقوس التي تؤكد عليها تعاليم الشنتو، تلك الطقوس الخاصة بالتطهير، والتي تنقسم إلى تطهير خارجي وتطهير داخلي. ومن طقوس النوع الأول، تجنب أكل الطعام غير المطبوخ على النار، وغمر كامل الجسد بماء البحر أو النهر، أما فيما يخص طقوس النوع الثاني، فأهمها الطقس الذي يقوم به كاهن الشنتو، عندما يمرر عصاه فوق المتعبد في إشارة رمزية إلى إحداث التطهير الداخلي من كل تلوث وخطيئة. من السمات المميزة أيضًا لطقوس الشنتو، تلك الاحتفالات الجماعية، والتي تمثل فيها الكامي في صورة رمز أو تمثال، وتُحمل في مقام، ثم يسير بها مجموعة من الفتيان في شتى أنحاء القرية، وسط جو من السعادة والابتهاج.
ينظر الياباني إلى الكامي، على كونها غير مرئية، شمولية، تتوزع –رغم وحدتها-في عدد كبير من الكائنات الماورائية التي تتراتب وفق تنظيم معين، ويتربع على قمتها الآلهة الشمسية أماتيراسو. في هذا البانثيون الإلهي الذي تترأسه الشمس، توجد مقاعد لكل من النجوم، والقمر، والرياح، والنار، والبرق، والأنهار، كما يوجد أيضًا بعض الرجال والنساء الذين قدموا خدمات جليلة للمجتمع، وبالطبع، يشغل الإمبراطور أحد المقاعد بوصفه حفيدًا لآلهة الشمس العظيمة.
بحسب عقائد الشنتو، فإن الكامي يتوزع أيضًا في البشر، ولذلك فهناك احترام كبير للإنسان، بصرف النظر عن عرقه وقوميته، وينظر للتاريخ الإنساني باعتباره مسيرة صاعدة في اتجاه تقدمي، ومن هنا فإن الاعتقاد التقليدي يذهب إلى أن الكون أزلي، وليس له نهاية، ولذلك فلا مكان لمفاهيم القيامة والبعث والنشور في المعتقدات الشنتوية.