لنؤكد أولًا على مسألة ذات وجهين متناقضين، وهي أن العرب أُعجبوا ببلاغة القرآن وإيقاعه المختلف عن لغة الخطابة والشعر العمودي، هذا ما نفهمه من قول الوليد بن المغيرة: “وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً، وَإِنَّ أَعْلاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلُهُ لَمُغْدِقٌ، وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَر”. ومع ما لهذا الإعجاب الظاهر، بمظهر القرآن؛ فإن النفور من تعاليمه الحضارية والأخلاقية ظل كامنًا حتى بعد اعتناقهم للإسلام، وظل التناقض قائمًا في الاهتمام بالقرآن رسمًا وصوتًا والإعراض عن جوهره الإيجابي عمليًا.
إن صحَّت مقولة الوليد، فلسانه معبرٌ عن حال الجماعة، وعبارته تتضمن إعجابًا بظاهر القرآن، لا بمحتواه، على الرغم من الجوهر الجميل في الآية التي قرأها عليه الرسول محمد: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[1].
إكراهات الجماعة ستدفع الوليد لتغيير موقفه بعد أن أتى إليه عمرو بن هشام (أبو الحَكَم) وقال له: “لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه”، أي أن تقول في القرآن كلامًا سيئًا يُرضي قومك، فطلب الوليد مهلة للتفكير ثم قال: “هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يَأْثُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ”، أي أن القرآن سحرٌ متأثرٌ بغيره. وقد اتخذ هذا التناقض من يومها أشكالًا أخرى، فالإعجاب في الظاهر سينفيه المسلمون عمليًا باتباع الجانب المقابل للعدل والإحسان، ليسود الظلم والفحشاء والمنكر والبغي في أغلب تاريخهم الاجتماعي والسياسي.
القرآن إذ يحث على التفكر وينهى عن اتباع دين الآباء دون تفكير إنما ينأى بذاته عن دائرة التقديس. وحين ينفي القرآن ذاته صوتًا أو شكلًا فهو يريد تثبيت حضوره منهجًا. وهربًا من هذه الحقيقة يلجأ اللاوعي إلى ترتيل القرآن وتنغيمه واستظهاره، فيطغى الصوت على التفكير؛ كي يظل محافظًا على جذبه الصوتي.
خطورة الاستظهار
الاستظهار والتلقين، بما ينطويان عليه من تكرار وتشغيل للشفاه وانشغال الآذان، يصيبان الملكة النقدية بالضمور؛ فيتوقف الإبداع ويُكرَّس الخضوع والاتباع. وعلى ذلك يُعد استظهار القرآن هروبًا من العقل، أو هروبًا من الجوهر إلى المظهر. ويبقى الفارق بين المسلم المعاصر والمنافق، أو بين إسلام أبي سفيان، المشهور بالنفاق، ومسلمي اليوم، فرقًا في الدرجة، إذا أخذنا في الاعتبار أن الأهم هو العمل بجوهر القرآن العقلي لا بمظهره النقلي.
ثمة شواهد في القرآن تنهى عن حفظه غيبًا، منها عدم وجود آية تحث على ذلك، في الوقت الذي نجد فيه آيات تحث على تدَبُّرِه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[2]. والتدبر يقتضي التأمل والتفكير والمقارنة والاستنتاج.. إلخ، وهذه عمليات عقلية تصاب بالضمور نتيجة الاستظهار والتلقين والتركيز على اللفظ. وآيات تحث على ترتيل القرآن: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[3]. والمقصود بالترتيل القراءة بتمهل، ليس من أجل بيان الحروف ومواضع الوقوف كما ذهب المفسرون، بل ليتسنى للقارئ دراسة النص أثناء القراءة، وهذا متضمنٌ في اسم “القرآن” وفي فعل “اقرأ” وما يقتضيانه من جهد عقلي.
القرآن نفسه يبين أن سبب صدوره مفرقًا كان من أجل القراءة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}[4]. ولو أن الهدف منه هو الحفظ/ الاستظهار لكان صدر دفعة واحدة وليس في زمن قدره أكثر من عشرين عامًا. {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا}[5].
لم يربط القرآن قراءته بالحفظ عن ظهر قلب، ولكن بأمور أخرى منها: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[6]؛ حتى لا يلهيك الشيطان عن دراسة النص لا عن استظهاره. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}[7]. والاتباع لا يحتاج إلى حفظ، بل لاتباع المضمون، ولذلك أمر جبريل محمدًا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[8]، ولم يقل: “احفظ”؛ لأن الله قد تكفل بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[9]، “مِن أن يُزاد فيه أو يُنْقَص منه، أو يضيع منه شيء” (). وما هو حاصلٌ اليوم شاهد على أن المسلمين يحفظون الشكل ويضيعون المضمون.
الحفظ والكتابة، الصوت والصورة
حفظ القرآن، في الصدور اليوم، له علاقة بمقت قديم للكتابة واصلَ حضورهُ عبر تفضيل السماع على القراءة من مصحف. والأقوال في ذلك كثيرة، منها قول سفيان الثوري: “ما استودعت قلبي شيئًا قط فخانني”. وقوله: “بئس مستودع القراطيس“.
وقول الأوزاعي: “كان هذا العلم شيئًا شريفًا، إذ كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه، فلما صار إلى الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله“. ورُوي عن أبي نضرة قال: “قيل لأبي سعيد: لو اكتتبنا الحديث. فقال: لا نكتبكم، خذوا عنا كما أخذنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم“، أي حفظًا عن ظهر قلب لا كتابةً. إتلاف ما كُتب من حديث الرسول لم يكن لكراهة تدوين الحديث؛ بل كراهةً للكتابة وحبًا في الشفاهية. عن أبي بردة قال:
“كان أبو موسى يحدثنا فقمنا لنكتبها. فقال: أتكتبون ما سمعتم مني؟ قلنا: نعم. قال: فجيئوني به، فدعا بماء فغسله، وقال: احفظوا عنا كما حفظنا” (). وعن ابن عباس قال: “إنا لا نَكتُبُ العلم ولا نُكتِبُهُ”، أي عليكم أن تأخذوا العلم منا سماعًا كما تلقيناه عمن سبقنا سماعًا. وهو القائل:
“إنما ظل من كان قبلكم بالكتب”. وقال أعرابي: “حرفٌ في تامورك خير من عشرة في كتبك“. والتامور هو الوعاء أو القلب. وفي هذا السياق أشار أبو عمر بن عبد البر إلى أن الحفظ مذهب العرب “لأنهم كانوا مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك”. أما الذين كرهوا الكتاب، كابن عباس والشعبي وابن شهاب والنخغي وقتادة ومن ذهب مذهبهم، فطُبعوا على الحفظ، فكان أحدهم يجتزئ بالسماع.
ما سبق من أقوال شاهدة على القدرة على الكتابة، لكنها لم تكن سائدة ولذلك قال الرسول: “نحن أُمة أُمية لا نكتب، ولا نحسب”، وهو نص لا ينفي الاستثناء بقدر ما يقرر قاعدة أُمية الأمة وقت ظهور الإسلام، “ولهذا رفعوا من شأن الحفظ ومجدوه حتى أصبح من أهم وسائل تحمل الرواية” (). وهذا ما ورثه مسلمو صدر الإسلام وبقي أثره قائمًا حتى يومنا في أشكال عديدة؛ منها استظهار القرآن واتباع أسلوب التلقين في المناهج الدراسية وانخفاض مستوى قراءة الكتب وإنتاجها بشكل عام.
أسباب الحفظ وشعرنة القرآن
حفظ القرآن غيبًا شاهد على الخوف من ضياع النص (المقدس). وهو خوف مبرر قديمًا، أما اليوم فلم يعد كذلك في ظل توفر وسائل حفظ حديثة، ومناهج تعليم استبعدت التلقين والحفظ. ونقل القرآن من صدور الرجال إلى المصاحف شاهدٌ على ضرورة التحول إلى وسيلة حفظ أجدى لم يُكتب لها النجاح.
ويرتبط حفظ القرآن في الصدور اليوم بنسق تربوي ثقافي يعتبر أن “ما لدى الأوائل أرقى من كل ما يمكن أن يفعله اللاحقون، وهذا معنى لا يتحقق تطبيقه إلا إذا أخذنا أنفسنا بجمع وتدوين وحفظ كل حِكَم الأوائل… وبذا صارت ملَكة (الحفظ) هي الملَكة الأهم تربويًا بما أنها الآلة التي تحقق للنسق الاستمرار والتعزز، ولقد رأينا شكوى أبي حيان التوحيدي من ضياع بلاغة التأويل، لأنها تعتمد على التدبر والاستنباط، وهذا لا يمشي مع دواعي النسق وشروط ديمومته، ولذا ظلت ملكة الحفظ هي المطلب التربوي“.
وقد أدت الحاجة إلى الحفظ إلى اختراع التجويد الذي يطغى على علم القراءة، فيحلَّ النطق الصحيح والاهتمام بمخارج الحروف ومواضع الحركات محل التدبر والتفكر، ويُقدَّم اللفظ وتُهمل الدلالات أو تحِلّ في مرتبة ثانوية.
نسق التجويد ذاته تأسس بدافع الرغبة في حفظ “اللفظ الأب” أو القراءة الصوتية الأولى، ولهذا دوافع نسقية “تربط بين (اللفظ) من جهة والأوائل من جهة ثانية، والذكورة من جهة ثالثة، والمعنى حينئذ سيكون قيمة أنثوية وثانويًا، بينما اللفظ هو الأشرف وسينتسب للأوائل، كما نفهم من كلام لابن جني يجعل الألفاظ للأوائل والمعاني للمتأخرين“.
وحين يُفصل اللفظ عن المعنى، أو يُفضّل الأول على الثاني، يُفرغ الخطاب القرآني من وظيفته العقلية ويُكتفى بالبلاغة اللفظية، التي هي قيمة شعرية. وبذلك تتم شعرنة القرآن من جهة الاحتفاء بإيقاعه، ومن جهة أخرى عند تحويله إلى قيمة شعرية انتقدها في الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون. وحالة اللافعالية هذه تساوي الاحتفاء بالمظهر على حساب الجوهر، أو كما قال الغذامي، في سياق الشعر:
“إن تفضيل اللفظ مرتبط بالأصل التكويني للشعر من حيث هو شفاهي، والشاعر رحال لا يقر في مكان ولا أرض. والشعر كائن بدوي، وهذا يقتضي الركون إلى السريع والإيقاعي مما هو صفات اللفظ… ثم أُصيبت الكتابة بعدوى النسقية، فاحتل اللفظ مكانه الثقافي الأعلى وصار نموذجًا تربويًا له حضوره الاجتماعي والسياسي والاقتصادي أيضًا”.
وللحفظ دلالة على نفاسة النص القرآني في نفوس حافظيه، واعتقادهم أن في عملية الحفظ خيرًا وزيادة حسنات ودليلًا على الإيمان. الأخطر أن النص المقدس تحوّل إلى حاجز حضاري منع تجاوزه إبداعًا فترة طويلة؛ فدلالة الحفظ هنا تقول: إن القرآن إبداعنا الوحيد ولا يمكن الإتيان بمثله، وهذا ظاهر في آيات التحدي الواردة في القرآن. {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[10].
قد نجد في هذا التحدي تحفيزًا يطالب بتجاوز الشكل الجديد- مثلما يبدو أن جوهره قد تضَمَّن تجاوُزًا لمظهره- لولا أن الآية التي تلي تصرح باستحالة ذلك: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[11]، و{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[12].
والرسالة المراد تبليغها أن القرآن كلام الله لا كلام محمد.
التحدي، كما أراه، لا يشير إلى المضامين (الأخلاقية والعقائدية والغيبية) المعروفة حينها، وإنما إلى صياغتها بقالب جديد. هذا التأكيد على الشكل يُظهر وجهًا آخر للقرآن يناقض به جوهره الإيجابي ويعيدنا إلى التناقض الذي قوبل به. وهي تناقضات أفرزها الصدام بين الطموح المثالي وإكراهات الواقع الاجتماعي، وهي مع ذلك على درجة كبيرة من الأهمية تؤكد على تاريخية القرآن التي يراد لها أن تكون سماوية، وعلى بشرية أفعال الرسول، التي يراد لها أن تكون معصومة، وعلى حياة المؤمنين التي يراد لها أن تكون لا تاريخية، ولولا ذلك لكانت هذه التناقضات إيجابية وتدل على حراك أو جدال مستمر بين الواقع ومنهج النص.
يتوهم المتحدي هنا عجز السامع عن مجاراته في ميدان برع فيه الخصم لغويًا ولا تنقصه البلاغة وحُسن النظم. والاستجابة للتحدي، برأيي، مستبعدة في حينها؛ نظرًا لحداثة التجربة الجديدة من جهة؛ ولأسلوب الترهيب الذي مارسته على الشعراء، مما أدى إلى تراجع حركة الشعر التقليدي فترة طويلة. وقد أسهم الحفظ في ذلك، في عملية تريد تثبيت الشكل والمضامين كي لا يتم تجاوزها إلى الأبد. وهو ما يتعارض مع منهج القرآن الذي بدأ عملية التغيير بنقد القديم ونهى عن الاتباع الأعمى وأكد على منهج الناسخ والمنسوخ الذي لا يُثَبِّت حكم الناسخ، ولا يلغي حكم المنسوخ، بقدر ما يبحث في آلية استنباط الأحكام وإنتاجها بتغيّر الظروف.
[1] . سورة النحل -الآية 90 / [2] . سورة محمد – الآية 24 / [3] . سورة المزمل – الآية 4 / [4] . سورة الفرقان الآية 32 / [5] سورة الإسراء الآية 106 / [6] . سورة النحل الآية 98 / [7] . سورة القيامة الآية 18 / [8] . سورة العلق الآية 1 / [9] . سورة الحجر الآية 9. / [10] . سورة البقرة – الآية 23 / [11] . سورة البقرة – الآية 24 / . [12] . سورة الإسراء – الآية 88.